[مقدمة المؤلف:]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الظاهر بآياته، الباطن بذاته، القريب برحمته، البعيد بعزته، الكريم بآلائه، العظيم بكبريائه. القادر فلا يمانع، والقاهر فلا ينازع، والعزيز فلا يضام، والمنيع فلا يرام، والمليك الذي له الأقضية والأحكام. الذي تفرد بالبقاء، وتوحد بالعز والسناء، واستأثر بأحاسن الأسماء، ودل على قدرته بخلق الأرض والسماء. كان ولا مكان ولا زمان، ولا بنيان ولا ملك ولا إنسان، فأوجد المعدوم إبداعا، وأنشأ «1» ما لم يكن إنشاء واختراعا، جل و«2» تعالى فيما خلق عن احتذاء صورة، واستدعاء مشورة «3»، واقتفاء رسم ومثال، وافتقار إلى نظر «4» قياس واستدلال، ففي كل ما أبدع وصنع، وفطر وقدر، دليل على أنه [2 أ] الواحد بلا شريك ووزير، والقادر بلا ظهير ونصير، والعالم بلا تبصير وتذكير، والحكيم بلا رؤية وتفكير، والحي الذي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شى ء قدير.
صفحه ۳
رفع السماء عبرة للنظار، وعلة للظلم والأنوار، وسببا للغيوث والأمطار، وحياة للمحول «5» والقفار، ومعاشا للوحوش والأطيار. ووضع الأرض مهادا للأبدان، وقرارا للحيوان، وفراشا للجنوب والمضاجع، وبساطا للمكاسب والمنافع، وذلولا لطلاب الرزق وأرباب البضائع. وأشخص الجبال أوتادا راسية، وأعلاما بادية، وعيونا جارية، وأرحاما لأجنة الأعلاق حاوية. وجعل البحار مغائض لفضول الأنهار، ومغائر «6» لسيول الأمطار، ومراكب لرفاق التجار، ومضارب لمصالح الأمصار، ومناجح الأوطار. تحوي من الدر والمرجان نباتا، وتنبع من الملح الأجاج عذبا فراتا، وتقذف للآكلين لحما طريا، وتحمل للابسين جواهر «1» وحليا.
واستخلف على عمارة عالمه «2» من انتخبهم من خلقه، وآثرهم بإلهامه، ودبرهم بأوامره وأحكامه. وكان أعلم بهم من ملائكته حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [2 ب] ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون «3».
وأقام عليهم مهيمنا من لدنه يهديهم الرشاد، ويحذرهم الفساد، ويرجيهم الثواب، وينذرهم العقاب. ولم يقتصر على ما أقامه به من الحجة، وأوضحه من المحجة، حتى انبعث الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بالمعجزات الباهرة، والدلالات الزاهرة، والبينات المتظاهرة، داعين إلى توحيده، ونادبين «4» لتسبيحه وتمجيده، فأزاح بهم العلة، وأزال الشبهة، وأفاد سكون النفس ، ونفى خلاج «5» الشكوك واللبس. ولم يزل يستخلف «6» من يشاء من خليقته موسومين بسنن الأنبياء، ومثل من قام بعدهم على مناهجهم من الولاة والأمراء، حتى انتهت نوبة الخلق إلى زمن النبي المصطفى، الأمين المجتبى، الأبطحي المرتضى، محمد صلى الله عليه وعلى آله، فأرسله بالحق بشيرا ونذيرا «7»، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا «8»، وجعل أمته به أفضل الأمم، وكلمتهم أعدل الكلم، وملتهم أوسط الملل، وقبلتهم أسد القبل، وسنتهم أقوم السنن، وكتابهم أشرف الكتب.
صفحه ۴
ووعدهم أن يكونوا يوم العدل، والقضاء الفصل، شهداء على من يظهر الجحود، وينكر الواحد [3 أ] المعبود. قال تعالى وهو أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا «1»، فنسخت بشريعته الشرائع، وبصنيعته الصنائع، وبدليله الأدلة، وببدره الأقمار والأهلة، وانتشرت نبوءته مسداة بالخلاص، ملحمة بالإخلاص، معلمة بالتمام، مطرزة بالدوام، على تعاقب الليالي والأيام، لم يفرط فيها من شى ء يقتضي تاما، ويستدعي رؤبة ولحاما «2»، قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا «3» فأطلق على الدين لفظ الكمال، لاستقامته على غاية الاعتدال، وانتفائه عن عوارض النقص والاختلال، إلى أن قبضه الله جل ذكره إليه مشكور السعي والأثر، ممدوح النصر والظفر، مرضي السمع والبصر، محمود العيان والخبر، فاستخلف في أمته الثقلين: كتاب الله وعترته «4» اللذين يحميان الأقدام أن تزل، والأحلام أن تضل، والقلوب أن تمرض، والشكوك أن تعترض، فمن تمسك بهما، فقد أمن من العثار، وربح اليسار، ومن صدف «5» عنهما فقد أساء الاختيار، وركب الخسار، وارتدف الإدبار [3 ب] أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين «6»، فصلى الله عليه وعلى آله ما انبلج عن الليل الصباح «7»، واقترن العز بأطراف الرماح، ونادى المنادي بحي على الفلاح، صلاة تكافى ء حسن بلائه، وتضاهي سابق غنائه، وتقضي فرض طاعته، وتقتضي فرض شفاعته، وسلم تسليما. وبعد:
صفحه ۵
فإن الملك والدين توأمان. فالدين أس، والملك حارس، وما لا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم. والسلطان ظل الله تعالى في أرضه «1»، وخليفته على خلقه، وأمينه على رعاية حقه. به تتم السياسة، وعليه تستقيم الخاصة والعامة، وبهيبته ترتفع الحوادث والفتن، وبإيالته «2» تنحسم المخاوف والمحن. ولولاه لا نحل النظام، وتساوى الخاص والعام، وشمل الهرج والمرج، وعم الاضطراب والهيج، واشرأبت النفوس إلى ما في طبائعها «3» من التباغي والتنابز «4»، والتفاضل والتمايز «5»، حتى يشغلهم ذلك عما يصلحهم معاشا ومعادا، ويقيم أودهم يوما وغدا، وإلى هذا المعنى يلتفت قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما يزع «6» السلطان، أكثر مما يزع القرآن»، إذ كان أكثر الناس [4 أ] يرون ظاهر السياسات فيردعهم خوف المعاقبة، وحذر «7» المؤاخذة عن تنكب الجدد «8»، والعدول عن السمت «9» والمقتصد. ومن لنا بمن يستقرى ء آي كتاب الله تعالى بفكره، ويتدبرها بعقله، ويجعل لنفسه منها زماما «10» يهديه إلى الأصلح، ويثنيه عن الأقبح، فيكون مؤدب نفسه ومقوم ذاته، ورائض أخلاقه وعاداته. ومعنى حديث عمر رضي الله عنه منتزع من قوله تعالى: لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون «1»، فموضوع السيف للعامة، ومجموع القرآن للخاصة، وإن كان الجميع في معانيه مشتركا، وبأوامره ونواهيه مرتبطا ومشتبكا، غير أن العامي يرى السيف فيرتدع، والخاصي يرى الحق فيتبع، وشتان ما بين مدبر ومسخر بغيره، ومؤدب ومهذب بنور ربه.
صفحه ۷
وقد كان يختلج في صدري معنى قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز «2»، لجمعه بين الكتاب والميزان والحديد على تنافر ظاهرها من المناسبة، وبعدها قبل الرؤية [4 ب] والاستنباط عن جواز المشاكلة والمجانسة، وسألت عنه عدة من أعيان العلماء المعروفين «3» بالتفسير، والمشهورين من بينهم بالتذكير، فلم أحصل منهم على جواب يزيح العلة، ويشفي الصدر وينقع الغلة «4»، حتى أعملت التفكر، وأنعمت «5» التدبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة «6»، ودستور الأحكام الدينية، يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، ويرتهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ورفض التباغي «7» والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، في اقتسام «8» الأرزاق المخرجة لهم بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما يصل منها إلى أهل الخطاب، بحسب الاستحقاق بالتكسب، دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع النصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة للعدل يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل، فألهمهم الله اتخاذ الآلة التي هي الميزان، فيما يأخذونه ويعطونه لئلا يتظالموا بمخالفته «1» فيتهالكوا به، إذ لم يكن ينتظم لهم عيش مع سوغ «2» ظلم البعض منهم للبعض «3».
ويدل على هذا المعنى قوله جل ذكره: والسماء رفعها ووضع الميزان [5 أ]. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان «4»، وذلك أنه تعالى جعل «5» السماء علة للأرزاق والأقوات، من أنواع الحبوب والنبات، فكان ما يخرج منها من أغذية العباد ومرافق حياتهم، مضطرا إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف، دون الجزاف «6»، ولم يكن يتم ذلك إلا بهذه الآية المذكورة، فنبه «7» الله على موضع «8» الفائدة فيه، والعائدة به، بتكرير ذكره ومعانيه «9»، فكان ما تقدم ذكره معنى الكتاب والميزان.
صفحه ۸
ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية، إنما يحفظ العام على اتباعهما، ويضطر العالم إلى التزام أحكامهما بالسيف الذي هو حجة الله تعالى على من جحد وعند، ونزع عن صفقة الجماعة اليد، وهو بارق سطوته، وشهاب نقمته، وجذوة عقابه، وعذبة عذابه «10»، فهذا السيف هو الحديد، الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب «11»، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادى ء «1» والمقاطع «2»، فظهر «3» بهذا التأويل معنى الآية، وبان أن السلطان خليفة الله في أرضه على خلقه، [5 ب] وأمينه على رعاية حقه، بما قلده من سيفه، ومكن له في أرضه، وأحق الولاة بأن يكون شريفا نبيها، وعند الله تعالى كريما وجيها، من كانت عنايته بنصرة الدين، وحماية بيضة الإسلام والمسلمين، أوفر وأوفى، ومجاهدته لأعداء الله المارقين عن شرائعه، الماردين دون حدوده وفرائضه، بنفسه وماله، ورهطه ورجاله أشرح للصدور وأشفى.
صفحه ۹
وقد علم أبناء البدو والحضر، وأنشاء المدر والوبر، من حيث مد الصبح جناحيه إلى أن ضمهما «4» للوقوع في أفق الغرب، أن راية الإسلام لم تظل على سلطان أحسن دينا، وأصدق يقينا، وأوسع علما، وأوقع حلما، وأسد سيرة، وأخلص سريرة، وأتم وفاء، وأعم سخاء، وأوفر حياء، وأغنى غناء، وأعظم قدرا، وأفخم ذكرا، وأمد باعا، وأشد امتناعا، وأجل جلالة، وأكمل عدة وآلة، وأرفع ملكا وسلطانا، وأطوع أنصارا وأعوانا، وأروع سيفا وسنانا، وأحمى للإسلام وذويه، وأنفى للشرك ومنتحليه، وأعدى للباطل ومن يليه، اكتسابا ووراثة وطباعا واستفادة، من الأمير السيد الملك المؤيد يمين الدولة وأمين الملة، أبي القاسم محمود «5» بن ناصر الدين «6» [6 أ] أبي منصور سبكتكين «7» ملك الشرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع «1» وما «2» يليه من ثالث الأقاليم «3» وخامسها «4» في حوزة ملكه، وحصول ممالكها الفسيحة، وولاياتها العريضة، في قبضة ملكه، ومصير أمرائها، وذوي الألقاب الملوكية من عظمائها، تحت حمايته وجبايته، واستدرائهم «5» من آفات الزمان بظل ولايته ورعايته، وإذعان ملوك الأرض على «6» بعدهم لعزته، وارتياعهم من فائض هيبته، واحتراسهم على تقاذف الديار، وتحاجز الأنجاد والأغوار «7»، من فاجى ء ركضته، واستخفاء «8» الهند والروم تحت جيوبها عند ذكره، واقشعرارهم لهب الرياح من أرضه.
وقد كان- أدام الله دولته- منذ لفظه المهد، وجفاه الرضاع، وانحلت من «9» لسانه عقدة الكلام، واستغنى عن الإشارة بالإفهام، مشغول اللسان بالذكر والقرآن، مشغوف النفس بالسيف والسنان، ممدود الهمة إلى معالي الأمور، معقود الأمنية بسياسة الجمهور.
لعبه مع الأتراب جد، وجده مستكد «10»، يألم لما لا يعلم حتى يقتله خبرا، ويحزن لما يحزن حتى يدمثه قسرا وقهرا.
صفحه ۱۰
وكان الأمير الماضي «1» - أنار الله برهانه- يرى الدنيا بعينه «2» [6 ب] ويسمع بأذنه، وينطق بلسانه، ويستحلي مذاق العيش به، ويستطيب روح الهواء بقربه، ويستفتح مغالق الأمور بيمنه، ويستحمد عواقب الخطوب باسمه. ولم يزل بين سحره ونحره، إلى أن استنزلته رؤية البلوغ، وبصيرة الإدراك عن حجره «3».
ولم ينفك يتدرج بين ألطافه وكراماته، وولاياته وإقطاعاته، من رتبة إلى أخرى أعلى منها مكانا وأرفع شأنا، إلى أن ولي قيادة الجيوش والعساكر بخراسان، وهي الرتبة التي طالما تناحر [عليها كباش] «4» الرجال، وقروم الأبطال، فلم يحظ بها إلا العدد اليسير الذين «5» سار ذكرهم في الآفاق، وتسامع بهم رجالات خراسان والعراق، سناء وقدرا، ودهاء ونكرا، ومهابة وحشمة، ونباهة ونعمة. هذا على طراءة «6» سنه، ونضارة غصنه، وعنفوان أمره، وريعان شبابه وعمره «7»، [كما قال الكميت] «8»:
صفحه ۱۱
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ... ولداته إذ «9» ذاك في أشغال قعدت بهم هماتهم وسمت به ... همم الملوك وسورة الأبطال «1»
صفحه ۱۲
وهلم جرا إلى أن ملك خراسان بأسرها وزاولستان «2» عن آخرها، [7 أ] وبلاد نيم روز «3» بحذافيرها، وجبال الغور «4» على حصانتها، ودوخ السند فاستباحها، وغزا الملتان «5» فاجتاحها، وتوغل الهند عودا على بدء «6»، فنكأ جراحها، وأذل لقاحها، وجاس مغانيها ورباعها، وافتتح صياصيها «1» وقلاعها. وأقام عن «2» بيوت الأصنام، مساجد الإسلام، وعن مشاهد البهتان، معاهد التوحيد والإيمان، فصارت الأبطال تهدد في بطالاتها «3» بإقدامه، وتفزع بإقبال ألويته وأعلامه، فظل «4» أندپالهم «5» وچيبالهم «6»، وكماتهم وأبطالهم، كما قال أشجع «7» السلمي «8»:
صفحه ۱۳
وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان «9» ضوء الصبح والإظلام فاذا تنبه رعته وإذا هدا «1» ... سلت عليه سيوفك الأحلام «2»
وحاز الله له من البسطة في الحلم والعلم، والهيبة بالاسم والجسم، والظفر بأحابيش «3» الأعداء في وقائع يعز صبر النفوس على أمثالها، وتكاد الأرض تمور من أهوالها، ما لم يسمع بمثله حيز لأحد من الملوك إلا عن أساطير الأولين، أريد بها [7 ب] التطويل والتهويل، والتعجيب والتغريب «4»، دون الحقيقة التي يشهد بها العيان، ويقوم عليها البيان والبرهان، فلو نشرت صحائف الدول الإسلامية، وأيام الملة الحنيفية، لكانت دولته غرة تلك الدول، ومساعيه فيها طراز تلك الحلل، إذ لم يقتن أحد من سلف الملوك من غرر «5» المآثر، وزهر المناقب والمفاخر، ما اقتناه هو بنفسه، وأبيه، وآثاره ومساعيه.
صفحه ۱۴
ولما حاز الله له كرائم الخصال، ووفاه طبع المكيال، في معاني الكمال: سياسة أزرت بأردشير «6» في «7» زمانه، والمنصور «8» في سلطانه، وهيبة خفتت لها جنادب «9» الليالي النائمة، وخمدت عليها عيون الأراقم «10» العارمة، وعدلا «11» ضم بين الضدين حتى النار إلى الماء، وألف بين الذئاب الطلس والشاء «1»، فكفيت الأنياب «2» شبا الأطراف «3»، والقرون صلابة الأجواف. وكانت أيامه مشغولة بمر «4» السياسة، عن ثمر الدراسة، وبفرض السيادة، عن نفل الاستفادة «5».
لطف الله له بأولاد كالنجوم الزواهر، بل الليوث الخوادر، [8 أ] بل السيوف البواتر، بل العقبان الكواسر، من لم ترمق الألحاظ أشخاصا توازيهم فخامة وجلالا، ووسامة وجمالا، وسعادة وإقبالا، وسماحة وإفضالا، وعلوما وآدابا، ولفظا وكتابا، وحفظا وحسابا، وأخلاقا مرة وعذابا «6». [نعم «7»، وصرامة ومضاء، وشجاعة وإباء، وسيادة وعلاء، ونجابة ورئاسة، وجلالة ونفاسة، وإيالة وسياسة، وأسامة وحراسة، وفروسية وفراسة] «8»، فجمع الله له تمام السعادة، وقصر عليه أدوات السيادة.
صفحه ۱۵
وقيض الشيخ الجليل شمس الكفاة أبا القاسم أحمد بن الحسن «9» لوزارته، وتدبير أمور مملكته، من ذخره الله لزمان صادف فترة من أحرار الرجال، وأبناء الفعال، فلم يطبع مثله على غراره، ولم يضبع «10» شرواه «11» في مضماره، سجاحة «12» شيم، ورجاحة كرم، وسماحة كف، وفصاحة قلم، وهمة «1» ترى الدنيا هباءة «2» بين أخواتها الثائرة، بل نقطة موهومة من نقط الدائرة. وغدت «3» سدته ميقاتا للفضل وأهليه، وسوقا للأدب ومنتحليه، تجلب إليها بضاعات الفضائل بين منظوم ومنثور، ومختوم ومنشور.
وقد صنف طبقات الأدباء والكتاب تصانيف في ذكر أيامهم، وتصاريف أحوال الزمان بهم، بحسب قوتهم في البيان، [8 ب] وسهمتهم من بلاغة الخاطر والبنان، حتى أن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي «4» عمل كتابه المعروف ب (التاجي في أخبار الديلم) «5»، موشى بحبر ألفاظه الساحرة، ومغشى بحلل معانيه الزاهرة، فحل عقد البيان بما قيده، وبيض وجه البلاغة بما سوده، فإن «6» تكن دولة «7» تقتضي إثبات محاسنها بالتخليد، وتقييد مآثرها بالتأييد، فهذه هي التي تقتضي الأدباء أن يخلدوا بتقرير معاليها «8» كلامهم، ويحلوا بتحرير مساعيها أقلامهم، ولو أدركها الماضون من أرباب التصانيف لودوا لو كانت ألفاظهم عن غيرها معزولة، وإلى ذكر محاسنها منقولة، ولحدثتهم أنفسهم بأن يعتذروا اعتذار أبي نواس «9» بقوله:
صفحه ۱۶
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني «1»
وقد كنت أقدر أن بعض صنائع هذه الدولة ممن له حظ في الصناعة، وتوجه في طرق البراعة «2»، يرتاح لتقييد أخبارها، وجمع كتاب في تصاريف أحوالها وأطوارها، من لدن قام الأمير الماضي- أنار الله برهانه- أميرا ، إلى أن أجلى أبا علي محمد بن محمد ابن إبراهيم [9 أ] بن سيمجور «3» عن خراسان كسيرا، وحصله من بعد في يده أسيرا، وولي أمورها سياسة وتدبيرا، وما قدر «4» له في أثناء ذلك كله من إغاثة الأمير الرضا أبي القاسم نوح بن منصور «5» ونصرته، واستجابة ما لطف إليه من دعوته، والمدافعة عن بيته «6» وخطته، واستبقاء ما فضل عن ذئاب «7» الترك من ولايته، وكفهم بترغيبه وترهيبه عن إزالة حشمته، واستباحة ما سلم عليه «8» من نعمته، محافظة على حقوق سلفه الأولى طالما صنعوا الصنائع، وأودعوا الودائع، وبثوا العوارف والرغائب، وأنفقوا الأموال حتى كنزوا المحامد، وعرفوا للحرمات [أقدارها، وحفظوا] «9» على البيوتات أستارها، وقضوا لنفوس المنقطعين [إليهم أو طارها] «10»، إلى أن ورث السلطان المؤيد يمين الدولة وأمين الملة مكانه.
صفحه ۱۷
فخلفه في ترتيب الأمور «1»، وتدبير الجمهور، وتألف الإخوة والأقارب، واستمالة القلوب ببذل الرغائب، إلى أن استقل به سرير الملك مطاعا، وتناهضت ولاة الأطراف إلى بيعته سراعا، فوجدتهم قد عولوا في معانيها على ما سار في أكناف الحضرة من أشعار الفارسية [9 ب] لازدحام شعرائها على بابه الرفيع، بقصائدهم التي قد غبروا «2» بها في ديباجة الروذكي «3»، وصنعة الخسروي «4» والدقيقي «5». ولعمري أنها كافية شافية، ومن وراء «6» الإشباع والإقناع آتية، ولكنها دواجن «7» خراسان، لا «8» تعرف عن ديارها ارتحالا، ولا تألف غير أقطارها مجالا، فاقتضاني حكم ما أسلفته في هذا البيت الرفيع من خدمة، وتعرفته أيام الأمير الماضي قدس الله روحه من بركة اصطناع ونعمة، [ثم ما رسمه إلي الأمير أبو أحمد محمد بن يمين الدولة وأمين الملة] «9» أن أمتع أهل العراق بكتاب في هذا الباب، عربي اللسان، كتابي «10» البيان، يتخذونه سميرا على السهر، وأنيسا في المقام والسفر «1»، ويعرفون به «2» عجائب آيات الله تعالى في تبديل الأبدال، وتقليب الأمور من حال إلى حال، مبتدئا بذكر الأمير الماضي، أكرم الله مآبه، من حيث نشأت نبعته، وتفرعت دوحته، إلى أن استعان به الأمير أبو القاسم نوح بن منصور- برد الله مضجعه- في «3» تلافي «4» دولته، والانتقام له من أبي علي بن سيمجور، حين نزع يده من طاعته، واستجره بحفي مسألته، عن دار إقامته، لكفاية مادهاه من أمره وأمر من طابقهم من الترك على جفوته، وأطمعهم برسائله ووسائله في تورد «5» مملكته، وما جرى على يده [10 أ] من الفتوح المأثورة، والمقامات المشهورة، ومتبعا ذلك بلواحق من وقائع السلطان الأجل «6»، يمين الدولة وأمين الملة في الهند والترك والخلج «7»، وما أتيح له فيها من النصر والفلج، وما يتصل بها من أخباره، وأخبار ولاة الأطراف في جواره، والله ولي المعونة على درك المنشود، وإصابة الغرض المقصود.
ذكر أيام الأمير الماضي أبي منصور سبكتكين وأحواله
قد كان ذلك الأمير قدس الله روحه في جبلته أبي النفس، حمي الأنف، جرى ء القلب، قوي البطش، كريم الخيم «8»، رضي التدبير، كبير الهمة، كثير الحكمة. يتبين ذلك كله في خصاله وخلاله، ومتصرفات عزائمه «9» وأحواله.
صفحه ۱۹
وحكى لي أبو الحسين جعفر بن محمد الخازن أنه كان ورد بخارى «1» أيام الأمير السديد منصور بن نوح «2» في جملة أبي إسحاق بن ألبتكين «3»، صاحب جيوش خراسان، وهو إذ ذاك حاجبه الكبير، ووجهه الغرير، وعليه مدار أموره، وبيده «4» مناظم شؤونه.
صفحه ۲۰
وعرفه أركان تلك الدولة «5» بشهامته وغنائه، وصرامته ومضائه. وتوسموا فيه الارتفاع إلى اليفاع، بهمته [10 ب] وذكائه. فحين صرف أبو إسحاق إلى غزنة «6» واليا عليها، وسادا مسد أبيه بها، انصرف هو بانصرافه، على جملته في زعامة رجاله، ومراعاة ما وراء بابه. فلم يلبث أبو إسحاق بعد معاودته إياها أن قضى نحبه، وودع عمره. ولم يبق من قرابته وبطانته، من يصلح لمحله ومكانته، واضطر العدد الدهم «7» من مواليه وموالي أبيه إلى من يتولى زعامتهم، ويتكفل بحسن الإيالة خاصتهم وعامتهم، فلم ينفكوا مختلفين في الاختيار، وساخطين غب «1» الاختبار، إلى أن جمعت «2» كلمتهم على تأميره، واتفقت آراؤهم على الرضا بتدبيره، والإذعان لحكم «3» تقديمه وتقديره «4». فماسحوه «5» بأيمانهم «6» طائعين، وحالفوه بأيمانهم «7» مبايعين، فولي أمورهم برأي صليب، وحزم عجيب، واهتمام سديد، وقيام بمصالحهم حميد.
ولم يزل يركض بهم على أطراف الهند غازيا، مجاهدا أعداء الله الكفرة بها ومفتتحا قلاعها، ومستخلصا ديارها ورباعها، ومحكما سيوفه في أهلها، مؤمنا من أسلم وشهد، وقاتلا من أشرك وجحد. وجرت بينه وبين عساكر الهند حين عيوا بأمره، وتضافروا على [11 أ] مدافعته، واستكفاف عاديته، حروب لبس فيها جلد النمر «8»، وأرث نارها تأريث المتذمر، وعض في معاناتها على جذم التصبر، وجافى «9» الجنب عن الضجعة، وأقنع النفس بالطوى والمخمصة، وأفضى تحته مركب الحمية، وحث أصحابه ورفقاءه على لذة الأمنية أو راحة المنية، كأنما عناه «10» عمرو بن الإطنابة الأنصاري «11» بقوله:
صفحه ۲۱
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح «1»
وقولي كلما جشأت «2» وجاشت «3» ... مكانك تحمدي أو تستريحي «4»
صفحه ۲۲
وحكى لي رحمه الله «5» في غمار ما كان يذكره من مواقفه ومقاماته، وآثاره في العدو ونكاياته: إني واقعتهم في بعض وقائعهم بهؤلاء الرفقاء، ونحن في العدد اليسير، وهم في الجم الغفير، وطالت بنا وبهم ممارسة الحروب حتى أقوى «6» الناس من الزاد، وعجزوا «7» عن الامتيار «8» والاستمداد. ولم يكن أمامنا إلا السيوف القواضب، ووراءنا إلا المهامه «9» والسباسب «10»، فصرخوا إلي بما دهاهم، وسألوني حيلة الثبات على ما عراهم، فعرفتهم أني كنت استصحبت لخاصتي [11 ب] على سبيل الاستظهار «11» صدرا من السويق «12»، وهو الآن قسمة بيني وبينكم عدلا سواء، بالغا ما بلغ بقدر «13» الكفاية، إلى أن يمن الله بالفرج، وكشف هذا الضيق والحرج. فكنت «14» أجدح لهم أياما عدة، لكل منهم أولا، ولنفسي من بعدهم آخرا قعبا «1» صغيرا، فنجتزى ء «2» به طول النهار والليل، ونحن على ذلك بين معالجة المكروه، ومكابدة المحذور، وملاقاة السيوف والسهام، بحر الوجوه والصدور، إلى أن وهب الله النصر وأهب الظفر، وأحاق «3» سوء العذاب بمن كفر، فولوا الأدبار بين قتيل مزمل، وجريح مرمل «4»، وعقير مرهق، وأسير بالقد «5» موثق.
وسمعته يذكر ما كان من حسن تدبيره وتقديره عند إفضاء الأمر إليه، واقتصار الإمارة عليه، ورزاحة «6» حاله عن التوسع في الإنفاق، والتخوف «7» في البذل والإطلاق، وأنه كان كأحد رفقائه في الحال والمال. واحتاج مع ذلك إلى أن يأخذ لمؤونة الزعامة عليهم من نفقاته الراتبة «8»، فكان «9» يدخر منها ما يفي بضيافتهم في الأسبوع دفعة أو دفعتين .
ولم يزل على هذه الجملة إلى أن اتسعت حاله، فزادهم بحسب الزيادة، [12 أ] إلى أن استكمل أسباب السيادة، فكان كما قيل:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما «10»
ولم يلبث أن اتسعت رقعة ولايته، وعظم حجم جريدته «11»، وعمرت أرض خزانته، وأشفقت النفوس من هيبته، وتعلقت الأطماع بمعونته «12».
صفحه ۲۳
وكان من أجدى «1» فتوحه ناحية بست «2»، وسبب ذلك أن پايتوز «3» كان قد ملكها على طغان- أحد الأمراء كان بها- غصبا، وأجلاه عنها حربا «4» ونهبا، فلجأ هو إلى الأمير الماضي مستظهرا به، ومستنفرا إياه عليه، بمال يضمنه، وولد يرهنه، وطاعة يبذلها، وخدمة بالنفس والمال عند الحاجة يلتزمها. فلبى نداءه، وحقق بفضله رجاءه، وناهض خصمه بمعظم جيوشه، حتى أناخ بباب بست. وبرز پايتوز «5» إلى معسكره، فتناوشا القتال كأشد ما يكون، نفحا «6» بالصفاح، ومشقا «7» بالرماح، وإثخانا بالجراح.
صفحه ۲۴