یهودیت در عقیده و تاریخ
اليهودية في العقيدة والتاريخ
ژانرها
وانصرمت بعد ذلك سنون وإذا بختنصر وقد انقض على نخاو وظهر عليه في قرقميش واستولى على يهوذا ودخل حاضرتها أورشليم سنة 586ق.م وأباحها لجيشه ثم أخربها وقوض مرابعها وعاد منها إلى بلاده بألوف الأسرى والسبايا، وبذلك أصبحت مملكة يهوذا ولاية تابعة لبابل وكفت دهرا عن أن يكون لها وجود مستقل.
وقد أغفل المؤرخون ما صار إليه العمود الحجر الذي هو يهوه، وما يدرينا لعل الغزاة فعلوا به ما فعله يوشيا بالسارية التي «أحرقها ... ودقها إلى أن صارت غبارا» (2 ملوك 23: 6).
ومهما يكن من أمر فقد انقطع ذكر يهوه - بوصفه شيئا ماديا - منذ تلك الحقبة، فلم نعد نسمع نبأ يتعلق به وبالتابوت الذي كان يثوي فيه.
ومن عجب أن اختفاءه التام هذا من صحيفة التاريخ بوصفه إلها محسوسا ملموسا لم يكن سببا لاضمحلال عبادته وخمودها في بلاد اليهود، بل كان مؤذنا بتحولها إلى عبادة روحية توحيدية منتشرة في مختلف أرجاء العالم؛ ذلك أن هذا الاختفاء حدث بعد أن أوشك دين يهوه على استيفاء تطوره، فإن الأنبياء ومن ... كانوا - حتى قبل السبي البابلي - قد شرعوا في تحسين فكرتهم في يهوه وقدسيته وسموه على البشر وقدرته على كل شيء، فلما كان السبي اتسع هذا الفهم الروحاني وجعل العبريون ندرا في منفاهم يتصورون يهوه حاكما رفيع الذرى يسكن السماء غير مقيد بقيود المادة ولا تراه العيون ولا تقام له التماثيل أو يرمز إليه بشيء.
وبدأت الوحدانية تغزو قلوب العبريين أول مرة في بابل، وما هي إلا أن أصبحت عقيدة لهم؛ فقد وقع في وهمهم أن كل ما حل بهم من الغوائل إنما يرجع إلى هجرهم يهوه ومخالفتهم عن أوامره؛ ومن ثم جعلوا يزدادون التصاقا بهذا الإله الذي يمثل وجودهم ووحدتهم القومية.
وحدث في سنة 538ق.م أن قورش الكبير عاهل فارس غزا بابل من بها من اليهود الذين اجتلبهم إليها بختنصر منذ نصف قرن ورد لهم آنية الذهب والفضة التي كان بختنصر قد غنمها من هيكل سليمان، ويسر العاهل الفارسي لهم إقامة معبد لربهم في أورشليم عوضا عن هيكل سليمان الذي كان البابليون قد أتوا عليه: «هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا» (عزرا 1: 2).
وعاد الأسرى والسبايا من بابل إلى يهوذا وهم على ثقة بأن صلاحهم وفلاحهم متوقفان على تجديد دينهم، ولم يكن بين أولئك الذين آبوا أخيرا إلى أورشليم غير نفر قليل، إن كان قد آب منهم أحد على الإطلاق، ممن سبق لهم أن عرفوا هذا الإله الحجر الذي كان ثاويا في التابوت. لقد تبوأ يهوه مكانه في السماء بين النجوم الزهر، أما الهيكل الذي بناه القوم له بعد عودتهم من السبي فإنه لم يقم فيه بشخصه ولم يصر «بيت الله» بالمعنى الحرفي للكلمة كما كان سلفه هيكل سليمان الذي قوضه بختنصر.
وطوى الموت قورش فخلفه على عرش فارس عاهل إثر عاهل، نذكر منهم ارتحشستا وفي عهده رجع عزرا بن ... بن ... بن ... بن هارون الكاهن - شقيق موسى - من بابل إلى أورشليم وناط به الملك إصلاح الشريعة اليهودية وخوله في ذلك سلطانا كبيرا، فسار عزرا على نهج جده حلقيا وقام بالحركة الإصلاحية الثانية مبتدعا شريعة جديدة نسبها إلى موسى: «اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهم ما يسمع ... وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. واللاويون أفهموا الشعب الشريعة والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعنى وأفهموهم القراءة» (نحميا 8: 1-8).
وظفر يهوه بالنصر بفضل فقدانه لخصائصه المميزة واقتصاره على الاتصاف بالصفات العامة للألوهية، وهو ما أكسب الوحدانية قوة عظيمة وسنى لها أن تشق طريقها في كل مكان؛ فالوحدانية هي الدين مختزلا إلى عنصره المركزي البسيط.
وقد تركت الأفكار الجديدة أثرا عميقا في مناحي العقيدة اليهودية، فأقبل أولو الأمر يدونون الأخبار التاريخية جميعها في صورة يهوية؛ وبذلك لبست التوراة والأسفار التاريخية الثوب الذي ترتديه الآن، وتغير مفهوم القوم عن يهوه؛ فبعد أن كانوا، حتى القرن السادس ق.م، يعدونه الإله القومي لإسرائيل جعلوا الآن ينظرون إليه على أنه إله العالم كله على النحو الذي يعرفه الإسلام عن الله والذي تعرفه المسيحية عن الآب في الوقت الحاضر. بيد أن ذلك لم يحل دون بقائه على ارتباط وثيق باليهود، وكان هؤلاء يرجون أن تعرف الأمم مجده وعظمته من طريقهم، وظل الأمر كذلك خمسة قرون في انتظار المناداة به خارج إسرائيل، وعقد الاتحاد بينه وبين شتى القوميات، وكان الفضل في ذلك لبولس الطرسوسي. (19) نشأة الوحدانية في مصر
صفحه نامشخص