فاخضوضر واحمومر، كما عبر أصحابنا الرمزيون، ولكنه كان أدهى مني فشن علي هجوما معاكسا، وسألني كأنه لم يسمع ما قلت: ما قولك في الكلمة؟ فأجبته جبرا لخاطره المكسور وإصلاحا لما أفسده الغيظ وارتفاع الضغط من أدبي معه فقلت: الكلمة! الكلمة بنت سفر التكوين العجيبة وهي أعظم أسرار الله، إن صدرت عن نفس خيرة كانت نعمة وبركة، وإن قذفها قلب أسود كانت لهبا أزرق يلتهم الناس كالهشيم.
الكلمة يا صاحبي، أبدعت كل شيء كان، صارت الكلمة فعلا فكان الكون، أما قال الله للكائنات كوني فكانت؟ ... ألم يقل يسوع للرياح اهدئي اسكتي، فهدأت وسكتت، ومشى على الماء؟ الكلمة وشاح الرسالة والنبوة، ودرع القواد وعدة الساسة وضالة الأديب مثلك، بها اقتاد النوابغ البشرية وبها خلدوا، فأسأل الله أن يقول كلمته، ويكتب اسمك في سفر الخلود.
واستأذنت بالخروج لاستنشاق الهواء وإفراغ ما في صدري وبطني، كنت لا أدري في تلك الساعة أهو عندي أم أنا عنده، وعدت فإذا به يخرج حية من عبه وأنشدنيها فور دخولي، فقلت: لا حول ولا ... آخر الدواء الكي. وإذا بصاحبي يستطرد من واحدة إلى أخرى، فعلمت أنه لا يحس إلا بالمساس، فقلت له: وماذا تبتغي مني بعد هذا الاضطهاد والتنكيل؟
قال: أريد رأيك.
فقلت: لا رأي لمن لا يطاع، أقسم لي بشرفك أنك تطيعني، إن هذه الرزم التي شنفت بسواها آذان أئمة العواصم، كما يعبر الكذابون، لا تصلح إلا لذلك الموضع وذاك الغرض ... فتش يا عزيزي عن رزقك، فالله يرزق من يشاء - الضمير يعود إلى المسترزق - ولئن قطع غيري لسانك بثنائه عليك فأنا أصدقك الخبر وسبني ما شئت. أنت تعتمد على عبارات معلوكة معروكة، وعلى صور أبدعها الإنسان الأولي، وتراها كما يراها غيرك ملاك البلاغة العربية، أما أنا فأحاربها، وأحفر الخنادق كل يوم لأقبرها فيها أفواجا، ليس لي رأي في المومياءات، بل أتقزز ممن ينبشون قبورها، وأكاد أتقيأ إذا نظرت إليها.
وبعد شهور حمل إلي البريد كتابا ضخما التأم بين دفتيه شمل تلك الوريقات المشئومة، وفي طليعتها مقدمة فضفاضة كفساتين راقصات النور، كتبها أديب موقر فحشاها ألفاظا ورواسم مألوفة جعل بها المؤلف من قادة الفكر وأصحاب الفتح المبين، فأوهمنا أنا ما سرينا في ظهور جدودنا إلا لنرى هذا الأديب الكبير، كما زعم المتنبي لكافور.
فقلت للذين حولي في تلك الساعة: ما أكثر الدجالين! إن زجاجة عرق من عيار ثلاثين أقل إسكارا من لقب الأديب الكبير، ويا ويل الأدب والأدباء من أشباه ابن القارح!
مهاجرة
1
فرنسيس ابن بيت توارث مشيخة الصلح منذ نشأة المتصرفية، أحب «هدلا» فزاحمه عليها الكثيرون من شباب القرية، فغلبهم ولم يثبت له في الميدان غير شبان غرباء من أبناء وجوه البلاد، فوجدوا لهم أنصارا من المقهورين الحانقين، فانشقت الضيعة حزبين، أخذ أبو هدلا حذره فكان يزرب خيول «الساهرين» عند بنته في القبو، ويشك المفتاح في زناره مظهرا نصفه، كأن لسان حاله يقول لأنصار فرنسيس: المفتاح تحت زنادي، فلا تحلموا بجز أذناب الخيل ونواصيها ... يفرغ بيته صباحا ويمتلئ مساء، فللسهرة عند البنات شروط: منها المجيء بعد المغرب، والرواح قبل الفجر، وعدم النوم في الضيعة لأنه جبن وفزع ...
صفحه نامشخص