حقا إن كنيسته - كما قال - تلقي الرعب في القلوب نهارا، فكيف بها في تلك الليلة القاتمة الأعماق، والثلج على سروات الأشجار كما قال الفرزدق، لم يضئ بها غير فانوس، ويا ليته جاحظ الفتيلة كمصباح راهب امرئ القيس! ولكنه كقنديل بخلاء الجاحظ ... حاول أحد الشمامسة أن يوقد بضع شمعات فزجره الخوري إبراهيم مكتفيا بشمعتين عسليتين، ورفل في ثياب التقديس المزركشة وأسرع في تلاوة قداسه، فبلغ الإنجيل برفة عين، فقلت في نفسي: عافاك يا خوري إبراهيم، هذا قداس! والتفت صاحبي صوب الشعب منكسر الطرف، وبعدما فرك يديه قال:
يا إخوتي المباركين!
عيد الميلاد هو عيد ولادة البشر كل عام، كما قال الرب يسوع لنيقوديمس: الحق الحق أقول لك، إن لم يولد الإنسان ثانية، فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله.
فأجاب نيقوديمس: وكيف يمكن هذا؟ فأجابه الرب يسوع: أنت معلم إسرائيل وتجهل هذه؟ أتعلمون ماذا أراد المعلم؟ إن المعلم يريد أن نولد بالروح، أن نولد بالرجاء، أن نولد بالمحبة، أي أن نولد كل عام بتعاليمه، ولو تحققت هذه الولادة لما كانت هذه الحرب العالمية.
إن هيرودس وبيلاطس وقيافا يبرزون كل عام إلى الميدان ليحولوا دون هذا الميلاد كما أرادوا قتله في ذلك الزمان، يريدون إطفاء سراج الإنجيل الذي خلق عالما جديدا، لا أدري ما أقول عن الهيرودسيين والبيلاطسيين أعداء السلام المسيحي الذي ولد في مثل هذا اليوم، الذي لا حياة للدنيا بدونه.
لا أحدثكم عن يسوع الإله، بل عن يسوع ابن الإنسان، فأقول لكم إن عيد ميلاده هو عيد ميلاد حقا، ولحكمة فائقة جعلته أمنا الكنيسة المقدسة في هذا اليوم. إن الطبيعة التي قال لها كوني فكانت تولد اليوم، أليس الشتاء كالميلاد، والربيع مثل الشباب، والصيف كالكهولة، والخريف مثل الشيخوخة؟ أليست الشمس تولد اليوم من جديد فتصعد إلى أعالي القبة، وكذلك النهار فهو ينمو مع السيد، ومعنى هذا ميلاد النور والحق والحياة.
ثم التفت نحوي وقال كالمتوجع: آه من البشر! كل شيء يتجدد مع الميلاد إلا الإنسان، الإنسان لا يريد أن يولد مع المعلم، لا يريد أن يفهم معنى الميلاد الحقيقي، إن الحيوانات كانت أرأف بالطفل من البشر، الحيوانات أعطته كل ما تملك، ومن كل قلبها، أعطته جزءا من نفسها، أي حرارة تدفئه، بينا ملوك العالم أي المجوس أعطوه من فضلاتهم، مرا وذهبا ولبانا. نعم، إن سجود هؤلاء الملوك السحرة له هو اعتراف بعهد جديد، عهد حرية بني الإنسان، عهد تغلب الحق على الشعوذة، ولكن ما حاجة يسوع إلى ذهبهم وهو القائل: يا بني أعطني قلبك. إن زعماء البشر أعطوه المال الذي أبغضه وداسه، ولم يعطه من قلبه ونفسه إلا البهائم، فكانوا خيرا منا. الحيوان يكتفي بقتل حيوان، أما الإنسان فيقتل إخوانه جملة ولا يكتفي، ألا ترون هذا بأعينكم، أما ندفن كل جمعة أربعة خمسة؟
يا إخوتي، تعلمون لماذا سمى يوحنا الحبيب الطفل يسوع كلمة الله، إن في ذلك سرا عظيما، فالكلمة هي سر السلام، سر المسرة، سر الرجاء الصالح، ألا يقول المثل: من وطأ كلمة وطأ جبلا؟ ولو نبئت كلمة الله في قلب هيرودوس وبيلاطس لما كان الشر الذي نلقى غبه اليوم.
إن الطفل الذي نحتفل بعيد ميلاده اليوم هو الدائرة التي تضم في قلبها الإنسانية كلها، وإن خرجت الإنسانية منها أكل بعضها بعضا كالوحوش الضارية، والبرهان ما ترون وتسمعون، فكما يخلق البرق والرعد الكمأة في الصحراء كذلك تخلق فينا كلمة الله المحبة، وحيث تكون المحبة يكون الإيمان، وحيث يكون الإيمان كان الرجاء والسلام.
إن النجم الذي هدى المجوس إلى المغارة هو رمز الإنجيل الذي قاد العالم إلى ميناء السلام والاطمئنان، ويا ليت هذا النجم يطلع كل عام في سماء الإنسانية ليهديها إلى القناعة، فمغارة الميلاد استحالت قلعة محصنة بالرشاشات والمدافع والقنابل، وشجرته أمست كتلك الشجرة الهندية التي يقولون إنها تأكل البشر، وكل هذا من ظلم هيرودوس، وطمع بيلاطس، وجشع يوحانا، وأنانية قيافا، وفتور إيماننا نحن.
صفحه نامشخص