وكان موقف جيوبرتي موقف الانتهازي المحدود الفكر ؛ إذ كان يرتئي بأن الوحدة لا يمكن أن تتم الآن وأن الواجب يقضي بالانصراف إلى الإصلاحات العظيمة الشأن، وإلى تدعيم وتقوية الحكومة الدستورية وفكرة الاتحاد.
وبانجلاء موقفه هذا تجاه المجلس التأسيسي انقطعت كل صلة بينه وبين الدموقراطية ولا سيما بعد أن صرح بأنه لم يشترك في المجلس التأسيسي؛ لأن الاشتراك فيه يسيء إلى الأمراء والبابا. وبموقفه هذا؛ أي بقطع صلاته بجمهورية روما قضى على كل أمل في الاتفاق مع إيطالية الوسطى.
لقد ظن جيوبرتي أن إعادة الدوق الكبير إلى الحكم بالسلاح البيمونتي قد يؤدي إلى تسخير جميع قوات طوسكانه في سبيل الحرب؛ لأن حدودها تصلح لأن تكون قاعدة ذات فائدة عظيمة للحركة ضد الجانب النمسوي، وكان في سبيل هذا الغرض على استعداد لأن يسحق برجله كرامة الطوسكانيين ومن دون أن يخبر الملك، ولعله من دون أن يخبر زملاءه أيضا كتب إلى الدوق الكبير يعرض عليه إعادته إلى العرش بقوة السلاح، ولما لم يوفق إلى ذلك اضطر إلى الاستقالة في 21 كانون الثاني.
ويظهر أن النمسويين كانوا عازمين على أن يكبتوا الشعور القومي في لمبارديه وذلك على إثر الانتصارات في شهر آب، وقد اشتد استياء الأهلين وتوترهم أكثر من قبل والتجأ آلاف من اللومبارديين إلى بيمونته وسويسره، أما الذين بقوا في البلاد فقد خاضوا غمار معركة صامتة ضد السلطة، ذلك أن مجالس الإيالات رفضت إيفاد نواب عنها للمجلس الإمبراطوري في فينا.
وحيث إن الحاميات العسكرية القومية قد استطاعت أن تحافظ على الأمن ولو ظاهرا فإن راديتسكي عزل الحكام المدنيين وأجل الحكم الدستوري الموعود، وفرضت ضرائب باهظة لتسديد نفقات جيش الاحتلال وأصبح الشخص الذي يحمل السلاح في ميلانو عرضة لعقاب الموت.
وقد قتل بعض الناس رميا بالرصاص أو جلدا لهذا السبب، فلم يشاهد في هذه الظروف في أزقة ميلانو إلا جنود ومتسولين، وكانت خطة راديتسكي ترمي إلى معاقبة الأغنياء واستجلاب الدهماء لاستخدامهم في النهب، ولكي ينكل بالطبقة النبيلة في ميلانو ليغيظها فإنه فرض غرامة نقدية، عشرين مليونا من الليرات على مائتي شخص من هذه الطبقة، ولما لم تدفع هذه الغرامة صادر كثيرا من أملاكهم وأموالهم.
ولم تؤد هذه الأعمال إلا إلى إثارة حقد جميع الطبقات، وأصبح الشعور السائد في جميع أنحاء لمبارديه ضرورة الثورة في أول فرصة يمنحها اللمبارديون إخوانهم الطليان، وكانت الرغبة في الخلاص من الحكم النمسوي تجيش في صدور جميع الإيطاليين من أحرار ودموقراطيين؛ إذ كانوا جميعهم يحقدون على استبداد راديتسكي.
بيد أنه لم يبق أثر للثقة ووحدة الشعور اللتين كانتا تسودان سنة 1848، فذكر الانكسار الحديث والشعور أخيرا بشوكة النمسويين أبعدا الرجل المتردد عن الميدان وجعلا الرجل المتيقظ يتربص وينتظر.
وقد فقد الدموقراطيون كثيرا من حماستهم ونفوذهم لضعف عزيمتهم وكفايتهم، وحالت الاختلافات دون توحيد مساعيهم مع المعتدلين ومع أن أكثرية الأمة الساحقة كانت قومية النزعة من صميمها كما كانت في السنة الماضية إلا أنها لم تعد تتحمس لقضية الاستقلال حماستها الأولى، فالحسد بين الدول المختلفة والمخاوف من التوسع البيمونتي ونقمة الكنيسة؛ كانت عوامل تحول دون تكاتف القوى القومية، حتى إن المفاوضات المؤيدة في سبيل عقد الحلف لم تنجح كما أن المجلس التأسيسي لم يوفق إلى توحيد طوسكانه وروما.
أما نابولي فبقيت منعزلة، وكانت صقلية تهتم بحكمها الذاتي أكثر من اهتمامها بالوحدة الإيطالية، وانصرفت فنيسيه إلى مشاكلها الخاصة بها، لا تثق ببيمونته ولا بالمجلس التأسيسي.
صفحه نامشخص