ولما أرسل كابوني الجنود إلى ليفورنة قوبل قراره هذا بالتصفيق، وحاول «سيبرياني» قائد الحامية أن يجرد الجمهور من السلاح إلا أن الجمهور هجم على جنوده وهزمهم، فاضطر كابوني إلى إرسال «جيرازي»؛ ليعيد الهدوء إلى المدينة، واستطاع هذا بسرعة أن يحمل عناصر الشعب على الطاعة، ولم يستطع أن يحول دون إعلان الجمهورية إلا بشق الأنفس، فقررت الوزارة أن تقضي على عش الفساد، ودعت الحرس المدني في طوسكانه إلى الاجتماع في معسكر كبير بالقرب من مدينة بيزة إلا أن القسم القليل منها لبى الدعوة، وكان هذا القليل أيضا على استعداد لأن يتآخى وأهل ليفورنة بدلا من مقاتلتهم، ففشلت بهذا سياسة الشدة ثم عادت المدينة إلى حالتها الاعتيادية بفضل عزم جيرازي إلا أن كابوني رفض الاعتراف به وعين مونتانلي حاكما عليها، ولم يقبل مونتانلي هذا المنصب إلا بشرط أن يمنح الشعب هدفه المحبوب، وهو المجلس التأسيسي الدموقراطي، فأصبح من الواضح أن وزارة دموقراطية وحدها تستطيع أن تبقي ليفورنة في حظيرة طوسكانه، وتعيد سلطة الحكومة إلى القسم الباقي من البلاد، فاستقال كابوني في منتصف تشرين الأول، وفشلت بعده جميع المحاولات لتأسيس وزارة من المعتدلين، فطلب الدوق الكبير حينئذ إلى مونتانلي أن يؤلف الوزارة إلا أن هذا رفض أن يتولى الحكم من دون جيرازي، ومع أن الأمير كان قليل الاستعداد لتلبية هذه الرغبة إلا أن الهياج في ليفورنة وفي فلورنسة ونصيحة وزير إنجلترة المفوض له اضطراه للإذعان.
وكان الرجلان اللذان أصبحت مقدرات طوسكانه في قبضتهما لا يشبه أولهما الثاني إلا قليلا، فمونتانلي رجل ذكي محبوب لسن صريح، إلا أنه كان يجهل أمور الحكومة كل الجهل، وكان المعتدلون يحترمونه، ورجال الإكليروس يعتبرونه الرجل الذي سيحرر الكنيسة الطوسكانية من نير الحكومة، وكان التلاميذ في بيزه والعمال في ليفورنة يحبونه لدفاعه المديد عن الدموقراطية.
أما جيرازي فكان من طينة أخرى، ورغم أنه لم يلعب إلا دورا صغيرا في سياسة إيطالية فإنه كان يعد من أقدر معاصريه، وقد تشبع بآراء فولتير وبايرن، وجد كثيرا في اكتساب قوته، وعركه الدهر؛ إذ دخل السجن ثلاث مرات قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، وقضى كل حياته في جدال مع الهيئة الاجتماعية، وكان مقداما عنودا، وكانت الغاية التي يتوخاها في قصصه إيقاظ إيطالية، وكان يحتقر المضطهد والمضطهد، ويقول: «ليست الحياة سكونا.» وقد هدأ النجاح الذي ناله في آخر أيامه من طبعه وجعله يكره - دائما ومن صميم قلبه - الجدل السياسي.
أما في روما فقد كان سقوط المعتدلين فظيعا، وفي الأزمة التي تلت نشر الرسالة العامة؛ اضطر الحزب الدموقراطي البابا إلى إناطة رئاسة الوزارة برئيس الحزب مميانتي، وقد شرط هذا لقبوله رئاسة الوزارة أن يتولى وزارة الخارجية أحد العلمانيين، كان مميانتي عضوا في الحكومة المؤقتة التي تألفت في بولونيه في ثورة سنة 1831، ولما كان متغيبا في فرنسة برز كشاعر ولاهوتي، ولما عاد إلى إيطالية سنة 1848 اشتهر بين الناس كخطيب وصحفي، وقد أصبح المنهاج الذي وضعه في الإصلاح الاجتماعي المنهاج المقبول في الأوساط الرديكالية.
وكان يرغب في أن يحتفظ البابا بالسلطة الزمنية، ولكي يبقى نفوذ البابا الديني خالصا سالما؛ وجب على البابا بأن لا يشترك في مسئولية الحكم، وعليه أن يقبل بالمبدأ الإنكليزي القائل: «الملك يملك ولا يحكم.» ثم إنه كان من دعاة الاستقلال ومن المتحمسين، ويود أن تساعد روما الحرب القومية بكل ما يمكن، وأن لا يقبل المفاوضة مع النمسة ما دام لها جنود في إيطالية، كما أنه كان من أنصار الاتحاد وقد اتهمه خصومه بأنه يرغب في إلحاق الروماني ببيمونته.
عنى مميانتي - قبل كل شيء - بإصلاح الحكومة المحلية والمصالح المدنية، ثم انصرف إلى الأمور الاجتماعية وعمل على تأسيس وزارة للإسعاف العام ومهمتها حماية البؤساء وتعليمهم، ورأى أن المصلحة فيما يخص التعليم تقضي في تلك البرهة التساهل مع الإكليروس، وذلك بالسماح لفتح المدارس الحرة على أن يتولى الرهبان دراسة الدين فيها، وكان منهجه الاجتماعي يتضمن المساواة الاجتماعية التامة وحرية التجارة وحرية التملك وفرض ضريبة متزايدة بنسبة الدخل، والعناية بالسكك الحديدية وخطوط البرق والإسعاف والصحة العامة. وكان القيام بهذه الإصلاحات صعبا بين بلاط خصم لها وشعب نفد صبره، ولو كان صلبا لاستطاع أن يحمل البابا على التساهل إلا أنه كان يسعى لجلب رضاء البابا.
ومن الأمور التي لا يمكن للبلاط البابوي أن يسمح لها أن تترك المخابرة مع سفراء البابا بيد وزير علماني؛ لذلك لم يف البابا بوعده لوزيره الأول وعين لوزارة الخارجية كردينالا، وقد أذعن مميانتي لهذا آملا بأن يظفر بموافقة البابا على منهجه الإصلاحي.
على أن قضية الحرب كانت موضوع جدل عنيف بينه وبين البابا حين لم يكن البابا فاقدا استعداد العطف على الحماسة القومية، ولما فرق النمسويون حرمة أراضيه في أواخر شهر حزيران، اعتزم إعلان الحرب.
ولو قبل باريتو الحلف لتشجع البابا وأمر مميانتي بتعبئة الجيش، إلا أن باريتو رفض اقتراح الحلف مما جعله مرتابا من مطامح بيمونته أكثر من قبل، وكان يشعر بأن دخول بابا في الحرب أمر فظيع، وحاول مميانتي عبثا حمله على قبول المبدأ القومي.
وكان بيوس لا يريد أن يقبل نظرية مميانتي الآتية: «إن الباري تعالى قد قدر أن تعيش الأمم مستقلة بعضها عن بعض؛ بسبب اختلاف لغاتها وجنسياتها وعاداتها.» وقد أضاع المعتدلون نفوذهم كقوة سياسية، وقد أدت الرسالة العامة بإضعافها لنفوذ البابا المعتدل في حركة الحرية إلى تقوية الدموقراطيين، ومع أن القسم الأعظم من الدموقراطيين كان يسير وراء مميانتي إلا أنه كانت توجد فئة متطرفة تسعى لإقامة جمهورية تكون عبارة عن حكومة مؤقتة.
صفحه نامشخص