أما «جرازي»
2
فكان يبحث عن العظمة الإيطالية وبعثها وأما كتب دازجيلو فكانت تحث الجيل الإيطالي الحديث على أن يتخلق بالرجولة وأن يترك مراقصة الغواني وأن يتفرغ للأعمال الوطنية، وكتب «كوليتا وبوتا» تاريخهما الباحث عن كفاح إيطالية الحديث، أما الروايات الهزلية التي ألفها «جستاف مودينا» فكانت تبث الأفكار الوطنية والآراء المعاكسة للبابوية على قدر ما كانت تسمح به الرقابة، وأيقظت مآسي «نيكوليني» ذكريات القرون المتوسطة وذكرت الشعب بدموقراطيته القديمة، وكانت تترنم بالحرية وتهزأ بالألمان وأنصار البابا، أما أهاجي «جيستي» التي كانت تكتب نسخها باليد ويتداولها المئات فكانت تحمل على الأمراء والشرطة والمحظيات وتنفذ إلى عقول الشعب، وكان جيستي هذا يمتاز بوطنية عميقة ويستهزئ بالذين يزعمون: «أن الفكرة التي تنبعث من قوميات مختلفة توسع الأذهان.» ويجيب بكبرياء على الأجانب الذين يذكرون إيطالية كأنها بلد ميت ويقول: «يا حبذا مقبرة كريمة تجعل الأحياء يغتبطون بها.»
فضلا عن أن نشرات مازيني الحماسية كانت تنتقل من يد إلى يد فتنفخ عزما جديدا في الطبقات المثقفة بينما روايات مودينا الشعبية كانت تضرب على وتر شعبي حساس.
وقد بدأت فروع جمعية إيطالية الفتاة تتأسس تدريجيا رغم خمود الهمة، وامتدت حلقات المؤامرات إلى باليرمو ونابولي وفلورنسة وميلانو وأخذ المنفيون في إنجلترة وفرنسة وإسبانية وكورسيكة ومالطة والجزائر اليونانية يكاتبون أصدقاءهم الذين ظلوا في إيطالية وأمست صقلية مركزا للعصيان، أما النزاع المديد بين أنصار اللامركزية وأنصار الحكم الذاتي فقد انتهى بانتصار الآخرين، ولما عزل الملك نائبه المحبوب من الأهالي حسدا زالت الأحقاد بين أحرار الجزيرة واتحد الجميع لمقاومة المستبد، وانضم حزب - الانفصال القديم إلى الحزب الجديد الذي يقول بإدماج الجزيرة بالجمهورية الإيطالية، واجتمع في سنة 1837 مندوبو الجمعيات السرية في باليرمو للمذاكرة في شئون الثورة، وحين تفشى مرض الهيضة «الكوليرا» في إيطالية وامتد إلى الجزيرة وقضى على أربعين ألفا من النفوس في باليرمو، فقد استغل الأحرار عقلية الشعب وقووا الاعتقاد بأن الحكومة هي التي سممت المياه وبشروا بالثورة عليها فهبت «مسينة وكتانية وسيراكوزه» ورفعت العلم الأصفر شارة الاستقلال، وفي سيراكوزه فتك الشعب بالشرطة وبجميع الأشخاص المشبوهين فأرسلت الحكومة على إثر ذلك القائد «لكاروتو» لإخماد الثورة فسلك سبيل الإرهاب وحكم على مائة منهم بالموت ومع أن ثورة صقلية حركة انفرادية فقد أظهرت كيف يتطور الاستياء إلى انفجار واستفاد حزب إيطالية الفتاة من ذلك حين نهض ثانية وأخذ يرسم خطط العصيان بإحكام وتنظيم، واعتزمت لجان الثورة في صيف سنة 1843 عصيانا عاما في كل من بلاد نابولي والروماني وطوسكانه إلا أنه كان كل قطر من هذه الأقطار ينتظر أن يبدأ الآخر بالقيام ففشلت الثورة.
ولما كشفت المؤامرة في بولونيه ورافيته وخشي المتآمرون انتقام الحكومة؛ اعتصموا بجبال الأبنين ونظموا فيها حرب العصابات ولما لم يلقوا عونا من أهل الجبال تفرقوا شذر مذر، فمال مازيني إلى رأي أكثر المتآمرين بصيرة واقتنع بتفاهة هذه الحركات، وبرز حينذاك الأخوان «أتليو وأميليو» الشابان الشريفان من فنيسيه وكانا من ضباط الأسطول النمسوي، وقد اقتنعا بأن ما تحتاجه بلادهم هو أمثولة العمل الجريء الحازم والفداء الصحيح، وأرادا أن يجعلا نفسهما المثال الحي المنشود، وذلك بتنظيم حرب عصابات في القسم الجنوبي من جبال الأبنين.
وقد بذل مازيني وآخرون جهدهم لحملهما على العدول عما اعتزما عليه إلا أنهما لم يأخذا بالنصيحة وصما آذانهما عن سماعها وعن سماع توسلات أبيهما وزوجة أولهما آتيلو الفتاة، ففرا من الأسطول والتجآ إلى كورفو ثم أبحرا وبعض الرجال إلى إيطالية وبعثا إلى مازيني بكتب بينا فيها خطتهما بالتفصيل، وقد اعتمدا على الأمانة التي تمتاز بها دوائر البريد الإنجليزي إلا أن كتبهما فتحت في دوائر البريد الإنجليزية وأخبر اللورد أبردين الحكومة النابولية بأمر المؤامرة وتفاصيلها حتى إذا ما نزلت القوة الصغيرة إلى البر قبضتهما فحكمت على الضابطين المذكورين بالموت بالرصاص، وقد هتفا حين نفذ فيهما حكم الموت قائلين: «فلتحي إيطالية.» وكان لموتهما على هذه الصورة الشريفة تأثير عظيم في البلاد؛ إذ اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وعرف العالم كيف يموت الإيطاليون في سبيل وطنهم.
الفصل التاسع
المعتدلون
1843-1846
صفحه نامشخص