وكانت أفعال كافور وأطواره في هذه الأزمنة متناقضة، ولكن سياسته في نهاية آذار أخذت تتجلى، ولا سيما بعد أن بلغه خبر الاقتراح القائل باحتلال الروماني من قبل الجنود النابوليين، وخشي أن تؤدي هذه الحركة إلى الاستيلاء على الروماني فعلا، فاعتزم حالا بأن يعتبرها عملا عدائيا.
وقد كانت سياسة كافور منذ أربع سنوات ترمي إلى منع أي حركة تسبب انشقاق القوميين واستغلال كل حركة من حركات الثورة، ولا بد من أنه علم بأن الثورة ستقع في صقلية؛ فلذلك قرر أن يغمض عينه عما يقع فيها وأن يدبر الحركة ولكن بصورة خفية؛ بحيث لا تتحمل الحكومة أية مسئولية، وأخذ يفتش عن قائد يترأس الحركة ولما لم ينجح وعلم بنبأ مراجعة غاريبالدي الملك نسي الهجمات العنيفة التي وجهها إليه يومئذ وأدرك بأنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يخرج من هذه الحركة ظافرا، فأخبر لافارينا بأنه سوف يمنح غاريبالدي كل المساعدة وسوف يجهزه بالبنادق المخزونة في مخازن الجمعية القومية، ووافق على أن يستعمل غاريبالدي البنادق التي اشتريت في ميلانو بالمبالغ المجموعة بالاكتتاب.
وكان غاريبالدي حينئذ على الساحل قريبا من جنوة، وكان يميل إلى الذهاب إلى نيسي سرا ؛ للشروع في مقاومة يائسة ضد الإفرنسيين، ولكنه حين اتصلت الأخبار السيئة عن أحوال صقلية تردد في الأمر، وتلقى كافور خبرا من مندوبه فيلا مارينا بأن الثورة تبشر في النجاح في صقلية، وكان يعلم بأن النمسة لن تتدخل، وقد طمأنه لافارينا من ناحية إخلاص غاريبالدي للعرش.
ولما جست جنوة نبضه في 23 نيسان قوي أملها - على ما يظهر - بأنه سوف يساعدها، وبينما كان كافور يتردد في الأمر كان غاريبالدي يضطرب من التردد ويلوح له بأن واجبه الذهاب إلى المحل الذي يقاتل فيه الطليان مضطهديهم ولكن وضع كافور يفزعه، ولما وصلت البرقية التي زورها كريسبي تحمل أخبارا سارة عن صقلية؛ زال تردده وأعلن عزمه على الحركة حالما يتمكن.
أما كافور فكان في رأي آخر؛ إذ أصبح يعتقد بأن إرسال قوة إلى الجزيرة إنما هو طيش وجنون ... فالأسئلة أخذت تتوالى من الحكومات الأجنبية تسأل عن هذه الاستعدادات التي تجري في جنوة، وكان كافور قد قال للسفير الإفرنسي بأن الحكومة صرفت النظر عن الحركة، وفي هذه الساعة وصل إليه نبأ عزم غاريبالدي على السفر فأوشك أن يضيع رشده، وأسرع إلى بولونيه يطلب إلى الملك القبض على غاريبالدي، أما الملك فلم يلب طلبه فأدرك كافور استحالة الوقوف دون الحركة؛ بسبب هياج الرأي العام فعزم على أن يهيئ كل ما يقتضي سوقه من القوات لإنجاح الحركة.
وذهب لافارينا إلى جنوة لتسليم بنادق الجمعية الوطنية ولكن لأسباب مجهولة لم يستلم غاريبالدي إلا بعضها، وأرسلت التعليمات إلى السلطات الجمركية في جنوة لتغمض عينها عن مرور الأسلحة، وكان «برسانو» الأميرال البيمونتي قد تلقى أمرا بتوقيف القوة البحرية التي يقودها غاريبالدي إذا رست في ميناء سارديني؛ لأنه كان يعلم بأن كافور إنما كان يرمي بذلك الأمر ذر الرماد في العيون؛ فلذلك رأى سفينتي غاريبالدي تمخران البحر من دون أن يقلقهما.
الفصل الثلاثون
غاريبالدي في صقلية
أيار-آب 1860
في اليوم الخامس من أيار تركت الحملة الصغيرة جنوة فوق باخرتين وقد طلب الالتحاق بها كثيرون؛ إذ إن لجنة جنوة التي يرأسها برتاني وسمعة غاريبالدي؛ قد جذبتا المتطوعين من جميع أنحاء إيطالية، ولقي غاريبالدي صعوبة عظيمة في تقليل عددهم إلى ألف رجل ونيف؛ ليستطيع أن يأخذهم معه على الباخرتين، وكان معظم هؤلاء من إيطاليي الشمال، فكان بين ألف وسبعين من ذوي القمصان الحمراء ثمانمائة وخمسون من أهل لمبارديه وإميلية وفنيسيه، وكانت هذه العصبة تتألف من خليط من الوطنيين القوميين والمغامرين الذين تربطهم بغاريبالدي رابطة الإخلاص له والشجاعة الفائقة.
صفحه نامشخص