وظل الملك يزدري بالرأي العام العالمي؛ إذ قبض على ستة وأربعين عاملا لمقاومتهم المظاهرة التي قام بها الجمع الموالي للملك قبل ثلاث سنوات وحكم على أكثر من نصفهم بالأشغال الشاقة لثماني عشر سنة، ثم تلا ذلك حبس ثلاثمائة شخص ومن بينهم عشرون نائبا.
ومما يلفت النظر أن شهادة شخص كان قد حكم عليه خمس مرات بالاحتيال، كانت كافية لإدانة خمسة وعشرين متهما، وقد بلغ عدد المحكوم عليهم خلال سنوات الرجعية الأربع ما يربو على الاثني عشر ألفا، ولم تنكر الحكومة أن عدد المسجونين السياسيين يبلغ أربعة آلاف، ويظن أن أربعين ألفا من الناس قد وقفوا أمام المحاكم.
أما حركة الارتجاع في طوسكانه فلم تكن شديدة الوطأة شأنها في روما ونابولي بعد عودة البابا وفرديناند إليهما؛ ذلك لأن الحركة التي عاكست الثورة كانت شعبية من جهة؛ إذ انحاز إليها القرويون بحماسة وإخلاص، ثم لأن الأحرار المعتدلين من جهة أخرى كانوا يرون في عودة الدوق خلاصا من الدموقراطية الشديدة ومن الاحتلال النمسوي.
وكان أحرار طوسكانه كما وصفهم ريكاسولي: «صبيانا ليس لهم عقل سليم ولا خلق ولا دراية؛ إذ تركوا الثورة تتلاشى من الضعف واهتموا كثيرا بأنفسهم وبأموالهم.»
ثم بوغت الأعيان الذين ألفوا الهيئة الحكومية بنشوب ثورة في ليفورته وأدركوا أن خطر هذه الثورة قد تؤدي إلى الاحتلال النمسوي، فالتمسوا من فرنسة وإنجلترة أن ترسلا أسطولهما لتهديد الحركة، ولولا معارضة الدوق لقبلت فرنسة الدعوة ثم ولى الوجهاء وجوههم شطر بيمونته، ولكن حكومة تورينو أجابت بأنها لا توافق ما لم تشترك حكومة نابولي في الأمر وما لم يوافق الدوق الكبير نفسه على ذلك، وكان هذا سبق فارتبط بالنمسة واشترك في وضع الخطة لاستيلاء راديتسكي على البلاد.
وكان حين قابله المندوبون من هيئة الحكومة في جايته وعدهم بإعادة الدستور وأكد لهم بأنه لا يساعد على حركة استيلاء من جانب النمسويين، بيد أن رسوله «سريستوري» الذي أوفده ممثلا عنه إلى فلورنسة كان يعلم بتواطؤ سيده مع النمسويين على الاحتلال، وقد اجتاز لواء من قوات القائد النمسوي أسبر الحدود واحتل لوكا وتقدم نحو ليفورنه فقاومت المدينة الجمهورية مقاومة المستميت، ولما أعلن سريستوري أن النمسويين إنما أتوا من دون رضاء الأمير غضب أسبر بسبب هذه الكذبة، وأعلن بأنه لم يتحرك إلا بناء على رجاء الأمير نفسه، وراح النمسويون يتهددون الأمير بالخلع إذا لم يسلك مسلكا مرضيا فلم ير بدا من الخضوع لهم ودخل أسبر فلورنسة في 25 أيار، وفي اليوم ذاته تألفت وزارة جديدة ومارست أعمالها وكانت مؤلفة من المعتدلين الذين كان يظن أنهم راغبون في إنقاذ الدستور.
وبينما كانوا يخافون أن تترك الحامية النمسوية المدينة؛ كانوا من جهة أخرى يسعون إلى تخفيض قوتها إلى الحد الأدنى القرويين المضطهدين إلى العصابات التي كانت تنافس الحكومة في أعمال العنف والإرهاب وخربوا إحدى المدن وقبضوا على المتفرجين في إحدى صالات المراسح وأفرغوا ما في جيوبهم.
أما دوقيتا وادي بووهما مودينه وبارمه فظلتا كالسابق تابعتين للنمسة، وقد عاد فرنسوا الخامس إلى عرش مودينه وشارل لويس إلى عرش بارمه بمساعدة الجند النسموي وأخذا يحكمان دوقيتهما بحماية هذا الجند، ولم يكن فرنسوا مستبدا مثل أبيه ولم يكن بطبيعته كثير الميل للظلم، ومع أن الأحكام التي صدرت ضد الأحرار كانت كثيرة وقاسية ومع أنه انتقم بلا رحمة من القرويين؛ فإنه لم يعاقب المتهمين السياسيين عقوبات شديدة إذا قورنت بالفظاعة النمسوية في لمبارديه والروماني؛ فلذلك كانت الرجعية خفيفة الوطأة في مودينه.
وعلى نقيض ذلك جاوز الاضطهاد في بارمه جميع الحدود، وبعد أن أعلن شارل لويس عدم مشروعية جميع الأعمال التي قامت بها الحكومة المؤقتة تنزل عن الملك لابنه شارل الثالث، واعتبر الأمير الجديد رعيته ألعوبة لشهواته وظلمه، فألغى الدستور الموعود وظلت الإدارة العرفية مستمرة وأغلقت الجامعات وفرضت الغرامات الباهظة على أعضاء الحكومة المؤقتة، وأرغم الموظفون والأساتذة والتجار والقضاة على حلق لحاهم وشواربهم، ولم يسمح للأطباء والمحامين بمزاولة مهنتهم ما لم يبرزوا شهادة تؤيد حسن سلوكهم السياسي.
ولأجل معاقبة القرويين الذين اشتركوا بالثورة بأجمعهم منعوا من تسريح أي خادم ما لم يوافق عليه الموظف، بيد أنه أبرز ما يميز استبداده الجنوني إحياؤه عهد السوط، تصاغرت أمامه المظالم التي ارتكبها ضباط راديتسكي، فجلد ثلاثمائة شخص على الملأ خلال الخمسة الأشهر الأولى من حكمه، جلد بعضهم لأنهم أنشدوا نشيدا وآخرون لأنهم حاولوا أن يسكروا ضابطا نمسويا، وبعضهم لأنهم انتقدوا قرارات الدوق، أو لأنهم حازوا نشرة حرة أو اقتنوا جريدة من تورينو، وضرب الأمير بيده بعض المارة لأنهم لم يحيوه.
صفحه نامشخص