Brave New World ، وفيها يعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس. يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد - عالم العقاقير والآلات - تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال. في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم، أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم. ولعل هكسلي من بين الكتاب الأحياء جميعا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يصور نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورة مدهشة يتقزز منها القارئ كما تقزز منها الكاتب.
ونقدي لهذا الكتاب - بل ونقدي لأكثر ما كتب هكسلي - أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويتقزز دون أن يقدم لنا جديدا. فهو يهدم ولا يبني، إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينيه قذر بليد في جسمه وعقله. آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع. وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفة ومليئة بالآراء الوضيعة. وإن رحل إلى بلد جديد ألفى سكانه أغبياء بلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلفهم وراءه في أرض الوطن. وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنسة، وفي الروحية لم يجدها سوى مجرد «انتقال أفكار»
telepathy ، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك. وهكذا الأمر فيما يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئة من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.
ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مثله الأعلى الذي يرمي إليه. وهو يفعل ذلك إلى درجة ما في كتابه «عالم جريء جديد»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يلوث بالعلم والمادة، ولم يتعرض هكسلي لبحث المثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورة جدية إلا في كتابه هذا «الوسائل والغايات» الذي نقدمه اليوم إلى القارئ العربي.
ويتعجب هكسلي لكمية الجهل في العالم، ولضعف النظرة التركيبية عند المفكرين والباحثين. وهو يريد أن يعرف كل شيء، ويعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى قرار في شأن من شئون الحياة إلا إن أدرك كل شيء؛ ولذا تراه لا يني عن الدرس والتحصيل. ويميل هكسلي إلى إخضاع المظاهر المختلفة إلى قاعدة واحدة شاملة، وقد يستطيع في مقتبل العمر أن يقود العالم إلى الخير والسعادة.
وفي كتابه هذا «الوسائل والغايات» عرض ونقد وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة، وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق. وقد عرضناه على القارئ العربي مسهبين حينا وموجزين أحيانا. وقد أوجزت بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق؛ لأنه كان فيها هداما أكثر منه منشئا.
وإنا لنرجو أن يجد كل محب في الإصلاح الاجتماعي هداية في هذا الكتاب، والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
ليس من شك في أننا جميعا متفقون على الغرض الأسمى من مجهود الإنسان في المدنية الراهنة، وليس من شك في أن هذا الغرض هو عينه الذي سيطر على العقول خلال الثلاثين قرنا الماضية. وقد عبر الرسل والأنبياء والمصلحون جميعا عن هذا الغرض من عهد أشعيا في الزمان القديم إلى عهد كارل ماركس في العصر الحديث وليس بينهم من خلاف.
صفحه نامشخص