وقد باتت المثل الصينية العليا منذ عهد كونفيوشس ولاوتسو تجنح إلى الهدوء والمسالمة. أما الشعراء الأوروبيون فقد مجدوا الحرب وشادوا بها. كما أن رجال الدين الأوروبيين يبررون الاضطهاد الديني والاعتداء القومي. ولم يكن الأمر كذلك في بلاد الصين في العهود السالفة؛ فإن الفلاسفة والشعراء في تلك البلاد كانوا - وما يزالون - ينفرون من الروح العسكرية الحربية. الجندي في تلك البلاد رجل وضيع لا يرتفع إلى مستوى العالم أو رجل الإدارة. ومن مآسي التاريخ الكبرى أن إدخال المدنية الغربية على الصين كان معناه إدخال الروح العسكرية على ثقافة ظلت زهاء ثلاثة آلاف عام تدعو بغير توان إلى سياسة السلم والكف عن القتال. أما في العصر الحديث فقد تبدلت هناك الأمور، وفرض التجنيد الإجباري على عدد كبير من الصينيين عام 1936، والجندي هناك اليوم يظفر بإعجاب الجماهير. ومما ساعد على تقوية الروح الحربية في الصين وتعزيزها الاعتداء الياباني المتكرر. وقد تصبح الصين بعد جيلين دولة استعمارية معتدية.
ويعبر بوذا في تعاليمه أحسن تعبير عن حب الهنود للسلام؛ فالبوذية - كالهندوكية - تعلم المرء ألا يؤذي غيره من الكائنات. البوذية تحرم على الرجل أن يشتغل بصناعة الأسلحة أو بيعها أو بصناعة السموم والمخدرات، أو بالجندية، أو قتل الحيوان. البوذية وحدها من بين ديانات العالم العظمى هي التي شقت طريقها بغير قتال وبغير اضطهاد أو رقابة أو تعذيب؛ فهي من هذه الناحية أرقى من المسيحية التي شقت طريقها بين الناس بالسيف وإراقة الدماء. والغضب عند البوذيين مشين بكرامة الإنسان. أما المسيحيون فيرون أن من حق المرء أن يحنق وأن يغضب؛ ومن ثم فإن الأمم المسيحية ترى نفسها مصيبة إذا هي غضبت لكرامتها، فشنت من أجلها الحرب، وارتكبت في سبيلها الفظائع والآثام.
الحرب إذا ليست طبيعية، ولا يبررها العقل، ويمكن أن تزول من وجه الأرض، كما زالت المبارزة بين الفرسان من أجل المرأة، وقد كانت عادة مألوفة في العصور الوسطى، وكما زالت - إلى حد كبير - جرائم قتل الزوجة الخائنة أو عاشق الأم أو الأخت. وكان الناس فيما مضى يحسبون هذه الجرائم طبيعية ولا يحاسب عليها مقترفوها. الواقع أن طبيعة الإنسان مرنة يمكن تشكيلها على صور مختلفة؛ فالرجل المتمدن الآن قد يغار على حبيبته، ولكنه قلما يثور لخيانتها إلى حد قلتها. وعلى هذا القياس نقول إنه بوسعنا - إن صحت عزائمنا - أن نتخلص من وباء الحروب، كما تخلصنا من قتل الزوجات الخائنات وعشاقهن. ليست الحرب من قوانين الطبيعة، وليست من طبيعة الإنسان، إنما هي تشتعل لأن الناس يريدون إشعالها، ونستطيع أن نريد شيئا آخر غيرها فنستبدله بها. وأنا أعترف بأن تغيير الإرادة الإنسانية أمر شاق عسير، ولكنه ليس بالأمر المستحيل. (2) أسباب الحروب
أقول ثانية إن الحرب تشتعل لأن الناس يحبون إشعالها، وهم يحبونها لأسباب متعددة متنوعة، نذكر منها ما يلي: (أ)
كثير من الناس يحبون الحرب؛ لأن أعمالهم وقت السلم مذلة مخيبة لآمالهم، أو لأنها مملة لا تبعث فيهم اشتياقا ولا حماسة. وقد دلت البحوث الحديثة في أسباب الانتحار على أن نسبته تهبط إلى الثلثين بين المدنيين غير المقاتلين في أوقات الحروب،
1
ويرجع ذلك إلى بساطة العيش إبان القتال، وإلى الحماسة الوطنية التي تدفع الأفراد إلى البقاء للعمل في سبي الوطن ، وإلى أن الحياة في زمن الحرب ترمي إلى هدف معين - هو الانتصار على الأعداء. ويرجع تشبث الناس بالحياة كذلك إلى الأمل في انقلاب الأمور وتحسن الأحوال، وإلى التخفف من سآمة العمل وملل الوظيفة؛ لأن العمال والموظفين يشعرون أنهم يؤدون عملا نبيلا نحو أوطانهم بمعونتهم رجال الحرب على تسيير عجلة القتال. ثم إن اتساع الصناعات الحربية يوجد عملا للمتعطلين ويخلق نوعا من الرفاهية المؤقتة بين العمال. ويلاحظ - فوق ذلك - أن الأفراد يتحررون إلى حد كبير من قيود الأخلاق الجنسية؛ لأنهم - وسيف الموت مسلط فوق رءوسهم - يحبون أن يظفروا من الدنيا بخير ما فيها من متع. أضف إلى ذلك كله أن الحياة في زمن الحرب شائقة جدا، على الأقل في السنوات الأولى منها؛ وذلك لأن كثرة الإشاعات، وما تذيعه الصحف كل صباح من أنباء المعارك يرهف الحس ويثير المشاعر. وقد كان المدنيون حتى نهاية الحرب العظمى بعيدين عن أخطار القتال، إذا استثنينا سكان المناطق التي كانت عرضة للغزو المباشر. ولكنهم في الحروب المقبلة سيتعرضون لما يتعرض له الجندي في ساحة الوغى. وسوف يترتب على ذلك أن تفتر حماسة المدنيين للحرب. أما إذا برهنت الغارات الجوية على أنها أقل خطرا مما يرى الخبراء، فقد لا تنطفئ جذوة الحماسة للقتال بتاتا، على الأقل في الأشهر الأولى من اندلاع اللهيب.
ويدل تاريخ الحرب العظمى على أن عددا كبيرا من المحاربين أنفسهم كانوا يستمتعون ببعض ضروب القتال. وكان يرحبون بفرارهم من الأعمال المملة الميتة التي كانوا يمارسونها وقت السلم، حتى إن كان هذا الفرار على حساب التعب البدني والمخاطرة بالموت وبالتشويه الجثماني. غير أنا نرجح أن ظروف الحروب المقبلة سوف تكون قاسية مروعة مما يجعل ذلك النفر من البشر الذين يحبون المغامرة والقتال بطبعهم يمقتون الحرب ويخشون ويمجون النزول إلى ساحاتها. ولكن هذا الإحساس ببغض القتال لن يتولد حتى تشتعل الحرب فعلا بين الأمم. وإلى أن يحين هذا الحين ستعمل جميع الحكومات بجد ونشاط على نشر الدعاية القوية الخبيثة ضد من تتوسم فيهم العداوة لا ضد الحرب في حد ذاتها. هذه الحكومات تنذر رعاياها بأنها ستضرب بالقنابل من الجو تسقطها عليهم أساطيل محتشدة من طائرات الأعداء. وهي تقنعهم - أو ترغمهم - بضرورة التدريب على الاحتياط من الغارات الجوية، وعلى غير ذلك من ضروب التدريب العسكري. وهي تدعي ضرورة التسليح ضد الهجمات وللدفاع. وهي تنفق على هذا التسليح ما يقرب من نصف ميزانيتها. وهي تصنع ملايين الأقنعة الواقية وتوزعها على السكان للوقاية من الغازات السامة - وهي تعلم أن هذه الأقنعة لا تحمي حاملها ولا تقيه، كما أن الأطفال والمرضى والمسنين لا يستطيعون استعمالها، وهي لا تصلح وقاية من أكثر أنواع الغازات السامة. غير أن الحكومة تصم آذانها عن الاستماع إلى ما ينصح به الخبراء المحايدون.
وأعود فأقول إن مجهود الحكومات جميعا موجه إلى الدعاية ضد الأعداء، وإلى الدعوة لضرورة الحرب وإلى زيادة التسليح. وهناك سببان لنجاح هذه الدعاية: أولهما ما ذكرت من قبل وهو أن كثيرا من المحاربين وغير المحاربين يرحبون بالحرب لأنهم يجدون فيها مخرجا من ملل السلم الرتيب، وثانيهما سأذكره فيما يلي عندما أعالج وجها آخر من أوجه الأسباب السيكولوجية لاشتعال الحروب. (ب)
الشعور بالقومية وحب الوطن سبب قوي من أسباب الحروب. إن فكرة القومية محببة إلى النفوس لأن فيها إرضاء لبعض رغبات الإنسان؛ فالقومية عقيدة دينية، الإله المعبود فيها هو الدولة، ورمزها الملك أو الدكتاتور المقدس. والفرد في هذه الدولة المقدسة يعتبر نفسه أرقى من جميع الأفراد في جميع الشعوب الأخرى. وإذا ففي هذه العقيدة القويمة علاج لعقدة النقص. وقد أدرك الدكتاتوريون هذه الحقيقة، فتراهم يؤججون نيران الغرور القومي، فيجنون ثمار ما يعملون في اعتراف الملايين لهم بالجميل؛ لأن هذه الملايين تنعم بالاعتقاد بأنها تتشرف بالعضوية في أمة مقدسة مجدها أثيل. إن الفرد العادي فقير لا أهمية له ولا قيمة؛ ولذا فهو يجد في انتمائه إلى أمة مجيدة بعض العوض عن ضعته وتفاهته.
صفحه نامشخص