ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ژانرها
وبالتحديق جهة الشرق، رأيت قمما عالية ترتفع عموديا فوق الوديان الخضراء والجبال البنية، حتى ارتفاع يصل إلى أربعة وعشرين ألف قدم. كانت هذه هي سلسلة جبال هندوكوش، وهي سلسلة جبال كبيرة تمتد على طول الحدود الشرقية لطاجيكستان، وأفغانستان، وباكستان، وتفصل تلك البلدان عن الصين. إنها في الحقيقة جزء من جبال الهيمالايا. وعلى الرغم من اسم «سقف العالم» الذي يطلق عليها، فإنه من الأنسب التفكير بها على أنها جدار أو متراس؛ فعلى مدى عصور عديدة، كانت أبعد نقطة شرقا وصل إليها أي شخص. وتمثل هذه الجبال للثقافات البشرية ما تمثله الشعاب المرجانية للحياة البحرية؛ فهي غنية ومتنوعة. ففي القسم الأفغاني من هندوكوش، على سبيل المثال، في منطقة بحجم ولاية نيو جيرسي توجد عشرون لغة أصلية وغير مفهومة بعضها لبعض.
وصل الإسكندر الأكبر إلى هذه الجبال لكنه لم يبذل أي جهد لعبورها؛ ربما معتقدا أنها كانت تشكل حافة العالم في أقصى الشرق. سخر منه سكانها، ولم يخافوا من حقيقة أنه كان قاهر بلاد فارس وحاكم أعظم إمبراطورية شهدها العالم حتى الآن، وقالوا إنه للاستيلاء على ملاجئهم التي يتعذر الوصول إليها، سيحتاج إلى «جنود بأجنحة». في إحدى هذه المعارك، أصيب الإسكندر بسهم في كتفه. لم يكن القائد العظيم قد خسر معركة مطلقا في الثماني سنوات التي تلت مغادرته لوطنه في شمال اليونان. لكن هؤلاء الخصوم، كما سجل أحد مؤرخي الإسكندر، كانوا أقوى مقاتلين واجههم في حملته الهندية بأكملها. أعجب بهم الإسكندر بشدة لدرجة أنه تزوج من فتاة محلية تدعى روكسان (كانت «أجمل امرأة رأوها في آسيا»، كما اعتقد جنوده، فقط باستثناء الإمبراطورة الفارسية).
لم يكن الإسكندر الغازي الوحيد الذي صمد أمامه سكان هندوكوش. ويبدو أن الجيوش العربية التي أتت بالإسلام إلى أفغانستان وشمال الهند منذ القرن السابع وما بعده قد اكتفت بحكم مدن السهول الغنية، وتركت سكان الجبال وشأنهم. وفي القرن الرابع عشر، أوشك الغازي الوحشي من آسيا الوسطى تيمورلنك أن يغزوهم؛ حيث شق طريقه بالقتال حتى وصل إلى أعلى قلعة في الجبال. ومع ذلك، لم يستطع الحفاظ على سيطرته، ولم يعتنق السكان المحليون الإسلام أبدا. وبعد مدة طويلة من تيمورلنك، كان الناس في هذا المكان لا يزالون يقدمون القرابين لآلهتهم إمرا وجيش، ويشربون الخمر، ويرقصون - النساء والرجال معا - على منصات خشبية قاموا بتجهيزها بشكل مؤقت في قرى تتشبث بالجبال الشديدة الانحدار مثلما يتشبث البطلينوس بصخرته. وأطلق عليهم جيرانهم المسلمون الخائفون وصف «الكفار»، وهي تسمية يبدو أنهم قبلوها باستمتاع في ذلك الوقت. وسميت المنطقة التي كانوا يعيشون فيها كافرستان.
لم يهتم ماركو بولو بهم عندما مر بهم في القرن الثالث عشر. وكتب: «إنهم وثنيون وهمج لأبعد الحدود، ويعيشون بالكامل على مطاردة الحيوانات ويرتدون جلودها. وهم سيئون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.» لم يكن ذلك غير دقيق تماما - فالكفار كانوا بالفعل يلبسون جلود الحيوانات، ولم يمارسوا الزراعة - لكن من المشكوك فيه أن بولو اقترب منهم. فقد مر وقت طويل بعد زيارة الإسكندر قبل أن يفكر أي غربي في هندوكوش مرة أخرى. •••
يعتقد أن مبشرين كاثوليكيين قد دخلا كافرستان في نهاية القرن الثامن عشر (بناء على قصص رواها سكانها للزوار فيما بعد). قتل الكفار أحدهما بعدما ظنوا أنه روح شريرة؛ ولم يترك أي منهما أي تسجيل لما رأى. في عشرينيات القرن التاسع عشر، سافر موحد اسمه ألكسندر جاردنر من ولاية إلينوي، لديه أصول إسبانية ويتحدث بلهجة أيرلندية، وتلقى تعليمه على يد أقباط كاثوليك، إلى آسيا الوسطى بحثا عن وظيفة تتسم بالمغامرة (حيث سيصبح، بعض الوقت، قاطع طريق). وعلى حد تعبير كاتب سيرته الذاتية المعجب به، اتسمت المدة التي قضاها في المنطقة «بالكمائن، والأعمال الانتقامية الشرسة، وعمليات هروب بشق الأنفس، وأحداث مليئة بالوحشية والقسوة لا يمكن تصورها في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تكون مليئة بالأعمال الخيرية النابعة من القلب والإخلاص حتى الموت». وأطلق عليه الاسم المحلي جوردانا خان.
زعم جاردنر أنه دخل كافرستان مرتين، لكن سجله الأصلي للزيارة ضاع عندما قتل السير ألكسندر بيرنز، المبعوث البريطاني إلى كابول، الذي كان يملك النسخة الوحيدة، على يد مجموعة من الغوغاء في بداية الحرب الأفغانية (قال البعض في ذلك الوقت إن من دفع الغوغاء إلى قتله هم الرجال الأفغان الذين خانتهم زوجاتهم مع بيرنز المتأنق). كان بيرنز، ابن عم الشاعر الأسكتلندي روبي بيرنز، يتحدث اللغة الفارسية بطلاقة وقد ترك سجلا من الشهادات التي تلقاها من الكفار في كابول، وهي شهادات تكشف ممارساتهم المتمثلة في دفن موتاهم في توابيت في الهواء الطلق، وبيع بناتهم بسعر يحدده حجمهن، وإنهاء الخلافات الدموية بين الرجال عن طريق مص بعضهم حلمات بعض.
بعد وفاة بيرنز، مرت سنوات عديدة لم يزر فيها أحد كافرستان. وأصبح يطلق عليها اسم «البقعة المظلمة على خريطة آسيا»؛ فهي مكان لم يتمكن من اختراقه حتى الحكومة الإمبراطورية البريطانية في الهند، التي أرسلت جواسيس لوضع خطة مفصلة لأكثر الأماكن المحظورة التي يتعذر الوصول إليها على حدودها. وفي نهاية القرن التاسع عشر، خطط البريطانيون لكتابة معجم جغرافي عن كافرستان، كما فعلوا لكل منطقة أخرى لها حدود مع الهند، لكنهم في هذه الحالة - بشكل استثنائي - تخلوا عن الفكرة.
ومع ذلك، كان لدى السلطات البريطانية اهتمام كبير بمعرفة المزيد عن أماكن مثل كافرستان، التي كانت ملاصقة للحافة الشمالية لممتلكاتهم البريطانية؛ حيث كان التهديد الخارجي الأكبر لإمبراطوريتهم في الهند في أواخر القرن التاسع عشر هو روسيا، التي كانت تبتلع آسيا الوسطى وتتقدم جنوبا بوتيرة سريعة. وأصبح استكشاف مناطق مثل كافرستان الواقعة بين البريطانيين والروس، بهدف إما ضمها بوصفها حليفا أو الاستيلاء على ممتلكاتها، مسعى استمر عقودا من الزمن وعرف باسم «اللعبة الكبرى». هكذا وجد ملازم يدعى ماكنير، وهو من قدامى المحاربين في الحرب الإنجليزية الأفغانية الثانية، نفسه على حدود كافرستان في عام 1883 أثناء إجازته الرسمية، حيث دهن بشرته بعصارة الجوز ليجعل لونها أغمق ووضع أدوات قياس في حقيبة طبية زائفة. كان يحول نفسه إلى «صاحب جول ماكنير حسين شاه» ويأمل أن يدخل كافرستان بصحبة صديقين من قبيلة بشتونية محلية. لا بد أن ماكنير فكر مليا قبل أن ينزل من على مسار يصطف على جانبيه ركام من الأحجار الصخرية التي كانت تغطي بشكل غير مثالي جثث الرحالة السابقين الذين قتلوا على يد الكفار الذين كانوا يحمون عزلتهم بوحشية. كتب ماكنير: «من بين جميع الأفعال البارزة كان ذبح [مسلم] يحتل المقام الأول بين الكفار». وكان رأس الضحية يوضع على شجرة طويلة. ولحسن الحظ، كان الرجلان اللذان كانا مع ماكنير ينتميان إلى قبيلة كان الكفار يتعاملون معها بفزع ناجم عن الخرافات، ومن ثم كان يسمح لأفرادها عموما بالمرور دون التعرض لأذى.
كانت زيارة ماكنير للكفار قصيرة للغاية ولم يكتشف سوى القليل. قدر عددهم بمائتي ألف. وأضاف أن: «أصنامهم عديدة، ففي كل واد وجدول توجد مجموعة منها غير معروفة إلا لهذه المنطقة فقط، ومن المفترض أن هذه الأصنام تجسد الأبطال الذين عاشوا بينهم في الأيام الغابرة والذين أصبحوا الآن أرواحا تشفع لهم لدى الإله إمرا.» اعتبر أن خمرهم كانت ضعيفة الأثر، وقد اندهشوا من الويسكي الذي كان، بعد تمعن وتفكر قد أحضره معه. والأهم من ذلك أنه أشار إلى أنهم «كانوا على استعداد تام لمساعدة البريطانيين ... ولن يترددوا في وضع خدماتهم تحت تصرفنا، إذا تطلب الأمر ذلك.» سجل كل هذا في كتيب مختوم بكلمة «سري» قدمه إلى قسم الاستخبارات في وزارة الحربية البريطانية. وكتب قائمة مفردات، كملحق له، توضح ما كان يرى أن الزائر قد يحتاج في المستقبل إلى قوله، مثل «إنه شديد الانحدار وقد أسقط» و«سأقدم عنزة قربانا إلى إمرا».
كانت رؤى ماكنير ضحلة، وظلت كافرستان لغزا حتى وصول جورج سكوت روبرتسون. كان روبرتسون في الأصل طبيبا بالجيش، وكان من جزر أوركني البرية النائية. وربما وجد صدى لموطنه في «بلد الجن الحقيقي» الذي رآه من قمة جبل عندما كان يعمل مسئولا في أقصى الحدود الشمالية الغربية للهند البريطانية. ووصف إطلالة كافرستان بأنها «تمتد بعيدا إلى ما وراء العدم». ومنذ تلك اللحظة، كما يخبرنا في كتاب كتبه لاحقا عن رحلته الاستكشافية، أصبح متعلقا بها. وأثناء إقامته بصفته ضابطا سياسيا بريطانيا في جلجت المجاورة، راقب أي كافر قد يجده هناك، وفي النهاية زار البعض منهم المنطقة وقدموا إليه. في البداية، وجد مظهرهم مثيرا للاشمئزاز، لكنه رأى بعد ذلك أن «الرداء البني القذر، الذي يتخطى الكعبين ويصل إلى الأرض، يخفي أجسادا نشيطة رياضية، وأن الوجوه اللطيفة المتملقة ذكية وجذابة، ويمكن أن تنظر في بعض الأحيان نظرة محدقة ثابتة جريئة، أو نظرة خاطفة متوحشة مثل نظرة الصقر ؛ وأن الرجال الذين يلعبون دور المتسولين الأذلاء ... قادرون في أي لحظة على التخلص من قناع التواضع وإظهار صفاتهم الأصلية.» وقد اكتشف مدى صحة ذلك عندما تمكن من الحصول على إذن ليس فقط لزيارة الكفار وإنما للعيش بينهم لمدة وصلت إلى عام كامل.
صفحه نامشخص