ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ژانرها
نجا السامريون من المصير الذي تعرض له اليهود سنة 70 ميلادية عندما هزمت الجيوش الرومانية ثورة يهودية ونهبت مدينة أورشليم ودمرت هيكلها إلى الأبد، والكارثة الأسوأ التي حاقت باليهود بعد ثورة أخرى في ثلاثينيات القرن الثاني الميلادي، عندما قتل نصف مليون يهودي ونفي الباقون نفيا تاما من موطنهم. وفي الواقع انتعش السامريون في غياب منافسيهم القدامى. وذكر زعيمهم في هذا الوقت، بابا رابا، بعد ذلك في الأساطير بوصفه مصلحا وصانع معجزات. ربما يكون العمل التبشيري المسيحي قد أثار سلسلة من حركات تمرد السامريين في القرن السادس، دمر بعدها الإمبراطور جستينيان جميع معابد السامريين، ومنعهم من العمل في الحكومة ومن الانضمام للجيش الإمبراطوري، وحظر عليهم الشهادة ضد مسيحي في المحكمة، ومنعهم حتى من نقل ممتلكاتهم إلى ذريتهم. وليس غريبا أن السامريين أصبحوا معادين للغرباء؛ حيث ذكر حاج مسيحي يدعى أنطونينوس من بياتشينزا أنه عندما زار البلدات السامرية، «أخفوا آثار أقدامنا بحرق القش، وسواء كنا مسيحيين أو يهودا، كان لديهم خوف كبير من الاثنين.» وبالمثل، لا عجب في أن السامريين رحبوا بقدوم العرب المسلمين عام 637.
قد يبدو غريبا، باعتبار أن الصراع العربي الإسرائيلي أصبح يحدد العلاقة بين المسلمين واليهود، أن تلك العلاقة كانت يوما ما وثيقة ومحترمة. ففي وقت من الأوقات، كان اليهود والمسلمون يستقبلون القبلة ذاتها في صلاتهم، شطر أورشليم، قبل أن يتحول المسلمون صوب مكة بدلا منها. وعلى الرغم من أن المسلمين الأوائل حاربوا القبائل اليهودية في شبه الجزيرة العربية، فإن العديد من الآيات القرآنية تدعو إلى احترام اليهود والتسامح معهم. وعموما اعتبر المسلمون واليهود بعضهم بعضا موحدين بصورة أشمل من المسيحيين لأن كلتا المجموعتين رفضت فكرة أن يسوع هو تجسد الله، ورفضوا تصوير الله بأي صورة. أكد العالم اليهودي العظيم موسى بن ميمون (الذي عرف الإسلام من الداخل، بعد أن أجبر على ممارسته بوصفه مسلما في مرحلة ما من حياته قبل السماح له بالعودة إلى اليهودية) أن المسلمين، «في إسناد الوحدانية إلى الله؛ ليس لديهم أي خطأ على الإطلاق». فقد استقى العلماء المسلمون من العلم اليهودي عند وضع الفقه الإسلامي الأول، وكانوا يدخلون أحيانا عقوبات تلمودية بدلا من العقوبات القرآنية الأقل شدة (على سبيل المثال، انتهاج ممارسة الرجم في حالة الزنى). لم يضمن أي من هذا معاملة جيدة لليهود، الذين يمكن دائما استخدام رفضهم لاعتناق الإسلام ضدهم. وبعد الفتح الإسلامي، واجهوا تمييزا قانونيا وكانوا دائما عرضة لنوبات الاضطهاد. لكنهم ظلوا طويلا موالين لحكامهم المسلمين حتى الحملة الصليبية الأولى، عندما قاتلوا إلى جانب المسلمين للدفاع عن القدس من المسيحيين الفرنجة.
شكك الحكام المسلمون الأوائل فيما إذا كان السامريون من أهل الكتاب حقا، وفرضوا عليهم ضرائب إضافية مقارنة بجيرانهم المسيحيين واليهود. ومع ذلك، فقد استفاد السامريون من الفتح الإسلامي، حتى أكثر من اليهود. فقد كتب المؤرخ الإسرائيلي ناثان شور أن «الفتح العربي ساعد حقا المجتمع السامري الداخلي، ومنحه حرية العبادة التي لم يكن يعرفها منذ قرون وجعل ازدهار دين المجتمع السامري وأدبه في العصور الوسطى أمرا ممكنا.» تخلى السامريون عن الآرامية وبدءوا يتحدثون العربية، وابتكروا أسماء مميزة لأنفسهم (على سبيل المثال، عبد يهوه، بدلا من النسخة الإسلامية، عبد الله؛ فخلافا للنسخة اليهودية من الوصايا العشر، لا تحرم نسخة السامريين من الوصايا استخدام اسم الله).
ودون اضطهاد، ظل السامريون يعتنقون الإسلام؛ من أجل المكاسب الاقتصادية، والرقي الاجتماعي، ولأسباب دينية. لذلك استمر المجتمع في التقلص، ولم تدم المعاملة الجيدة. وأصدر الحكام المسلمون المتشددون، أحيانا تحت ضغط من رجال الدين، قوانين عقابية ومهينة تهدف إلى تشجيع السامريين على تغيير دينهم، ولم يكن بمقدور أولئك الحكام الذين كانوا ليبراليين أو ودودين أن يفعلوا أكثر من منح الإغاثة المؤقتة. وتقلصت مجتمعات السامريين في القاهرة، وغزة، وحلب، ودمشق تباعا واختفت، حتى أصبحت نابلس المكان الوحيد الذي يمكن العثور عليهم فيه. وبحلول القرن السادس عشر، عندما ظهر سامريون معاصرون في السجلات الغربية لأول مرة، كانوا يتوقون إلى العثور على أي عدد منهم قد يظل موجودا، مبعثرا في أنحاء العالم. وخدعهم عالم فرنسي يدعى جوزيف اسكاليجيه في ذلك الوقت وجعلهم يظنون أنه قد يكون هو نفسه عضوا في جماعة مفقودة منذ زمن طويل في أوروبا؛ ولذا كتبوا إليه آملين: «نسألك بحق الرب، ونستحلفك باسمه المقدس، ألا ترد طلبنا دون إجابة ... هل يوجد بينكم كهنة ينحدرن من نسل لاوي، أو هارون، أو فينحاس، أو هل لديكم كهنة على الإطلاق؟» (كان هارون، من سبط لاوي، جد جميع الكهنة اليهود في العصور التوراتية، وكان فينحاس حفيد هارون.) كانت تلك نسختهم الخاصة من أسطورة الأسباط العشرة.
على الرغم من تضاؤل عددهم، اعتبر السامريون أنفسهم ورثة لتاريخ مشرف وقديم. وفي رسالتهم إلى اسكاليجيه تفاخروا بأنه لا يزال لديهم رئيس كهنة ينحدر من نسل فينحاس (أضاف كاتب الرسالة بصيغة تنافسية: «لا يملك اليهود كهنة منحدرين من فينحاس»). لقد تذكروا، على عكس معظم اليهود، السبط الذي ينتمون إليه؛ فالكهنة السامريون مثل الكهنة اليهود، «الكوهينيم»، من نسل لاوي، بينما يرجع السامريون العاديون نسبهم إلى يوسف. وفي عشرينيات القرن التاسع عشر قال سامري يدعى إسرائيل الشلبي للمبشر جوزيف ولف إن السامريين لم ينسوا أنهم من نسل يوسف، الذي تعرض للخيانة والبيع في سوق العبيد بسبب إخوته. وقد ورث السامريون عنه مظلمته؛ ومن ثم كانوا يستاءون من اليهود، ويقول تعقيبا على ذلك: «نحن أبناؤه، لا يمكننا أبدا أن ننسى أن إخوة يوسف، أبينا، عاملوه بقسوة شديدة.»
حتى عام 1772، كانت قوانين نابلس تفرض على السامريين ارتداء أجراس في الأماكن العامة ومنعتهم من ركوب الخيول (في حالات الطوارئ، يمكنهم ركوب البغال). وكانت السياسات المحلية في نابلس عنيفة وسريعة التغير؛ حيث انتهز العديد من الديماجوجيين الفرص لمهاجمة السامريين كوسيلة لتلميع مؤهلاتهم الإسلامية. ونجح أحد هؤلاء في بدء شغب في خمسينيات القرن التاسع عشر، وأثناء ذلك أخذ بعض الرجال في الهتاف بأن السامريين يجب أن يمنحوا خيار اعتناق الإسلام أو الموت. وجاء حاخام اليهود الأكبر من القدس في الوقت المناسب ليتقي حدوث كارثة بأن صدق على أنهم موحدون حقيقيون (وهي خطوة ذات أهمية تاريخية، بالنظر إلى العلاقة السيئة التقليدية بين اليهود والسامريين).
سجل القس بليني فيسك، وهو مبشر أمريكي نشرت مذكراته بعد وفاته عام 1828، لقاءه مع السامريين: «استفسروا عما إذا كان يوجد أي سامريين في إنجلترا، وبدوا غير راضين على الإطلاق عندما أجبناهم بالنفي. وعندما علموا أنني من أمريكا، استفسروا عما إذا كان يوجد سامريون هناك. فأجبتهم بالنفي، لكنهم بثقة أكدوا عكس ذلك، وأنه يوجد الكثير منهم في الهند أيضا.» توجه رجل ويلزي، يدعى جون ميلز، كان قد علم نفسه العبرية، واللاتينية، واليونانية، إلى نابلس في خمسينيات القرن التاسع عشر. علق ميلز بقوله إنه وجد السامريين شعبا جذابا: «كمجتمع، لا يوجد شيء في فلسطين يمكن مقارنته بهم ... فهم طوال القامة ويتسمون بالرقي في المسلك.» وبعبارة ذات مغزى، أضاف أنه كان بينهم «شبه لا تخطئه عين كالشبه بين أفراد العائلة الواحدة.» وقد استمر ذلك حتى اليوم، بما في ذلك شحمة الأذن الكبيرة بشكل مميز. عندما سألوه عما إذا كان يوجد عبرانيون في بلده، ظن ميلز أنهم يقصدون اليهود وقال: نعم. ومجددا أصبحوا متحمسين بشدة لفكرة أنهم قد يجدون مستوطنة مفقودة من السامريين. لكن الحقيقة أنهم كانوا وحدهم في العالم.
كانوا يأملون في العثور على المسيا، أو التاهب، كما يطلقون عليه. كتب جون ميلز أنهم يعتقدون أن المسيا الذي ينتظرونه سوف يأتي «ليس لسفك الدم، وإنما لشفاء الأمم؛ وليس لشن الحرب، بل لجلب السلام». لقد توقعوا، لأسباب لا يوضحها ميلز، أن المسيا سيأتي في عام 1910، لكنه لم يفعل. من ناحية أخرى، كان الانتداب البريطاني، الذي دخل حيز التنفيذ في فلسطين عام 1920، نقطة تحول. فمن تلك اللحظة بدأ المجتمع في التعافي، بتشجيع من المسيحيين البريطانيين الذين كان لديهم انطباع جيد عن السامريين بسبب صلاتهم التوراتية. وقد جاء العون في الوقت المناسب؛ حيث كان المجتمع قد وصل إلى انخفاض لم يسبق له مثيل وهو 146 عضوا.
وكانوا قد استمروا عبر القرون في نسخ نصوصهم التوراتية القديمة على الرقوق، التي اعتقدوا أنها تثبت الادعاءات بأن جبل جرزيم هو جبل الرب المقدس. وتذكروا أيضا النزاع القديم بين إسرائيل ويهوذا. وعندما اقترحت إقامة الدولة اليهودية الجديدة في الأربعينيات، أوضح كاهن سامري لمسئول بريطاني بكل عزة بوصفه آخر ورثة بيت إسرائيل: «أنا لا أعادي اليهود في استردادهم مملكتهم مرة أخرى. أنا غاضب من أنهم سيستقرون على أرض ملك لإسرائيل، ولم تكن ملكا لهم من قبل مطلقا!» لم تردعه حقيقة أن عدد السامريين في ذلك الوقت كان مائتي شخص واليهود نحو أحد عشر مليونا. وكما علق كاتب الرحلات البريطاني إتش في مورتون في الآونة ذاتها تقريبا: «أظن أن السامريين يعتبرون العرب الذين كانوا موجودين هناك منذ عام 638 بعد الميلاد مجرد متطفلين!» •••
أثناء إجراء البحث المتعلق بهذا الكتاب، عاودت النظر، في عام 2012، في العناصر التي كنت قد احتفظت بها منذ كنت قنصلا في القدس. كانت بمنزلة مجموعة من الذكريات. فقد كانت توجد تذكرة لحضور قداس عيد الفصح في كنيسة القيامة، حيث نظرت إلى أسفل من قبة الكنيسة لأرى البطريرك الأرثوذكسي يجلب النار، حسب الظاهر بمعجزة، من الكشك الصغير الذي يقال إنه يئوي قبر المسيح. وكانت توجد صورة فوتوغرافية للحائط الغربي، حيث لا يزال اليهود يذهبون لينوحوا على تدمير الهيكل عام 70 بعد الميلاد على يد الرومان، الذين كانوا مصرين على القضاء على الديانة اليهودية؛ لأنها أظهرت مقاومة شديدة لحكمهم. (والحائط الغربي هو في الواقع الجسر الذي بني عليه المعبد، وليس جزءا من المبنى الأصلي نفسه.) وكانت توجد أيضا صورة لقبة الصخرة الذهبية، التي بنيت على موقع الهيكل القديم بعد الفتح الإسلامي.
صفحه نامشخص