ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ژانرها
زرت مدينة نابلس عدة مرات، وهي مدينة ذات منازل من الحجر الجيري الأبيض كانت تشتهر ذات يوم بجمالها وبزيت الزيتون، وكانت على بعد نحو ثلاثين ميلا شمال القدس. جاء اسمها من الاسم الذي أطلقه عليها الرومان، نيابوليس، والذي يعني «مدينة جديدة». وكان يطلق على المدينة القديمة التي كانت موجودة في الجوار، والتي دمرها الرومان، اسم شكيم، وتعني «السرج»؛ لأنها كالسرج تماما تنخفض من المنتصف وتحدها من الجانبين سلسلة جبلية، حيث يوجد هنا جبلان يحيطان بواد. وهذان الجبلان هما جبل جرزيم غربها، وجبل عيبال شرقها. وهما قريبان بما يكفي حتى إنه كان يوما ما يمكن لحيوانات ابن آوى أن يعوي أحدها للآخر عبر الوادي بين الجبلين. يشغل موقع مدينة شكيم القديمة الآن مخيم للاجئين تابع للأمم المتحدة يسمى بلاطة، وأتيحت لي فرصة زيارته عندما مولت القنصلية مشروعا مسرحيا هناك.
في عام 1950، استقر هنا في خيام فلسطينيون من قرى قريبة مما يعرف الآن بتل أبيب، هاربين أو مطرودين من قبل الجيش الإسرائيلي المنتصر. حاليا حلت محل الخيام منازل خرسانية، وأصبح المكان ضاحية فقيرة من ضواحي نابلس، رغم أن أهلها لم يتقبلوا أبدا مصادرة بيوتهم الأصلية. أخذتني مجموعة من شبان المخيم الذين شاركوا في المشروع المسرحي في جولة في المنطقة المحلية. وتجولنا في مدينة نابلس وجربنا بعضا من الكنافة الحلوة الشهيرة، المصنوعة من الجبن وتقطر بالعسل، والتي تعد إلى جانب صابون زيت الزيتون من السلع المميزة للمدينة.
يقع بئر يعقوب على أطراف بلاطة. وسواء استخدم البطريرك اليهودي يعقوب هذا البئر أم لا، فمن المؤكد أنه يعتبر موقعا مقدسا منذ آلاف السنين. ففي الأناجيل المسيحية، طلب يسوع من امرأة أن تخرج ماء من البئر ليشرب. اندهشت المرأة، التي كانت سامرية، لأنه تحدث معها؛ لأن «اليهود لا يعاملون السامريين». يظهر الصراع ذاته بين اليهود والسامريين في مثل يسوع عن السامري الصالح: رجل يهودي يرقد جريحا على جانب الطريق، ويمر به كاهن يهودي ولاوي ويتجاهلانه (ليس لأنهما قاسيا القلب، ولكن لأنه كان محرما على الكاهن أن يلمس جثة، وخشيا أن يكون ميتا). وسامري هو الذي يساعد اليهودي الجريح، ولذلك فهو، كما يقول يسوع، من يجب أن يحبه أتباعه اليهود. وحقيقة أنه سامري هي التطور غير المتوقع في القصة؛ لأن السامريين واليهود كانوا أعداء قدامى. وكانت ممارساتهم الدينية شبه متطابقة، لكن الاختلافات في تأويل التاريخ جعلتهم في حالة حرب.
يمضي التأويل السامري على النحو التالي. في القرن الثامن قبل الميلاد، احتلت مملكتان، إسرائيل ويهوذا، قرابة أراضي إسرائيل الحديثة. وتقاتلت المملكتان، لكن سكانهما كانوا يشتركون في دين ونسل مشترك؛ لأنهم كانوا جميعا ينتمون إلى إحدى القبائل الاثنتي عشرة التي كانت تنحدر من أبناء يعقوب الاثني عشر. وكانت مملكة إسرائيل هي الأقدم بين المملكتين وكانت في الأصل موقع الأماكن الدينية المقدسة. ولكن عندما غزا الآشوريون تلك المملكة في القرن الثامن قبل الميلاد، سبي عشرات الآلاف من سكانها إلى شمال العراق. ونجت مملكة يهوذا، وأصبح سكانها يدعون اليهوذيين، ثم اليهود. وسيقوا، هم أيضا، إلى السبي في بابل، وعادوا بأفكار جديدة وتقاليد مختلفة. أما المنفيون من إسرائيل، فلم يسمع عنهم مرة أخرى، وأصبح يطلق عليهم اسم «الأسباط العشرة المفقودة».
ولكن، يقول السامريون، إن القبائل العشر لم تفقد جميعها حقا. فبالفعل رحل الآشوريون البعض، لكن آخرون بقوا. وكان تبجيل جبل جرزيم هو الوصية الأخيرة من وصاياهم العشر. وفي العقيدة السامرية، خلق آدم من تراب مجمع من جبل جرزيم. وهنا استقرت سفينة نوح، وليس على جبل أرارات، وهنا أعطي موسى الشريعة، وليس على جبل سيناء، وهنا أخذ إبراهيم إسحاق ليقدمه قربانا، وليس على جبل المريا في القدس. كان لديهم ثلاثة عشر اسما مختلفا تكريما له، مثل آر جرزيم، «جبل الوصايا»، جابات أولام، «جبل العالم»، وآر أشيكينا، «جبل مسكن الرب». وقد بنوا عليه معبدا، وفي كل عام ينصبون الخيام على قمة الجبل، ويعيدون تمثيل قربان عيد الفصح وفقا للطقوس الواردة في سفر الخروج.
لم يسموا أنفسهم يهودا، ولكن بدلا من ذلك سموا أنفسهم العبرانيين أو الإسرائيليين. كما أطلقوا على أنفسهم اسم «الشمارين»، وهي كلمة آرامية تعني «الأوصياء»؛ أصل كلمة «السامريين». اعتبر السامريون أنفسهم ملتزمين حرفيا بالتقاليد القديمة التي كان قد تخلى عنها جيرانهم الجنوبيون من اليهود. واعتبروا الهيكل اليهودي في القدس بدعة آثمة من الملك داود، وهو شخصية يكنون لها بغضا خاصا؛ وحتى يومنا هذا، لم يحمل أي سامري اسم داود. والقدس، من وجهة نظر السامريين، مدينة وثنية غير صالحة لتكون موقع الهيكل.
تتطابق النسخة اليهودية فيما يتعلق باختفاء الأسباط العشرة، لكنها بعد ذلك تتطور بشكل مختلف. فقد أقرت السلطات الدينية اليهودية بأن القبائل العشر كانت مفقودة حقا. وكان السامريون ينحدرون من نسل شعوب من أجزاء أخرى من الإمبراطورية الآشورية، واستقروا هناك مكان الأسباط العشرة (فوفقا لسفر الملوك «وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعوا وحماة وسفروايم، وأسكنهم في مدن السامرة عوضا عن بني إسرائيل») واتبعوا فيما بعد الممارسات اليهودية. أقنع هؤلاء المستوطنون في النهاية كاهنا منشقا من الهيكل في القدس بإنشاء معبد لهم على جبل جرزيم. من الممكن أن يقبل السامريون باعتبارهم على قدم المساواة مع اليهود؛ ولكن فقط «عندما ينكرون جبل جرزيم ويعترفون بأورشليم وبقيامة الموتى»، كما يقول التلمود البابلي؛ لأنهم «يتزوجون من نساء غير شرعيات»، وهو ما يعني على الأرجح الزواج بنساء من أعراق أخرى. وطالما حافظوا على هذه العادات غير المقبولة، فلن تكون ثمة أي صلة بين اليهود والسامريين.
كان من المحتم أن يتسبب حكم التلمود في حدوث توتر، لكن الخصومات السياسية جعلت العلاقات أسوأ؛ فوفقا لنمط يعود إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا القديمتين، تميل المجموعتان إلى دعم فريقين متضادين في صراعات السلطة الإقليمية. عندما حارب الإسكندر الأكبر اليهود سانده السامريون؛ وعندما غير الإسكندر رأيه ودعم اليهود، انتهى به الأمر إلى الدخول في حرب مع السامريين. وعندما تمرد اليهود على خلفاء الإسكندر الإغريق في الحروب المكابية في القرن الثاني قبل الميلاد، دعم السامريون الجانب الآخر؛ وانتقاما، أحرق المتمردون اليهود المعبد السامري. ولكن في أعقاب تلك الحروب، قمع اليهود وازدهر السامريون.
وبحلول زمن يسوع، ربما يكون عدد السامريين قد بلغ نصف مليون شخص تقريبا. ومع ذلك كانت العلاقات أسوأ من أي وقت مضى. في سنة 9 ميلادية تسللت عصابة سامرية إلى أورشليم ودنست الهيكل اليهودي ببعثرة عظام بشرية فيه. وفي سنة 50 ميلادية، قتل يهودي كان مسافرا من الجليل لزيارة الهيكل في أورشليم على يد سامريين في قرية في موقع جنين الحالية. وكان يسوع يكرز بين هذين التاريخين، وأخبر رسله في البداية ألا يدخلوا بلدات السامريين عندما يمضون في مهماتهم التبشيرية؛ إما لهذا السبب أو بسبب الخوف على سلامتهم. ومع ذلك، رجع في وقت لاحق عن قراره وخطط للسفر عبر الأراضي السامرية في طريقه إلى أورشليم. يظهر لقاء يسوع بالمرأة السامرية عند بئر يعقوب وحكاية السامري الصالح موقفا أكثر ودية تجاه السامريين. في الواقع، اتهم يسوع في مرحلة ما بأنه سامري. وربما لهذا السبب، اجتذبت المسيحية في وقت مبكر السامريين الذين غيروا دينهم.
ولكن ماذا حدث للسامريين بعد ذلك؟ كما اتضح، كان لدى أصدقائي من بلاطة مفاجأة لي. صعدنا طريقا ملتويا على جانب جبل جرزيم، ودخلنا قرية صغيرة على قمته. تميزت الأبنية بأحرف عبرية قديمة كخيوط العنكبوت، وكان رجل يرتدي حلة بيضاء وطربوش رجل دين لونه أحمر وأبيض يسير في الشارع. وشرح متحف صغير هوية الرجل وغيره من سكان القرية. كانت هذه القرية الواقعة على قمة الجبل، التي أطلقوا عليها اسم «اللوز»، وشارع في إحدى ضواحي العاصمة الإسرائيلية، تل أبيب، هما المكانين المتبقيين اللذين لا يزال يمكن فيهما العثور على ال 750 سامريا الموجودين في العالم.
صفحه نامشخص