ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
ژانرها
لم يكن الشيخ صريحا جدا وفقا لأحد العلويين الذي طلب عدم الكشف عن هويته. وتتضمن أكثر طقوس العلويين سرية شرب خمر مقدسة وتظهر تأثيرات مسيحية واضحة جدا - فهم يسمونه القداس، وتشير كتبهم إلى المسيح - ولكنها تقتبس أيضا من التقاليد الآتية من إيران؛ فجوهر الطقوس موروث من الزرادشتية، التي تعتبر فيها الخمر وسيلة لتحقيق التواصل مع الله. يمكن أن تتناسخ أرواح الناس من جديد في هيئة نباتات أو حيوانات؛ ولعل هذا هو السبب في أن بعض أنواع الأشجار لها أهمية متسمة بالتقديس، رغم أن الشيخ نفى ذلك. والكتب المقدسة العلوية (التي نشرها علماء غربيون، مع أنه لا يمكن لغير المنضمين للطائفة أن يطلعوا عليها) تعلم أفكارا أباحها الفلاسفة المسلمون الأوائل واستمرت أيضا في تقاليد حران. وتسرد الكتب العديد من الشخصيات من التاريخ بوصفهم نظراء بشريين لخدام الله السماويين؛ ليس فقط أشخاصا مألوفين من الإسلام والمسيحية، مثل محمد ويسوع، ولكن أيضا آخرون مستمدون من التراث الكلاسيكي، مثل أفلاطون والإسكندر الأكبر. أعظمهم، في تراثهم، هو علي، صهر محمد. فقد كان لمحة عن الله أو صورة له، وهو أقرب شيء إلى الله على الأرض يمكن للعقل البشري المحدود أن يدركه. وسيكون من الصواب تعظيم علي بقول إنه الله، ولكن من الخطأ جعل الله محدودا بقول إن الله هو علي. (في الحقيقة يقول العلويون: «الصورة هي الله، ولكن الله ليس الصورة»، وهي عبارة تشبه تلك التي استخدمها المسيحيون النسطوريون في نص يرجع تاريخه إلى سنة 550 ميلادية: «المسيح هو الله، ولكن الله ليس هو المسيح.»)
يشارك العلويون أيضا الإيزيديين والحرانيين في تقديس الكواكب. وسميت إحدى قبائلهم تيمنا بالشمس، وأخرى بالقمر. كان تعظيم الشمس والقمر يعد فضيلة، على الأقل لدى بعض العلويين. «إنهم لا يحبون القمر»، هكذا اشتكى أعضاء إحدى القبائل العلوية من قبيلة أخرى عندما تحدثوا إلى مبشر بريطاني من القرن التاسع عشر يدعى صموئيل لايد، الذي كتب لاحقا كتابا عن تجاربه وسط المجموعة. وقالوا له أيضا إن عليا، الذي كان أقرب شيء إلى الله على الأرض، قد أخفى نفسه في عين الشمس؛ وكانت تلك حجتهم في أنهم يولون وجههم شطر الشمس وقت الصلاة. (كان ثمة اعتقاد مشابه بشأن الإله ميثرا؛ ومن المحتمل أنه في مرحلة ما حل اسم علي محل ميثرا، إما كذريعة أو توفيق متعمد، وأنه بمرور الوقت نسي الارتباط الأصلي.)
عندما وطئت قدم نيل أرمسترونج القمر، أثار ذلك أزمة لاهوتية بين العلماء العلويين. إذ كانوا يعتقدون، مثل الحرانيين، أن القمر كان تجليا ماديا لروح كانت في التسلسل الهرمي السماوي وسيطا بين الله والإنسان؛ ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحا إذا كان كتلة صخرية، وليس حتى القمر الوحيد في الكون، ولكنه واحد من كثير؟ لذلك كتب شيخ علوي اسمه أحمد محمد حيدر كتابا بعنوان «ما بعد القمر»، حاول فيه شرح المشكلة. هذا، على الأقل، ما أخبرني به مصدري المجهول. ومع أنني وجدت أن الكتاب قد نشر بالفعل، ووجدت نقدا له أكد أنه ناقش طبيعة النجوم والكواكب، فإن جميع نسخه اختفت في ظروف غامضة؛ لذلك لم أتمكن مطلقا من اكتشاف حل الشيخ المقترح للمشكلة. وتتلاءم هذه السرية المطلقة مع ما كتبه جاكوب دي فيترياكو، الأسقف الصليبي لعكا في القرن الثالث عشر، عن عقائد العلويين السرية، التي سماها دستورهم: «إذا كشف أي ابن عن الدستور لأمه، يقتل بلا رحمة.» وما زال العلويون متكتمين بصرامة حتى اليوم. بل هم أكثر من ذلك، في الواقع، بسبب قوتهم السياسية وارتباطهم بنظام الأسد المثير للجدل. لذا لم أتعمق كثيرا في استفساراتي بشأن معتقدات العلويين.
أما الإيزيديون، الذين لا سلطة لهم، فهم أقل خجلا. أخبرني ميرزا أن الشيخ شمس «مسئول عن» الشمس. لكنه أيضا ملاك جاء إلى الأرض وتجسد في هيئة بشرية لنشر الحكمة الإلهية. ثمة أوجه تشابه أخرى بين الحرانيين، والعلويين، والإيزيديين. فالثلاثة يؤمنون بتناسخ الأرواح ويعظمون النار. (علق بيرسي بادجر، وهو مبشر بريطاني من القرن التاسع عشر، قائلا إن الإيزيديين «لا يبصقون في النار أبدا، وفي كثير من الأحيان يمررون أيديهم عبر ألسنة اللهب، ويتظاهرون بأنهم سيقبلونها ويغسلون وجوههم بها.») ويصلي الإيزيديون والعلويون ثلاث مرات في اليوم وهم مولون وجوههم صوب الشمس، ويخبرنا البيروني أن الحرانيين يصلون ثلاث مرات في اليوم صوب الجنوب، ولكن الشمس تكون جهة الجنوب وقت الظهيرة. يشترك بعض الإيزيديين في التحريم المقدس بقتل الأسماك، التي يعتبرونها مقدسة لأنها تعيش في الماء. (أخبرني أحد أصدقاء ميرزا إسماعيل، وهو أبو شهاب، بأن أحد أولياء الإيزيديين نصب خيمته عند دمشق «منذ 1350 عاما» وأن السمك خرج من النهر ليكون أوتاد خيمته، ومنذ ذلك الحين ، لم يقتل الإيزيديون الأسماك. وأضاف أن دمشق كانت فيما مضى إيزيدية. وبالفعل، السنين سجل البيروني من ألف سنة أن الحرانيين كان لهم مزار مقدس في دمشق.) •••
يتجه الطريق شرق أورفة نحو الأرض التي لا يزال يعيش فيها الإيزيديون. أصبح فقر الأماكن التي مررنا بها أكثر وضوحا، حتى من المطاعم الموجودة على جانب الطريق التي توقفنا عندها. في آخر هذه المطاعم، لم يكن يوجد سوى مطبخ مكشوف يصطف أمامه رجال محبطون يحملون أوعية حساء فارغة، يهشون الذباب بعيدا. شعرت أنني بعيد بقدر يفوق التصور عن المنتجعات السياحية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في تركيا، لكن شيئا واحدا على الأقل كان مألوفا أكثر لي هنا؛ فاللغة التي سمعتها كان لها صدى أماكن أخرى عرفتها. قال السائق عندما توقفنا: «بانج دكا». تعرفت على هذه العبارة؛ فهي تعني: «خمس دقائق». كانت العبارة ذاتها التي سمعتها في إيران وأفغانستان. سأل رجل رجلا آخر: «تشوني؟» أي «كيف حالك»، وكان الرد «باشي، أنا بخير».
كانت هذه هي اللهجة الكرمانجية، الخاصة باللغة الكردية، التي ما زالت موجودة مئات السنين رغم الجهود المستمرة التي تبذلها الحكومة التركية لقمعها. عندما كان الرجل صاحب الشخصية الآسرة، مصطفى كمال، الملقب «أتاتورك»، يحاول بعد الحرب العالمية الأولى تكوين دولة تركيا الحديثة مما تبقى من الإمبراطورية العثمانية الآخذة في الاضمحلال، شعر بأن تنوع دولته الجديدة كان مصدر ضعف وانقسام. فحاول قمع العديد من الهويات المحلية والإقليمية، ونجح في بعض الحالات، ولكن ليس مع الأكراد. وحظر هو وخلفاؤه الكرمانجية في المدارس، لكنها ظلت باقية (رفع الحظر حاليا). كان الأكراد يتعلمون أنهم أتراك، لكنهم تمسكوا بهويتهم الكردية، وطالبت حركة انفصالية قوية بإقامة دولة كردية منفصلة؛ على أساس أنهم شعب تميزه لغته وعرقه عن الأتراك في الغرب، والعرب في الجنوب.
في العراق اقترب ذلك الحلم من أن يؤتي ثماره. وعندما وصلنا إلى الحدود، لم أستطع التأكد من أن ذلك كان العراق الذي كنت أنظر إليه عبر أحواض البوص، والنهر الضيق، والسياج الحدودي الشائك. كان علم ضخم معلقا على الجانب الآخر من الحدود، وطرفه يكاد يتدلى فوق الجانب التركي من الحدود، لكنه لم يكن العلم العراقي. كان يتكون من الألوان الأحمر، والأبيض، والأخضر وشمس صفراء في وسطه؛ كان هذا علم كردستان. ولعقود من الزمان كان هذا العلم رمزا محظورا لرغبة الأكراد في الاستقلال. ولم يشعر الأكراد بالقوة الكافية لرفع علمهم إلا بعد عام 1991، وفقط في العراق. شهدت هذه الحقبة إنشاء القوى الغربية لمنطقة حظر جوي في شمال العراق، مما مكن الأكراد من تحدي صدام دون عقاب. ومنذ سقوط صدام عام 2003، رفع الأكراد علمهم بموجب الحق الدستوري، في المحافظات الثلاث التي يسمونها الآن كردستان العراق.
ومع ذلك، طوال مدة وجودي في الأراضي التركية، كانت «كردستان» كلمة محظورة، توحي بالانفصالية وانقسام تركيا إلى مناطق عرقية منفصلة. وعندما لاحظ أحد الركاب الكلمة على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بي، هز إصبعه في وجهي حتى حذفتها. ومع ذلك كانت «مرحبا بك في كردستان!» هي الكلمات التالية التي سمعتها بمجرد عبور الحدود. وما كان هرطقة في مكان ما أصبح مألوفا في المكان الذي يليه. وبمجرد وصولي إلى العراق، وجدت أن الناس يقولون «كردستان» كلما أمكنهم ذلك. وكان أكراد العراق يستخدمونها بطريقة قاطعة وحازمة، كما لو كانت تتمتع بقوة سحرية، وكأن استخدامها مصدر لحريتهم وازدهارهم المتنامي.
ينعم أكراد العراق بوحدة دون تجانس. فهم منقسمون بين عشرات القبائل، وثلاث لغات، وفصيلين سياسيين تقاتلا في السابق حربا أهلية وحتى الآن يعملان معا بريبة متبادلة، لكنهما تعاونا بفعالية كافية للفوز بدرجة عالية من الحكم الذاتي، وتقليل الهجمات الإرهابية في منطقتهما إلى الحد الأدنى، والحصول على حصة ثمانية عشر بالمائة من عائدات النفط العراقي، التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا. لم يسبق للأكراد من قبل أن جربوا مثل هذه الثروة. كان تاريخهم طويلا؛ إذ توجد إشارات إلى «الشعب الكورتي» في تلك التلال منذ ثلاثة آلاف عام، وبعض العلماء يتتبعون أصولهم إلى ما قبل ذلك. لكنهم لم يكونوا أثرياء أبدا ولم يتركوا أثرا بالغا لثقافتهم؛ ربما لأن الجبال وسفوح التلال التي زرعوها لم تكن خصبة، حتى لو كانت توفر ملاذا ممتازا من الأعداء. ففي زمن ماركو بولو كانوا قطاع طرق، إن كنا سنصدق ذلك المسافر الجريء أو ربما المحتال. فقد أورد متذمرا: «الأكراد مقاتلون متحمسون وخارجون عن القانون، مغرمون جدا بسرقة التجار.»
الآن، على النقيض، يشعر الأجنبي بالأمان التام في المناطق الناطقة باللغة الكردية. وعلى خريطة رأيتها خلال زيارتي تظهر نقطة حمراء لكل هجوم عنيف في العام الماضي، كانت كردستان مساحة فارغة. وتناثرت النقاط الحمراء حول أطرافها، خاصة في منطقة ضيقة على حدودها الغربية تسمى سهل نينوى. وبالقرب من موقع نينوى التوراتي ذاته، الذي يقع حاليا داخل حدود ثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل، تزيد كثافة النقاط الحمراء. كانت الموصل ذاتها - «أخطر مدينة في العالم»، كما وصفتها إحدى الصحف مرة - مجرد بقعة حمراء كبيرة بلون الدم.
صفحه نامشخص