كانت العوامة الكبيرة مصنوعة من الحديد، أو على ما يبدو من ألواح الغلايات الفولاذية، وكانت هناك حلقات من الحديد مثبتة إلى جانبها. وكانت العوامة تتخذ شكل ثمرة الكمثرى، رأسها في الماء، ومربوطة إلى سلسلة لا شك أنها تؤدي إلى مرساة. وتساءل دي بلونفيل عن سبب وجود هذه العوامة. وحين رفع نظره كانت العوامة قد تحركت بفعل تيار غير مرئي من الماء وانقلبت وكأنها كانت عازمة على تدمير قاربه. فنسي دي بلونفيل نفسه وقفز ليبعدها عن قاربه، وسرعان ما خطا بإحدى قدميه على القماش المضاد للماء الذي كان يغطي جانبي قاربه والجزء السفلي منه. ووجد دي بلونفيل نفسه يصارع في الماء تقريبا قبل أن يدرك ما حدث. وبعد أن حرر نفسه من العقدة التي كانت تهدد بسحبه إلى الأسفل، نظر من خلال الماء فوجد اختراعه يستقر ببطء تحت المياه الخضراء الصافية. فمد يده وأمسك بإحدى الحلقات المربوطة بالعوامة وتعلق بها برهة لكي يلتقط أنفاسه ويفكر في موقفه. وسرعان ما أدرك أنه لم يكن في موقف محمود، لكن الأكثر من ذلك أنه أدرك أيضا صعوبة خروجه منه. إن محاولة السباحة نحو الشاطئ ستكون بكل بساطة ضربا من الانتحار. وكان من الواضح أن أفضل شيء يقوم به هو الصعود على سطح العوامة، لكنه أدرك أنه إذا حاول رفع نفسه على الحلقات المعدنية فإن العوامة ستتدحرج فوقه. لكنه تفاجأ حين وجد أن هذا لم يكن ما عليه الحال في الحقيقة. فهو لم يلتفت إلى تأثير كل من حجم العوامة ووزنها.
جلس دي بلونفيل على العوامة والتقط أنفاسه بصعوبة بعد ما بذل من جهد، وراح يحدق لبضع لحظات في المساحة الشاسعة للمياه الزرقاء المتلألئة. كان المنظر جميلا، لكنه كان مثبطا. لم يكن هناك على مرمى البصر ولو قارب صيد واحدا، وكان كل ما حوله يبعث على السرور، لكن كان هو وحده في وضع ميئوس منه. وكانت تلك الجزيرة الحديدية الكبيرة تتسم بعادة غير مريحة ما بين الحين والآخر؛ وهي أنها تميل بشكل ما على إحدى جوانبها؛ ومن ثم كان على دي بلونفيل أن يزحف بهذا الاتجاه أو ذاك ليتجنب السقوط عنها. وخيل إليه أن حركاته تلك تفتقر إلى الوقار. بدأت الشمس الحارقة تجفف ملابسه من جهة ظهره، وأحس بأن شعره قد أصبح هشا ومتموجا بفعل ملوحة المياه. وتذكر أن السباحة في هذه المياه ستكون سهلة؛ ذلك أنه كان في أشد البقاع ملوحة في البحر الأكثر ملوحة في العالم. ثم انتقل ببصره نحو الأراضي المنبسطة المحيطة بليه سالينز، حيث تدخل الإنسان بالطرق الاصطناعية بحيث تغطي مياه البحر المتوسط مساحات شاسعة من تلك الأراضي حتى تبخر الشمس تلك المياه تاركة الملح الخشن الذي يستخدمه الصيادون على ذلك الشاطئ. لم يكن دي بلونفيل يشعر حتى الآن بالجوع، لكنه تأسى على ذلك العشاء الطيب الذي سيقدم في الفندق في ذلك المساء، والذي لن يحضره هو على الأرجح.
التفت دي بلونفيل حوله وراح يجول بنظره على جزر الذهب البعيدة، لكن فرص حصوله على المساعدة من ذلك الاتجاه كانت تعادل فرص حصوله على المساعدة من البر الرئيسي. وبعد أن أصبح أكثر اعتيادا على تأرجح الكرة الكبيرة، وقف منتصبا. كم كان أحمق ليقطع كل تلك المسافة، وكز على أسنانه ونطق بكلمات فرنسية بدت مقتضبة ومؤكدة على ذلك. لكن التفكير بتلك الطريقة لم يكن مجديا كثيرا. ها هو في تلك البقعة، وسيظل بها، كما قال رئيس دولته ذات مرة. كانت قسوة الموقف الذي هو فيه وعجزه قد بدآ ينهكان أعصابه، وراح يصيح من أجل أن يحدث شيء - أي شيء - بدلا من أن يجلس هكذا ويقاسي ما يقاسيه.
ثم حدث شيء.
من بين الجزر، ظهرت سفينة حربية فرنسية حديثة وكبيرة شيئا فشيئا، وكانت السفينة صغيرة بفعل المسافة الكبيرة بينها وبينه. أشرق وجه دي بلونفيل أملا. لا بد أن تلك السفينة ستمر على مسافة قريبة منه بما يكفي لكي يرى المراقبون عليها إشاراته. يا رباه! كم كانت تتحرك ببطء! ثم ظهرت سفينة حربية ثانية بعد الأولى، وأخيرا ظهرت سفينة ثالثة. تقدمت السفن الثلاث ببطء في موكب مهيب. خلع دي بلونفيل معطفه وراح يلوح به ليجذب الانتباه إليه. وكان حثيثا في ذلك حتى إنه كاد يفقد توازنه، وحين أدرك أن السفن الحربية كانت لا تزال بعيدة كثيرا عنه، كف عن فعله. جلس دي بلونفيل وجذوة حماسه تخبو، وراح يرقب تقدمها البطيء. ثم بدا له أنها قد توقفت، فمال إلى الأمام وظلل على عينيه بيده، وراح يرقبها في لهفة. لكن السفن كانت لا تزال تتحرك، وهذا هو كل شيء.
وفجأة، ارتفعت سحابة من الدخان الأبيض من أحد جوانب السفينة الأولى فحجبت المداخن والصواري عن الرؤية، وراح الدخان يتلاشى في السماء الزرقاء فوق الصواري العلوية. وبعد أن مرت فترة بدت طويلة، جاءه صوت مدفع كان منخفضا ومكتوما، وتبعه صداه في التلال المرتفعة على الجزيرة، ثم كان صداه الثاني الأضعف الذي تردد في جنبات الجبال على البر الرئيسي. أصاب هذا الأمر دي بلونفيل بالحزن؛ وذلك لأن تلك السفن إذا كانت في الخارج بهدف التدريب فإن الدخان الصادر عنها سيحجب إشارته وسيكون من المستبعد أن تراه، ثم إن هذا الجزء من الأسطول سيعود أدراجه مرة أخرى، تاركا إياه في محنته. ومن السفينة الحربية الثانية خرجت سحابة من الدخان مشابهة للأولى، لكن في هذه المرة، وعلى مسافة كبيرة من ميسرته، اندفع بقوة جزء من ماء البحر على شكل نافورة، فارتفع في الهواء على شكل عمود للحظة، ثم تساقط على سطح العوامة وكأنه أمطار ثقيلة.
كانت العوامة هدفا للتصويب.
وحين أدرك دي بلونفيل فيم كانت تستخدم العوامة، شعر برجفة في فروة رأسه، وهو ما نطلق نحن عليه انتصاب شعر الرأس من شدة الخوف. نفث المدفع الثالث سحابة دخانه، وجحظت عينا دي بلونفيل لما رآه. كانت هناك قذيفة مدفع تتجه نحوه مباشرة، وكانت تطير فوق الماء وكأنها حصاة ألقاها أحدهم. لم يكن يعرف من خلال خبرته في البحرية - في باريس - أن مثل هذا الأمر ممكن. انبطح دي بلونفيل على سطح العوامة، حتى لامست ذقنه الحديد، وانتظر لحظة الارتطام. وعلى بعد مائة ياردة منه، غاصت القذيفة في الماء واختفت. ووجد دي بلونفيل أنه حاول أن يغرز أظافره في اللوح المعدني، حتى التهبت أطراف أصابعه وصارت تؤلمه. وقف دي بلونفيل وراح يلوح بذارعيه، لكن السفينة الأولى أطلقت قذيفتها مرة أخرى، وجاء أزيز القذيفة فوق رأسه تماما حتى إنه انحنى لا إراديا. واتته فكرة، مثل نزغة مفاجئة من الألم الجسدي، أنه هو من حرض على استهجان دقة تصويب تلك السفن الحربية. لا شك أنهم رأوا شخصا على العوامة، لكن بما أن وجود أي شخص في هذه البقعة لا يعد مبررا، فإن قتله باستخدام قذيفة مدفع سيكون دليلا دامغا على دقة تصويبهم. وسيكون التحقيق الذي سيلي مقتله مفخرة للضابط المسئول، أيا كان الحكم الذي ستقرره المحكمة. وتوقع دي بلونفيل - في شيء وكأنه تنهيدة - أن موته السابق لأوانه لن يلقي بظلال الحزن والكآبة على الأسطول.
حسنا، الإنسان لا يموت سوى موتة واحدة؛ ولذا من غير المجدي كثيرا أن يحدث الإنسان جلبة حول وقوع القدر المحتوم. سيلاقي دي بلونفيل قدره بهدوء وكما ينبغي لرجل فرنسي أن يفعل، ووجهه صوب المدافع. شعر بشيء من الندم لعدم وجود أحد ليشهد على بطولته. فمن السار دوما في مثل تلك الأحداث أن يوجد مراسل حربي أو صحفي على الأقل. ومن الأفضل أن يحافظ على هدوئه قدر الإمكان تحت أي ظرف؛ ولذا جلس دي بلونفيل على الكرة العائمة وجعل قدميه تتدليان في الماء. ولسبب ما راحت العوامة الكبيرة تتأرجح حتى أصبحت متاخمة للسفن الحربية بجانبها. ولم تكن أي من القذائف التالية قريبة منها بدرجة القرب نفسها التي كانت عليها القذائف الأولى، وربما كان ذلك بسبب الدخان الكثيف. وظلت ملامح جديدة للموقف تتجلى أمام دي بلونفيل بينما كان جالسا هناك. استمر إطلاق النيران لبعض الوقت قبل أن يفكر دي بلونفيل في أن العوامة ستمتلئ بالماء وتغرق لو أن إحدى القذائف أصابتها فأحدثت فيها ثقبا. ربما كانت الأوامر التي تلقوها هي إطلاق النار على العوامة حتى تختفي. وشعر بشيء من الارتياح في هذا الاقتراح.
كان إطلاق النار قد توقف لبضع دقائق قبل أن يلاحظ دي بلونفيل تلك الحقيقة. واستقرت حفنة من الدخان المتلاشي على سطح الماء بين العوامة والسفن الحربية. ورأى دي بلونفيل السفن وهي تتحرك بتثاقل عبر تلك الحفنة من الدخان وتتحول لتقف عرضا بنفس الترتيب السابق مرة أخرى. راح دي بلونفيل يشاهد تلك التحركات وهو يريح ذقنه على يديه، ولا يدرك أن اللحظة قد حانت لكي يطلق إشاراته . وحين طرقت الفكرة ذهنه الشارد بعض الشيء، هب واقفا على قدميه لكن فرصته كانت قد ضاعت. ارتفع دخان المدفع الأول في الهواء، وكان هناك صوت قعقعة ناتج عن تصادم الحديد ببعضه، ووجد دي بلونفيل نفسه يدور في الهواء، ثم يغوص في الماء. وبعد أن خرج إلى السطح لاهثا، رأى العوامة وهي تدور ببطء، ثم مالت على مقدمتها واختفت في الماء، فظهر المكان الذي أصابته القذيفة. ولم تطلق السفينة الثانية قذيفتها، فأدرك دي بلونفيل أنهم كانوا يفحصون العوامة بمناظيرهم. فسبح إلى الجهة الأخرى، وهو ينوي أن يمسك بحلقة معدنية مما يجعل العوامة تسحبه إلى مكان يمكن لهم رؤيته فيه. وقبل أن يصل إلى ذلك المكان، كانت العوامة قد استقرت مرة أخرى، وحين صعد على سطحها وقد أنهكه التعب إنهاكا شديدا، فتحت السفينة الحربية الثانية نارها. تمدد دي بلونفيل على سطح العوامة وقد خارت قواه تماما، وأمل إن كانت السفن ستصيب العوامة أن يحدث ذلك سريعا. لم تكن الحياة تستحق أن يعيشها في ظل تلك الظروف. شعر بالشمس الحارقة على ظهره، وراح يسمع صوت المدافع وكأنه في حلم. ذهب عنه الأمل، وتساءل في نفسه لم لا يكترث بمصيره بدلا من أن يعيره اهتماما حقيقيا. فكر دي بلونفيل في نفسه بأنه شخص آخر، وشعر بشفقة غامضة وغير واضحة. وراح ينتقد إطلاق النار العشوائي، وظن أن الإصابة التي وقعت قبل قليل لم تكن إلا ضربة حظ ومحض مصادفة. وحين جف ظهره تدحرج في تكاسل على ظهره ورقد ووجهه يحدق في السماء الصافية من السحب. ولكي يحصل على قدر أوفر من الراحة، وضع يديه تحت رأسه. تلاشى مظهر السماء، واعترته لحظة من غياب الوعي.
صفحه نامشخص