120

كانت نظرية ماكلين تفيد بأن الفن قد أصبح كئيبا للغاية. كان العالم بالنسبة إليه يهرع خلف الأشياء ذات الألوان الخافتة. كان يريد أن يمتلك القدرة على رسم الأشياء كما هي في الواقع، ولم تكن عزيمته تنثني إذا أطلقت صفة البهرجة على رسوماته. وقد حصل ماكلين على الإذن لأن يضع حامل الرسم الخاص به في كنيسة نوتردام، وفي ظل الضوء الخافت هناك، حاول أن ينقل على قماش الألوان الخاص به شيئا من زهاء الألوان التي كانت تتسلل عبر النافذة الضخمة التي كانت تعلوه بمسافة كبيرة وتتخذ شكل الوردة. شعر ماكلين بالإحباط حين رأى كيف أن الألوان على قماش الرسم كانت معتمة مقارنة بتدرجات الألوان الشفافة المنبعثة من النافذة الكبيرة. وبينما كان يتكئ بظهره إلى الخلف مطلقا تنهيدة تنم عن انهزامه، وقعت عيناه الحائرتان للحظة واحدة على شيء أكثر جمالا من الزجاج المعشق، وذلك حيث إن صنع الرب ينبغي أن يكون دوما أجمل من صنع الإنسان. كانت اللمحة العابرة لعينين رقيقتين داكنتين واضحتين، حين التقتا بعينيه احتجبتا على الفور، ثم أطال ماكلين النظر في الوجه المليح الذي تنتميان إليه. كان من الواضح أن الفتاة الشابة تكن إعجابا بعمله، وكان هذا أكثر مما يأمل الشاب في الحصول عليه من البروفيسور في مزاد جوليان.

لم يكن هناك من يعتبر - حتى ولو كان أعز أصدقائه - أن انعدام الأمان وافتقاد الطمأنينة من بين إخفاقات ماكلين. نهض ماكلين عن كرسي الرسم، وانحنى وسأل الفتاة إن كانت تمانع الجلوس لدقيقة؛ بحيث يتسنى لها أن ترى اللوحة على نحو أفضل بكثير. لم تجبه الفتاة، لكنها رمقته بنظرة خوف وهربت تحت جناح وصيفتها الراكعة، التي لم تكن قد انتهت من صلاتها بعد. لا شك أن صلاة الفتاة كانت أقصر من صلاة الوصيفة المسنة التي كانت تقوم على رعاية الفتاة. فالصلاة تقصر كلما اشتدت الضائقة. وحظي ماكلين بلمحة عابرة أخرى على تلكما العينين الداكنتين بينما كان يمسك بالباب المتأرجح مفتوحا لهما. ثم غادرت المرأة الكنيسة دون إدراك منها لما دار ومعها الفتاة التي عاشت كل ما جرى.

وهكذا كانت البداية.

كانت لوحة النافذة الملونة لكنيسة نوتردام تشغل كل الوقت المتاح لدى هيكتور ماكلين. وما من عمل عظيم يمكن إنجازه من دون التحلي بمثابرة لا تفتر. وكان من اللافت للنظر أن تلك الحقيقة تجلت إليه بمجرد أن قرر أن يهجر العمل على تلك المهمة. وقبل أن يسمح للباب المتأرجح أن ينغلق، كان قد قرر أن يستكمل دراسته للألوان. ومن ثم فقد تصادف أن رأى الفتاة الشابة مرة أخرى، في الساعة نفسها دائما، ومع المرأة نفسها التي تصطحبها. وذات مرة نجح - من دون أن تلحظه المرأة المسنة - أن يدس رسالة صغيرة في يد الفتاة، وقد شعر بالسعادة والإطراء حين رأى الفتاة تحتفظ برسالته وتخفيها. وذات يوم آخر حظي بمتعة التهامس معها بعدة كلمات في ظل أحد الأعمدة العملاقة. وبعد ذلك، كان إحراز التقدم سهلا نسبيا.

علم ماكلين أن اسمها إيفيت، وتعجب كثيرا حين عرف أن مخلوقة بريئة مثلها استطاعت بمهارة الخبراء أن تراوغ يقظة المرأة المسنة المسئولة عنها. وعادة ما كانت اللقاءات المختلسة بينهما تدور في الحديقة الصغيرة التي تقع خلف نوتردام. كانا يجلسان في تلك الحديقة في مواجهة النافورة، أو كانا يسيران جيئة وذهابا على الحصى المتهشم تحت الأشجار. وفي الظهيرة كانا يسيران في الجزء المنعزل من الحديقة ، تحت ظل الكنيسة الكبيرة. وكان من عادتها أن ترسل إليه رسائل صغيرة وأنيقة تخبره فيها متى ستذهب إلى الحديقة وتعطيه رقم المقعد؛ ذلك أنها لم يكن باستطاعتها أن تراوغ وصيفتها في بعض الأحيان، فكانت حينها تجلس إلى جانب إيفيت. وفي تلك المرات، كان على ماكلين أن يرضى بمجرد النظر إليها من بعيد.

كانت الفتاة جادة ومخلصة للغاية حتى إن الشعور بالقلق والاضطراب قد سيطر على ضمير ماكلين. فكر ماكلين في الفتاة اللطيفة في موطنه، وتمنى بصدق ألا يصل إلى مسامعها أي شيء عما يحدث. وبصرف النظر عن مدى الحذر الذي قد يتسم به المرء، فإن الصدفة غالبا ما تلعب حيلا دنيئة. تذكر ماكلين بعض اللحظات بينهما وشعر بالحزن لصغر هذا العالم. وفي بعض الأحيان كان جسد ماكلين يرتجف حين يصيح أحد المارة على الرصيف في الخارج لأحد معارفه بداخل الحديقة من خلال القضبان الحديدية. وطلاب الفن يعتادون عادة غير مريحة وهي التجول في كل مكان، وكانوا صاخبين حين ينادون على أحد يعرفونه. بالإضافة إلى ذلك، كان طلاب الفن يتحدثون كثيرا، وخاف ماكلين من أن تتحول علاقته بالفتاة إلى أضحوكة المدرسة. وفي أي لحظة، قد يذهب أحد طلاب الفن غير المرغوب فيهم إلى الحديقة ليرسم النافورة أو الممرضات والأطفال أو مؤخرة الكاتدرائية في أحد أطراف الحديقة أو حتى واجهة المشرحة المخيفة والكئيبة في الطرف الآخر لها.

كان ماكلين شابا لين العريكة، يكره المشكلات، وربما لأنه كان يعرف أن يوم الحساب المحتوم سيأتي لا محالة كان ضميره يستيقظ متأخرا نوعا ما.

وفكر في بعض الأحيان أنه قد يكون من الأفضل أن يغادر باريس من دون أي تفسير، لكنه تذكر أن الفتاة تعرف عنوانه في باريس - ذلك أنها كثيرا ما راسلته - وأنها بذهابها إلى المدرسة ستعرف عنوانه في موطنه بكل سهولة. ولذلك، إذا كان من المحتم أن تنفجر غضبا وتثور ثائرتها، فمن الأفضل كثيرا أن تكون في باريس، وليس في مكان سكناها.

وكثيرا ما شجع ماكلين نفسه ليقدم للفتاة تفسيره وينهي تلك العلاقة ، لكنه كان يؤجل الأمر كلما أتت اللحظة المنتظرة. لكن المحتوم يقع في النهاية. واجه ماكلين صعوبة في البداية في محاولة أن يجعلها تفهم الموقف بوضوح، لكنه حين نجح في ذلك في النهاية لم يكن هناك اعتراض من جانبها. ولم يكن منها سوى أنها ثبتت عينيها على الحصى وسحبت يدها في هدوء من يده. ولدهشته لم تبك الفتاة، ولم تجبه حتى، لكنها راحت تسير في صمت جيئة وذهابا وعينها مثبتة على ظل الكنيسة. قال ماكلين بأن أحدا لن يحتل المكانة التي احتلتها هي في قلبه. كان خاطبا للفتاة الأخرى، لكنه لم يعرف معنى الحب حتى التقى بإيفيت. وكان مرتبطا بالفتاة الأخرى بخيوط لا يستطيع هو أن يقطعها - وكان هذا صحيحا - لأن الفتاة اللطيفة كانت ابنة رجل غني. ثم رسم لها صورة بائسة عن الحياة الخالية من الحب التي سوف يحياها في المستقبل، فخالجه شعور غامر بالشفقة على الذات حتى اهتز صوته أثناء حديثه. وشعر ماكلين بالاستياء حين رضيت الفتاة بالافتراق بتلك الطريقة غير العاطفية. فحين يحصل المرء على منتهى مبتغاه يظل شعور بعدم الرضا يلازمه. كانت تلك بالضبط هي الطريقة التي أمل أن تتقبل بها الأمر.

ولكل شيء نهاية، حتى التبريرات.

صفحه نامشخص