إن قال ذلك فإني سأقنعه بأيسر جهد، فقد اتفق لي أن أعيش نباتيا في باريس زمنا غير قليل، وما كنت مخلصا كل الإخلاص في إيثار الحياة النباتية، وإنما أردت أن أعرف سر المذهب النباتي لأكتب عنه بحثا أو بحثين، وحالي في هذا أقرب إلى النزاهة من حال أبي العلاء، فقد حرم على نفسه لحم الحيوان ليوهم الغافلين أنه تفرد بالرحمة والشفقة والعطف، وما كان في حقيقة أمره إلا آكل لحوم، وستعرفون صدق هذا الكلام بعد لحظة أو لحظتين.
هل يذكر القارئ ما وقع لأبي العلاء يوم مرض؟
مرض أبو العلاء - عفا الله عنه وعني - فنصحه الطبيب بالحمية وحين اطمأن الطبيب إلى نجاته من المرض وصف له فروجا - والفروج فرخ الدجاج - ودارت يد أبي العلاء حول جسم الفروج في ترفق مصطنع، ثم هتف: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟!
الله أكبر! ذلك هو منطق شيخنا أبي العلاء.
فهل كان يظن هذا الشيخ أن الطبيب يستطيع أن يصف له شبل الأسد؟ إن نثيرة واحدة من شبل الأسد كانت تكفي لنقل أبي العلاء إلى حظيرة الأموات، ولكن الرجل استطاب الضحك على المغفلين من أبناء ذلك الزمان.
هل زهد أبو العلاء في أكل اللحم؟ هذا تمويه وتضليل، كان الرجل يتحرج من لحم الطير والحيوان، ولكنه كان مولعا بأكل اللحم المحرم - لحم الإنسان - فما ترك فئة ولا جماعة إلا انتاش لحمها بأنياب حداد.
لقد انسحب المعري من المجتمع، وما كان ذلك بابا من الزهد، وإنما كان فرار المناضل الذي تعب من النضال، وماذا صنع المعري حين انسحب من المجتمع؟ أترونه نظر إليه نظر الرفق والعطف، وذلك واجب الفيلسوف؟
ما صنع شيئا من ذلك، وإنما قضى دهره في أكل لحوم المجتمع، ولو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع قد يفسد من حيث لا يريد، لو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع غير مسئول عما يعاني من أوهام وأضاليل، فتلك مواريث القرون الطوال، لو كان المعري على شيء من الصفاء لأدرك أن المجرم قد يجرم وهو غير مسئول.
ولو كنت أستبيح لحم المعري كما استباح لحوم الناس، لقلت إن ثورته على المجتمع كانت ضربا من الانتقام الأثيم، فالرجل كان يعرف أن أهل زمانه يتهمونه بالمروق من الدين، فشاء له هواه أن يسجل مخازيهم ومآثمهم وأن يفضحهم في العالمين.
قد يقول القارئ مرة ثانية: وما محصول هذا الكلام؟
صفحه نامشخص