كنت في البداية أظن أنني ما حضرت إلا لتدريس الأدب العربي، فحبست نفسي بين المدرسة والمكاتب زمنا غير قليل.
ثم رأيت أن هذا المسلك غير مقبول لأنه سيحجبني عن الخصائص الذاتية للشعب العراقي، وخصائص هذا الشعب تفسر كثيرا من دقائق الأدب في العصر العباسي، فانقطعت انقطاعا يكاد يكون تاما عن المصريين المقيمين في بغداد، وأقبلت على البغداديين أصاحبهم وأصادقهم وأقضي معهم ما تسمح به أعمالي من لحظات الفراغ.
وكانت حجتي أن الشعوب لا تموت، فبغداد التي غيرتها الأزمان من أحوال إلى أحوال لا بد أن تحفظ كثيرا من شمائلها الأصيلة لعهودها الذهبية، ولا بد من الوصول إلى بعض الأسرار التي قضت بأن ينبغ فيها كبار الكتاب والشعراء.
وما هي إلا أشهر قلائل حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صححت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ.
وبغداد تنقسم في وضعها الحاضر إلى قمسين: بغداد القديمة التي كان يعيش فيها الناس قبل التمدن الحديث، وهي مدينة جافية لمن يراها أول مرة، ولكنها جذابة جدا لمن يعرف روحها الشفاف، هي مدينة تجذب من يعرف أهلها، وهم في أكثر أحوالهم على جانب عظيم من الأدب والذوق ولطف الأحاسيس وكرم النفوس.
ولن أنسى طول حياتي ما لقيت في تلك الدور الجافية من عذوبة الأرواح وصفاء القلوب.
كنت أدخل المقاهي في تلك المدينة القديمة فيؤذيني حرمانها من النظافة والتنسيق، ولكن قلبي كان يتفجر بالعطف حين أتذكر أن هؤلاء الناس قاوموا الحوادث والخطوب حتى حفظوا أصول اللغة العربية وقواعد الإسلام، وحتى استطاعوا أن يحفظوا لأنفسهم وجودا خاصا بالرغم من تصاريف الزمان.
في تلك الدور الجافية نشأ ناس تغلبوا على مصاعب أخفها الأوبئة والطواعين.
في تلك الدور الجافية خلقت عواطف وأحاسيس وأهواء.
في تلك الدور الجافية نبغ شعراء وصفوا الحب والليل.
صفحه نامشخص