دخلنا في فندق، فلم نر فيه مكانا خاليا فذهبنا إلى فندق، فرأيناه أشبه بسفينة نوح، فمضينا إلى فندق، فرأيته لا يليق برجل يشتغل بالتدريس، والمدرس مسئول عن كرامته ولا يليق به أبدا أن يدخل مكانا تحيط به شبهات. - واعترض رفيقي فقال: هذه ليلة أنس يباح فيها مالا يباح. - فقلت: هي ليلة عيد في قصر جلالة الملك، ولكن يغلب على ظني أن الملوك لا يعرفون الأعياد، ومن يدريك فلعل جلالة الملك في هذه اللحظة مشغول بتدبير بعض الشؤون.
فتضجر رفيقي وقال: ولكن الملك يسره أن يفرح الشعب في ليلة عيد. - فقلت: ولكن يسره أيضا أن يعرف أن شعبه لا ينسى كرامته في ليالي الأعياد. - سمعت أن الملك فؤاد كان يترك ضيوفه أحرارا في سهرات قصر عابدين، ويكتفي هو بشراب الليمون. - ولو أنهم تأدبوا بأدبه فاكتفوا بشراب الليمون لكانوا إلى قلبه أحب وأقرب. - أنت رجل مزعج يا دكتور! - لست بمزعج، وإنما أحب أن أرجع إلى قلمي وكتابي. •••
وانتهى بنا المطاف إلى فندق يغلب عليه التجمل، إن كان للتجمل مكان بين أكواب الصهباء، جلس رفيقي وجلست بالقرب من جماعة يسكرون ويعربدون، جلست وأنا متهيب، وجلس رفيقي وهو متهيب، أما أنا فتهيبت لأن هذه الجماعة تعرفني، وربما كان أحدهم أبا أو عما أو خالا لأحد تلاميذي، وأنا مسئول عن كرامتي أمام هؤلاء الناس، وأما رفيقي فتهيب لأن هذه الجماعة بها ثلاثة هو لهم رئيس، وأخذت أدرس الوجوه والشمائل والخصال لأصحح أغلاطي في فهم الأدب العربي، وهنا أصرح بأن الدراسات الفلسفية لا تطيب لي إلا في مدينتين اثنتين: باريس وبغداد.
أما باريس فأمرها معروف، لأن جميع الوجوه هناك كانت مألوفة لدي، لأني رأيت صورها في مؤلفات المبدعين من أقطاب الأدب الفرنسي. وأما بغداد فإني أرى فيها صور الرجال الذين أولعت بدراسة آثارهم العلمية والأدبية والفلسفية منذ أعوال طوال.
أما القاهرة فليس فيها وجه رأيت صورته في كتاب، لأن أدباء القاهرة فلاسفة عظام لا تراهم إلا في مكانين: بغداد في العصر العباسي، وباريس في العصر المنصرم، أو طلائع العصر الحديث، وربما تظرف فريق منهم فحدثونا عن أدب اليونان والرومان.
ثم يقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشرة يا دكتور!
فأخرج ساعتي من جيبي فإذا هي 11.
فأقول: بقى وقت ... ثم أعود إلى درس الوجوه من جديد، هذا هو الشعب العراقي، الشعب الطروب الذي لا يشغله الجد عن اللعب، ولا يصرفه اللعب عن الجد.
هذا هو الشعب الذي طال عهده بكفاح الأيام والخطوب ثم بقيت عنده ذخيرة من الابتسام. ثم أخذ السامرون يغنون، والعراقي إذا طرب غني فأجاد الغناء، ولم تقع في أغانيهم كلمة بذيئة، ولم تنفرج شفاههم عن كلمة فيها رائحة الفحش، ولم يتوهم أحد أن المجلس قد يقع فيه ما ينافي الذوق، هذا هو الشعب العراقي، وتلك شمائله وسجاياه.
فإن وقع منه ما يؤذيك فتذكر أن مياه الأنهار قد تقع فيها أحيانا أقذاء، وتذكر أن البدر لا يخلو من كلف، وتذكر أن الأزهار قد تحيط بها أشواك، ثم تذكر أن الحياة فيها الشهد والصاب. •••
صفحه نامشخص