أما سليم وكليم فإنهما ركبا بغلين قويين وانحدرا من الحدث قاصدين وادي حصرون، وكانا هذه المرة ساكتين يفكران بكلام الصديق أمين، فسأل سليم رفيقه: هل من مانع يمنعك عن إطلاعي على مراد أمين بكلامه الأخير؟ فقال كليم: كلا، ولكن ليست هذه القصة جديدة في الأرض، فإنها قصة كل المغلوبين والمقهورين والمظلومين فيها، إنها قصة العراك الأبدي الذي بين الناس، وهو ما يسمونه (تنازع البقاء)، فإن أمين كان من موظفي الحكومة، وكان محبوبا مسموع الكلمة لذكائه وعقله، وكان على وشك الاقتران بفتاة يحبها وهي ذات دوطة طائلة، وكان أحد تجاركم في بيروت يطمع في دوطتها، ليصلح بها أحوال محله التجاري المتضعضع، فوشى لدى الحكومة سرا بأن أمين يعاون حزب تركيا الفتاة ويراسله، فعزل وسجن وأهين، ولم يطلق سراحه حتى ظهر مرضه، أما الواشي فلم يتمكن من الاقتران بخطيبته؛ لأنها تركت الاثنين معا.
فقال سليم: ومن هو ذلك الواشي؟ فقال كليم: هو (الخواجه لوقا طمعون). فقال سليم: هذا تاجر أصله من صيدا لا من بيروت، وقد سمعت الناس يذمونه كثيرا لسوء أخلاقه.
وكان مع الرفيقين في هذه المرة مكار من الحدث، وهو شاب قوي البنية ربعة الجسم يدعى (بطرس)، فسأل رفيقه: هل تمرون على الديمان في طريقكم يا خواجات؟ فسأله كليم: هل اليوم غبطة البطريرك في مصيفه هذا؟ فأجاب بطرس: كلا، بل هو غائب. فقال كليم: فلنمض إذن في سبيلنا.
وكانت يومئذ الدار البطريركية في الديمان دارا يدل ظاهرها على البساطة والقدم، أما اليوم فقد أقيم هنالك قصر فخيم على الطراز الحديث للسلطة البطريركية.
وكأن سليم وكليم راما طرد الأفكار السوداء التي كانت تتردد على ذهنيهما من كلام أمين ووداعه، فقال الثاني للأول: لقد سلانا المكاري جرجس قليلا من قلحات إلى الحدث، فبماذا يسلينا بطرس؟ فقال سليم: اسمع. ثم التفت إلى بطرس وقال له: يا بطرس، لماذا تنادينا خواجات؟ فأجاب بطرس بوجل: إذا كنتم بكوات يا معلمي فأرجو السماح. فقال سليم: ولا بكوات، بل نحن بشر مثلك، فإذا كنا خواجات فأنت خواجه أيضا؛ لأن كل البشر إخوان. فتنهد بطرس وقال: هذا في القول يا معلمي فقط، وما أبعد القول من الفعل! ألا ترى أنكم راكبون وأنني ماش؟! وهذا أول فرق بيننا. فضحك سليم وكليم، وقال سليم لرفيقه: حقا إن مكارينا نبيه. ثم التفت إليه وقال: ما عنيت هذا بقولي، وإنما عنيت أننا وإياك متساوون لدى الحكومة ولدى الله، وإن كان البشر يعطون بعضنا امتيازات دون بعض، فأنت لست بمديون لي بشيء سوى ما تقبض أجرته مني، وأنا كذلك، فالآن أنا راكب وأنت ماش باختيارك وطوعك حسب الاتفاق الذي عقدناه على أن أعطيك أجرة تعبك، فلست إذن أمتاز عنك بشيء سوى أنني تعبت وحصلت مالا أقدر به على أن أريح نفسي من المشي، وبئست هذه الراحة؛ لأنني أفضل أن أتعب مثلك وأكون بصحة كصحتك.
وكان سليم يتكلم وبطرس يظهر الدهشة والاستغراب، ثم أجاب: حقا قلت الصواب يا معلمي. فصاح سليم: رجعنا إلى (معلمي)! أما أنا بشر مثلك، بل أنت الآن معلمي؛ لأنك أقوى مني ونفعتني ببغلك أكثر مما نفعتك. فضحك بطرس وقال: حقا قلت الصواب فيما يختص بالأجرة والركوب، ولكن قولك يا معلمي إننا كلنا متساوون لدى الحكومة والله فيه نظر، فإنني أصدق كل شيء إلا هذا، أما المساواة عند الله فلندعها جانبا؛ لأننا متى وصلنا إلى هناك نبقى نتكلم عنها، وأما المساواة لدى الحكومة فأحب أن تدخل على سعادة القائمقام حين يصيف في الحدث
1
وترى الناس كيف يجلسون في حضرته، وبعد ذلك تبقى تتكلم عن المساواة لدى الحكومة.
فقال سليم: هذا ليس ببرهان؛ لأن الناس كثيرا ما يسيئون في تنفيذ الشرائع، فلا تلصق الإساءة بالشرائع نفسها بل بمنفذيها.
فقال كليم لرفيقه: لا بأس بهذا الحديث إذا كان لا يحدث منه ضرر، ولكني كنت أتمنى أن لا تكون هذه التجربة فينا؛ لئلا نكون أول من يجني ثمارها.
صفحه نامشخص