قلت: أريد أن أعيش معيشة منفردة مع ولدي الصغيرين بهدوء وسكينة، حتى أقضي ما بقي من أيام حياتي، قال: اسمعي يا مادلين ما أقوله لك، واتركي هذا العناد والجهل؛ فأنا لا أملك الآن غير 60 فرنكا، فأين لنا المال الذي يكفينا حتى تطلبين الانفراد أو العزلة مع ولديك، ويجب أن تعلمي يا مادلين أن نصف ما أصابني من البلايا والرزايا كان بسبب عنادك؛ لأن الحكماء يقولون: إن المرأة العنيدة تعجل في خراب بيتها وشقاء عائلتها، فلا يمكنني بعد العناء الذي تحملته منك أن أوافقك في شيء أو أجيب لك سؤالا.
قلت: أنت إذن وحش مفترس تروم تعذيبي وإهلاكي.
هو ما تقولين يا سيدتي؛ لأنه ليس جزاء مثلك إلا الإذلال والانتقام.
قال ذلك ثم هدأ روعه وسكن غضبه قليلا واستأنف الكلام فقال: ومع ذلك؛ فأنا الآن أريد أن أتوجه إلى مدينة سان مالو وأطلب قرضا؛ فإن توفقت إلى الحصول على بغيتي نظرت في ما تقوم به راحتنا، وإلا فليس باليد حيلة.
قال ذلك ثم خرج مهرولا وأغلق وراءه الباب.
الفصل الخامس عشر
فلما خلا لي الجو نظرت يمنة ويسرة فلم أر إلا ظلاما وكآبة فقلت في نفسي: بالله كيف تستطيع امرأة مثلي أن تتحمل كل هذه الهموم والمصائب التي تدك الجبال وتفتت الصخور، فلا بد لي من أن أبادر إلى الهرب مرة ثانية وأقصد مدينة «سان سرفان»؛ لأن لي هناك قريبة محبة وصديقة حميمة لا أخالها تضن علي بالمساعدة والإسعاف، وفي الحال أخبرت ولدي بما عزمت عليه فقبلا ذلك بغاية الفرح والسرور، ومن ثم جمعنا ما نحتاج إليه من الملابس واللوازم الضرورية وخرجنا نقصد السفر، فأخذنا نجد في السير حتى وصلنا إلى جهة سان مالو بسلام، وقد أعيانا التعب وأنهكنا المسير، وبعد أن استرحنا قليلا تحت ظل شجرة في الخلا نهضنا قاصدين جهة «سان سرفان» التي كان الماء يغمرها منذ بضع ساعات واضطر أهاليها إلى تسيير الزوارق في طرقها وأزقتها العمومية، حتى إذا وصلنا إليها بادرت مسرعة إلى دار صديقتي المعهودة، ولما طرقت الباب لم يجيبني أحد، فسألت عنها المجاورين لهذه الدار فأنبأوني أنها غادرت تلك المدينة، وهي ساكنة الآن بجهة «مونتفور» التي تبعد عن هذا المكان كثيرا.
فتأسفت على ضياع هذا التعب كله سدى، ولكني تجلدت وصبرت على بلواي، ورأيت من الصواب أن نبيع كل ما كان معنا من الملابس والحلي حتى نجد المال اللازم للسفر إلى تلك البلدة وقد أتممت ذلك فعلا، وفي صباح اليوم التالي نهضت باكرا فتوجهت إلى المعبد وتضرعت إلى الله بحرارة أن يرعانا بعين عنايته ويمهد لنا السبيل في هذا الوقت الحرج، ثم أخذت ولدي تحت ذراعي وسرت متكلة على الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده أبو الضعفاء ونصير العاجزين.
وبينما نحن نسير سيرا حثيثا ما أشعر إلا وقد نظر إلي جيلبير فجأة نظرة الذهول والاندهاش وقد اصفر لونه وارتجفت أعضاؤه ثم صرخ بصوت مخيف.
رويدك يا أماه فقد أصبحنا على وشك الهلاك؛ لأني أرى أبي مقبلا إلينا، والظاهر أنه يجد في طلبنا ويقتفي أثرنا.
صفحه نامشخص