1 - على ضفاف لافلي كريك
2 - إنيد
3 - شروق الشمس في البراري
4 - رحلة السفينة أنخيسيس
5 - «الرهان على استمرار تحليق نسور الغرب»
1 - على ضفاف لافلي كريك
2 - إنيد
3 - شروق الشمس في البراري
4 - رحلة السفينة أنخيسيس
5 - «الرهان على استمرار تحليق نسور الغرب»
صفحه نامشخص
واحد منا
واحد منا
تأليف
ويلا كاثر
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
الكتاب الأول
على ضفاف لافلي كريك
صفحه نامشخص
1
فتح كلود ويلر عينيه قبل أن ترتفع الشمس في كبد السماء، وهز شقيقه الأصغر بقوة؛ إذ كان يناصفه السرير الذي ينام عليه. «رالف، رالف، استيقظ! قم وساعدني في غسل السيارة.» «ولماذا تغسل السيارة؟» «عجبا، ألن نذهب إلى السيرك اليوم؟» «السيارة نظيفة. دعني وشأني.» أدار الفتى جسده وسحب اللحاف حتى غطى به وجهه كي يحجب الضوء الذي بدأ يتسرب من خلال النوافذ الخالية من الستائر.
نهض كلود وارتدى ملابسه، وهو عمل بسيط لم يستغرق كثيرا من الوقت. نزل سلما يتكون من مجموعتين من الدرجات، وتحسس طريقه في الظلام وشعره الأحمر واقف منتصب مثل عرف الديك. عبر من المطبخ إلى الحمام المتاخم له الذي به حوضان من البورسلين بصنبورين من المياه الجارية. من الواضح أن الجميع اغتسل قبل الخلود إلى النوم، وكان الحوضان بهما رواسب داكنة لم يذبها الماء العسر والقلوي. ولما أغلق الباب على هذه الفوضى عاد إلى المطبخ وأخذ حوضا من القصدير يخص ماهيلي، وغمس وجهه ورأسه في الماء البارد، وبدأ يسرح شعره المبلل.
أتت ماهيلي العجوز من الفناء ومئزرها مليء بقلوب أكواز الذرة لتشعل فرن المطبخ. رمته بابتسامة محب أبله؛ إذ كثيرا ما كانت ترميه بتلك الابتسامات عندما يكونان بمفردهما. «ما الذي أيقظك بهذا النشاط أيها الفتى؟ هل ستذهب إلى السيرك قبل الإفطار؟ لا تحدث ضوضاء، وإلا ستجدهم كلهم هنا قبل أن أشعل النار.» «حسنا يا ماهيلي.» ارتدى كلود قبعته واتجه للخارج راكضا، ونزل إلى جانب التل باتجاه الحظيرة. أطلت الشمس فوق حافة المرج كأنها وجه ترتسم عليه ابتسامة عريضة، تدفق الضوء على مراعي شهر أغسطس المحصودة وعلى ثنيات نهير لافلي كريك ذات التعرجات المتحدرة التي تحوطها الأشجار، وهذا النهير كان عبارة عن جدول صغير صاف ذي قعر رملي يتعرج ويستدير مبتهجا عند القسم الجنوبي من مزرعة ويلر الشاسعة. كان يوما رائعا للذهاب إلى السيرك في فرانكفورت، كان يوما رائعا للقيام بأي نشاط؛ ويوم كهذا لا مناص من أن يسير كما خطط له بنحو أو بآخر.
أخرج كلود السيارة الفورد الصغيرة من مكان انتظارها، وقادها إلى حوض شرب الخيول، وبدأ في إلقاء المياه فوق الطين الملتصق بالعجلات والزجاج الأمامي. بينما كان يعمل، رأى الأجيرين - دان وجيري - يأتيان بخطى متثاقلة من أعلى التل كي يطعما الماشية. جيري كان يتذمر ويقسم على شيء ما، ولكن كلود عصر الخرق المبللة الخاصة به ولم يهتم لأمرهما فيما عدا إيماءة. وبطريقة ما، دائما ما كان والده يتمكن من استئجار أكثر الرجال في الريف فظاظة وقذارة كي يعملوا عنده. كان كلود حينها غاضبا من جيري بسبب معاملته لأحد الخيول.
كانت مولي فرسة عجوزا وفية، وهي أم للعديد من المهور؛ تعلم كلود وشقيقه الأصغر ركوب الخيل عليها. وعندما أخذها ذاك الرجل جيري من أجل العمل في صباح أحد الأيام، تركها تخطو على لوح خشب به مسمار. انتزع المسمار من حافرها ولم يقل شيئا لأي أحد، وقادها إلى العمل في الحراثة طوال اليوم. إنها كانت الآن تقف في مكانها في الحظيرة منذ أسابيع وهي تتألم صابرة، وقد هزل جسدها حتى أصبحت جلدا على عظم، وتورمت ساقها حتى أصبحت تشبه ساق الفيل. قال الطبيب البيطري إن عليها ألا تخرج للعمل حتى يسقط حافرها ذاك وينمو مكانه حافر جديد، وبعدها ستكون لديها مشكلة دائمة في الحركة. لم يسرح جيري من العمل، وكان يتحدث عن الفرسة المسكينة كأنه أنقذها.
خرجت ماهيلي إلى قمة التل ودقت جرس الإفطار. وبعدما صعد الأجيران إلى المنزل، انسل كلود إلى الحظيرة كي يطمئن أن مولي حصلت على قسمتها من الشوفان. رآها تأكل في هدوء منكسة رأسها ورافعة قدمها قليلا عن الأرض؛ إذ كان جلدها جافا وكأنها ماتت دون بقية جسدها. عندما ربت على رقبتها وتحدث إليها، توقفت عن مضغ الطعام وحملقت فيه حزينة. لقد كانت تعرفه؛ ومن ثم جعدت أنفها وسحبت شفتها العليا كي تظهر أسنانها المتآكلة؛ كي تقول له إنها تحب أن يداعبها. تركته يلمس قدمها ويفحص ساقها.
عندما وصل كلود إلى المطبخ، كانت والدته تجلس عند أحد طرفي مائدة الإفطار وتسكب قهوة خفيفة، وكان شقيقه ودان وجيري يجلسون في مقاعدهم، وماهيلي تخبز فطير الصاج في الفرن. بعد لحظة، نزل السيد ويلر على السلم المسيج ومشى بطول المائدة حتى وصل إلى مكانه. كان الرجل يتصف بضخامة الجسم الشديدة؛ إذ كان أطول وأعرض من أي أحد من الجيران. ونادرا ما كان يرتدي معطفا في الصيف، وكان يخرج قميصه المجعد من فوق حزام سرواله من دون أن يأبه لذلك. وكان وجهه المشرب بالحمرة حليقا تماما، وكثيرا ما كان يظهر على فمه آثار تبغ، وكان وجهه يوحي بكل من الطيبة وروح الفكاهة الفظة، وكذلك بالرزانة الشديدة. لم ير أحد في المقاطعة البتة نات ويلر قلقا بشأن أي شيء، ولم يسمعه أحد البتة وهو يتحدث بنبرة جادة بالكلية. لقد كان يحافظ على لينه ودماثة أخلاقه المازحة حتى مع عائلته.
بمجرد أن جلس، مد يده إلى وعاء السكر الذي كان يسع ربع كيلو، وبدأ في إضافة السكر إلى القهوة. سأله رالف إن كان سيذهب إلى السيرك. غمز السيد ويلر بعينه. «ربما لو حدث أن كنت في المدينة قبل أن ينتهي عرض الفيلة.» تحدث بتأن شديد، بلهجة سكان ولاية مين، وكانت كلماته سلسة ومفهومة. «ولكن من الأفضل أيها الفتية أن تذهبوا في وقت مبكر. يمكنكم أخذ العربة والبغال، ونقل جلود البقر. فقد وافق الجزار على أخذها.»
وضع كلود سكينه جانبا. «ألن نأخذ السيارة؟ لقد غسلتها من أجل ذلك.» «وماذا عن دان وجيري؟ إنهما يريدان مشاهدة السيرك كما تريدان تماما، وأريد أن أبعث بالجلود؛ فأسعارها جيدة الآن. لا مانع لدي من غسلك للسيارة؛ يقولون إن الطين يحافظ على الدهان، ولكن لا بأس هذه المرة يا كلود.»
صفحه نامشخص
ضحك الأجيران ضحكة خفيفة وقهقه رالف. واشتعل وجه كلود المليء بالنمش غضبا. وتيبست قطعة الفطير، وأصبحت ثقيلة في فمه واستصعب ابتلاعها. كان يعلم والده كرهه لقيادة البغال إلى المدينة، ويعلم مدى كرهه للذهاب إلى أي مكان بصحبة دان وجيري. بالنسبة إلى الجلود، فقد كانت لأربعة عجول مخصية هلكت بسبب العاصفة الثلجية في الشتاء الماضي نتيجة لإهمال مستهتر من نفس هذين الأجيرين، وما كان الثمن الذي تجلبه يبلغ نصف مقابل الوقت الذي قضاه والده في سلخها ودباغتها. كانت تلك الجلود توجد في سقيفة علوية طوال الصيف، وذهبت العربة إلى المدينة عشرات المرات. ولكن لما أراد أن يذهب إلى فرانكفورت اليوم مهندما ومن دون مسئوليات، بات لزاما عليه أن يأخذ هذه الجلود ذات الرائحة الكريهة ورجلين بلسان بذيء، ويقود زوجا من البغال لا يكفان عن النهيق والوقوف فجأة والتصرف بحماقة وسط حشود الناس. على الأرجح، نظر والده من النافذة ورآه يغسل السيارة؛ ومن ثم قرر أن يوكل إليه هذه المهمة لما كان يرتدي ملابسه. هكذا كان مفهوم المزحة بالنسبة إلى والده.
نظرت السيدة ويلر إلى كلود متعاطفة، وشعرت أن خيبة الأمل تملكت منه. ربما ساورها الشك هي أيضا بأن هذه مزحة. إنها تعلم أن الفكاهة يمكن أن تأخذ أي شكل.
بينما كان كلود في طريقه إلى الحظيرة بعد الإفطار، ذهبت تهرول إلى الممر ونادته بصوت خافت؛ دائما ما تجعلها الهرولة تلهث. لما وصلت إليه، رفعت بصرها إليه بحرص، واضعة يدها على جبهتها بلطف كي تظلل على عينيها. وقالت بنبرة حزينة: «إذا أردت، فسأجهز معطفك الكتاني يا كلود، إذ يمكنني كيه ريثما تنتهي من ربط العربة.»
وقف كلود يركل كومة من الريش المنقط الذي كان يوما ما دجاجة صغيرة. رأت والدته أن كتفيه كانتا غير محنيتين، وكان يوحي شكله بأنه مفعم بالحيوية ولديه تحكم راسخ بالنفس. «لا عليك يا أمي.» تحدث بسرعة متمتما بالكلمات. «الأفضل أن أرتدي ملابسي القديمة ما دمت سآخذ الجلود. إنها مليئة بالدهون، وستصبح رائحتها أسوأ من رائحة السماد عندما تتعرض للشمس.» «أظن أن الرجلين سيهتمان بأمر الجلود. ألا تشعر بأنه من الأفضل أن ترتدي ملابس تليق بالمدينة؟» كانت لا تزال تنظر لأعلى نحوه. «لا تشغلي بالك. جهزي لي قميصا ملونا نظيفا إذا أردت. سيكون هذا مناسبا.»
استدار متجها إلى الحظيرة، وعادت والدته أدراجها عبر الممر إلى المنزل بخطى بطيئة. كانت جسورة ومحنية الظهر جدا، تلك الأم العزيزة! قال في باله إنها ما دامت تتحمل هؤلاء الرجال وتطهو وتغسل لهم، فلا ضير من أن يأخذهم إلى المدينة!
بعدما غادرت العربة بنصف الساعة، ارتدى نات ويلر معطفا من صوف الألبكة، وانطلق في عربته ذات الجرس التي كان يستخدمها للتجول في أنحاء البلدة على الرغم من أن لديه سيارتين. لم يقل شيئا لزوجته؛ فمن شأنها أن تخمن هل سيعود إلى المنزل على العشاء أم لا. كان أمامها هي وماهيلي وقت كاف للتنظيف والكنس طوال اليوم؛ إذ لا يوجد رجال حولهما يعطلون عملهما.
السنة كانت تتخللها بضعة أيام لا يذهب فيها ويلر بعربته إلى أي مكان، لا إلى مزادات البيع أو المؤتمرات السياسية أو اجتماع مديري شركة فارمرز تليفون، وحينها كان يتفقد الجيران ويرى مدى تقدمهم في عملهم، إن لم يكن لديه شيء آخر يقوم به. كان يفضل عربته على السيارة لأنها خفيفة، ويسهل التنقل بها على الطرق غير المستوية أو المزدحمة، ومتهالكة جدا لدرجة أنه لم يفكر قط في أن يقترح على زوجته أن ترافقه فيها. بالإضافة إلى ذلك، كان يستطيع أن يرى الأنحاء أفضل عندما لا يكون على ذهنه الانشغال بالطريق. أتى إلى هذا الجزء من نبراسكا عندما كان الهنود الحمر والجواميس لا يزالون يتجولون بحرية في المكان، وكان يتذكر عام غزو الجراد والإعصار الكبير، ورأى المزارع وهي تظهر واحدة تلو الأخرى بعد أن كان المكان مقفرا، وكانت الريح وحدها تسكنه. شجع مستوطنين جددا على أخذ مساكن لهم في المكان، وحثهم على الود فيما بينهم، وأقرض الشباب الأموال من أجل الزواج، ورأى العائلات وهي تكبر، حتى شعر بأن هذا كله مشروعه الخاص. كانت تثير اهتمامه التغييرات التي كان يراها، ولم تهمه التغييرات التي أحدثتها السنون فحسب، بل أيضا تلك التي كانت تحدثها الفصول.
كان الناس يتعرفون على نات ويلر وعربته وهي على بعد ميل. كان يجلس مرتاحا بجسده الضخم، ويتثاقل على أحد طرفي المقعد المائل، ويده التي تقود العربة موضوعة على ركبته. حتى جيرانه الألمان - آل يودر - الذين كانوا يكرهون التوقف عن العمل لمدة ربع ساعة لأي سبب من الأسباب، كانوا يسعدون برؤيته قادما. كان يفتقده التجار في البلدات الصغيرة المنتشرة في المقاطعة إذا لم يزرهم مرة على الأقل في الأسبوع أو نحو ذلك. لقد كان ناشطا في مجال السياسية، ورغم أنه لم يسبق له الترشح لمنصب ما، فإنه كان غالبا ما يناصر أي صديق له يفعل ذلك ويقود له حملته.
يتجسد المثل الفرنسي «فرحة الشارع حزن المنزل» في السيد ويلر، وإن لم يكن بالطريقة الفرنسية على الإطلاق. كانت شئونه الخاصة ذات أهمية ثانوية بالنسبة إليه. في بداية حياته، استوطن واشترى وأجر أراضي كثيرة بالقدر الكافي، وكان هذا سببا في ثرائه. والآن، كان عليه ألا يؤجر تلك الأراضي لغير المزارعين الجيدين الذين يحبون العمل، ولكنه لم يفعل ذلك، ولم يخف ذلك. ولما كان يمكث في المنزل، فعادة ما كان يمكث في غرفة المعيشة بالطابق العلوي ويقرأ الجرائد. كان لديه اشتراك في 12 جريدة أو نحو ذلك - تضمنت القائمة جريدة أسبوعية مخصصة للفضائح - وكان على اطلاع واسع بما يجري في العالم. لقد كان يتمتع بصحة جيدة، ويأخذ المرض الذي يصيبه أو يصيب غيره على سبيل المزاح. ومن المؤكد أنه لم يعان البتة من أي مرض صعب أكثر من ألم الأسنان أو الدمامل أو نوبة صفراوية عرضية.
كان ويلر يجود بما لديه للكنائس والجمعيات الخيرية، ولا يبرح يقرض الأموال أو الآلات لجار يفتقر إلى أي شيء. كان يحب أن يضايق الأشخاص الخجولين ويصدمهم، ولا تخلو جعبته من القصص المضحكة. كان يندهش الجميع من حسن العلاقة بينه وبين ابنه الأكبر بايليس ويلر. لم يكن بايليس خجولا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه كان غير متفتح؛ من نوع الشباب الحذر الذي لا يتوقع أن يحبه نات ويلر.
صفحه نامشخص
كان بايليس يمتلك متجرا خاصا بتجهيزات المزارع في فرانكفورت، وعلى الرغم من أنه لم يبلغ الثلاثين بعد، فقد أحرز نجاحا ماليا كبيرا. على الأرجح، كان يفخر ويلر بفطنة ولده في العمل. على أي حال، كان يذهب إلى المدينة عدة مرات في الأسبوع كي يرى بايليس، ويذهب إلى أسواق السلع والماشية معه، ويجلس في متجره ساعات متواصلة دون أن يفعل شيئا سوى المزاح مع المزارعين الذين يأتون إليه. كان يعاقر ويلر الخمر في النهار بشراهة، ويأكل كميات كبيرة. كان يتصف بايليس بالنحافة ويعاني عسر الهضم، كما أنه كان من أنصار تحريم الخمر المتزمتين؛ كان يود لو أنه ينظم لكل فرد نظامه الغذائي حسب قانونه الواهن. حتى السيدة ويلر - التي ترضى بما قسمه الله لها فيما يتعلق بنصيبها من الرجال - كانت تتعجب من انسجام العلاقة بينه وبين والده، وكيف يذهبان إلى المؤتمرات معا ويستمتعان بوقتهما، رغم أن كلا منهما كان لديه مفهوم مختلف عن الاستمتاع بالوقت.
مرة كل بضع سنوات، كان السيد ويلر يشتري بدلة جديدة ودزينة قمصان خشنة، ويذهب إلى ولاية مين لزيارة أشقائه وشقيقاته الذين كانوا أفرادا هادئين وتقليديين للغاية. ولكنه دائما ما كان يسعد بالعودة إلى المنزل، وإلى ملابسه القديمة، ومزرعته الكبيرة، وعربته وابنه بايليس.
جاءت السيدة ويلر من ولاية فيرمونت لتصبح مديرة مدرسة ثانوية لما كانت فرانكفورت بلدة حدودية، وكان نات ويلر عازبا ثريا. لا بد أنه أعجب بها للسبب نفسه الذي أحب ابنه بايليس من أجله؛ إذ كانت مختلفة عنه تمام الاختلاف. يقال عن نات ويلر إنه يحب كل أصناف البشر؛ يحب الطيبين والمخلصين، ويحب الأوغاد والمنافقين، ولكنه كان يحب الصنف الأخير أكثر. إذا سمع أن أحد الجيران دبر مكيدة مفجعة أو ارتكب فعلا لا ينكر أحد وضاعته، فإنه يحرص على أن يذهب إليه كي يراه على الفور كأنه لم يقدره قدره قبل ذلك.
كان يحظى والد كلود بوقار كبير بين ربوع البلاد. كان يحب أن يستفز الآخرين لإثارة ضحك شديد، ولكنه لم يضحك البتة على نحو صاخب. عندما يروي الناس القصص عنه، غالبا ما كانوا يحاولون تقليد صوته المهيب الناعم الذي كان قويا، ولكنه لم يعل قط. وحتى عندما يدخل إلى قلبه فرح كبير من أي شيء - مثل الوقت الذي تخلع فيه ماهيلي المسكينة ملابسها في ليلة من ليالي الصيف المظلمة، وتجلس على ورق لاصق لإبادة الحشرات - فإنه لا يحدث صخبا. إنه أب مرح وسهل الإرضاء حقا بالنسبة إلى فتى لم يكن مرهف الحس جدا.
2
وصل كلود وبغلاه إلى فرانكفورت في الوقت الذي بدأت فيه آلة الكاليوبي العزف في الشارع الرئيسي عند مدخل السيرك. وبمجرد أن تخلص من الحمولة البغيضة والرفيقين غير الملائمين، شق طريقه وسط الزحام على الرصيف، وأخذ يبحث عن بعض فتيان الجيران. كان السيد ويلر يقف على ناصية بنك المزارعين، وقد كان أطول من الجميع، وقد أخذ يمزح مع رجل أحدب نحيل كان يجهز لعبة من ألعاب الحظ. وكي يتحاشى كلود والده، انعطف ودخل إلى متجر أخيه. اكتظت نافذتا العرض الكبيرتان بأطفال البلدة، وكانت أمهاتهم يقفن خلفهم لمشاهدة العرض. كان بايليس يجلس في صومعته الزجاجية الصغيرة عاكفا على الكتابة وإمساك الحسابات. أومأ إلى كلود وهو جالس على مكتبه.
دخل كلود مهرولا وكأنه في عجلة شديدة من أمره، وقال: «مرحبا. هل رأيت إرنست هافل؟ ظننت أنني قد أجده هنا.»
استدار بايليس بكرسيه الدوار كي يعيد كتالوج المحاريث إلى الرف. «ما الذي سيأتي به إلى هنا؟ الأفضل أن تبحث عنه في الحانة.» لا أحد يستطيع أن يرمي تلميحات وضيعة ضمن ملاحظات غامضة ومملة أكثر من بايليس.
استشاط كلود غضبا. وبينما كان يستدير ليذهب، لاحظ شيئا غير عادي في وجه أخيه، ولكنه ما كان ليبلغه مراده بسؤاله عن سبب الكدمة الموجودة حول إحدى عينيه. إرنست هافل كان بوهيميا، وعادة ما كان يحتسي كأسا من الجعة عندما يأتي إلى المدينة، ولكنه كان يتسم بالرزانة وبعد التفكير أكثر من أقرانه الشباب. وانطلاقا من تعليق بايليس، قد يعتقد المرء أن الفتى كان يتسكع ويعاقر الخمر.
في تلك اللحظة، رأى كلود صديقه على الجانب الآخر من الشارع خلف عربة من الكلاب المدربة كانت تلحق بمؤخرة الموكب. ركض بين حشد من الفتية الذين كانوا يتحدثون بأصوات عالية، وأمسك إرنست من ذراعه. «مرحبا، إلى أين أنت ذاهب؟» «ذاهب لتناول غدائي قبل أن يبدأ العرض. تركت عربتي بجانب محطة الضخ عند النهير. ماذا عنك؟» «ليس عندي برنامج معين. هل لي أن أذهب معك؟»
صفحه نامشخص
ابتسم إرنست. «توقعت ذلك. لذا، لدي غداء يكفي فردين.» «نعم، أعرف. إنك دائما ما تفعل ذلك. سألحق بك بعد قليل.»
أحب كلود أن يأخذ إرنست إلى الفندق ليتناول العشاء معه. كان لديه مال كثير في جيوبه؛ فوالده مزارع ثري. في عائلة ويلر، كان لا يناقش أمر شراء آلة درس حبوب أو سيارة جديدة، ولكن يعتبر الذهاب إلى الفندق لتناول العشاء إسرافا. إن سمع والده أو بايليس أنه ذهب إلى هناك وعرف بايليس كل شيء، فسيقولان إنه يتصرف بغرور وسيعاقبانه. حاول أن يبرر جبنه بقوله إنه كان متسخا وإن رائحة الجلود طالته، ولكنه كان يعلم في أعماق قلبه أنه لم يطلب من إرنست الذهاب إلى الفندق معه لأن طريقة تربيته تصعب عليه القيام بهذا الأمر البسيط. اشترى بعض الأشياء من متجر الفاكهة وكشك السيجار، ثم أسرع على طول الطريق المترب باتجاه محطة الضخ. كانت عربة إرنست تقف في ظل بعض أشجار الصفصاف، على قاع رملي صغير محاط نصفه بجانب من النهير منحن مثل حدوة الحصان. رمى كلود نفسه على الرمال بجانب النهير، ونفض الغبار عن وجهه المتعرق. شعر الآن كأنه طوى صفحة ذلك الصباح البغيض.
أخرج إرنست سلة غدائه.
قال: «لقد وضعت زجاجتي جعة في النهير كي أبردهما. أعلم أنك لن ترغب في دخول أي حانة.» «أوه، انس الأمر!» تمتم كلود بتلك الكلمات وهو يرفع غطاء جرة من المخللات. لقد كان يبلغ عمره تسعة عشر عاما، ويخشى الذهاب إلى الحانات ، ويعلم صديقه أنه يخشى ذلك.
بعد الغداء، أخرج كلود بعض السيجار الجيد التي سبق أن أحضرها من كشك السيجار. وابتهج إرنست؛ إذ لم يكن بإمكانه شراء هذا النوع من السيجار. أشعل واحدة وظل وهو يدخنها ينظر إليها بشيء من العجب ويلفها بين أصابعه.
وقفت الخيول ورأسها أعلى صندوق العربة، وأخذت تمضغ الشوفان. تدفق ماء النهير تحت جذور شجر الصفصاف محدثا خريرا هادئا يبعث على التأمل. استلقى كلود وإرنست في الظل ووضعا معطفيهما تحت رأسيهما وتحدثا قليلا جدا. ومن حين لآخر، كانت تمر سيارة في الطريق باتجاه المدينة وتنفجر سحابة من الغبار، وتنتشر رائحة الوقود فوق قاع النهير، ولكن لم ينقطع - معظم الوقت - الصمت الذي كان يسود في وقت الظهيرة في هذا اليوم من أيام الصيف الدافئة والهادئة. عادة ما يكون بإمكان كلود نسيان أسباب انزعاجه وامتعاضه عندما يكون بصحبة إرنست. لم يكن الفتى البوهيمي مترددا على الإطلاق، ولم يتحير بين طريقين أو ثلاثة في الوقت نفسه. كان بسيطا ومباشرا. كان لديه عدد من الاهتمامات غير الشخصية؛ إذ كان مهتما بالسياسة والتاريخ والاختراعات الجديدة. شعر كلود أن صديقه يعيش في جو يوفر له حرية الفكر، لم يحلم هو قط أن يحظى بمثله. بعدما تحدث مع إرنست بعض الوقت، بدت الأشياء التي لم تسر على ما يرام في المزرعة أقل أهمية بالنسبة إليه. تكاد والدة كلود تحب إرنست مثلما يحبه ابنها. لما كان الفتيان في المدرسة الثانوية، غالبا ما كان إرنست يأتي في المساء كي يذاكر مع كلود؛ وفي أثناء المذاكرة على طاولة المطبخ الطويلة، كانت السيدة ويلر تحضر الأشياء التي ترفوها، وتجلس بجوارهما وتساعدهما في دراسة اللغة اللاتينية والجبر. حتى ماهيلي العجوز كانت تتعلم من عبارات الحكمة التي يدرسونها.
قالت السيدة ويلر إنها لن تنسى أبدا الليلة التي وصل فيها إرنست من بلده الأم. ذهب أخوه جو هافل إلى فرانكفورت كي يقابله، وحينها كان عليه أن يتوقف في طريق عودته إلى المنزل ويترك بعض أغراض البقالة لعائلة ويلر. تأخر القطار القادم من الشرق؛ أعلنت الساعة عن العاشرة مساء عندما كانت السيدة ويلر تنتظر في المطبخ في تلك الليلة، وسمعت صوت عربة هافل وهي تحدث صوتا على الجسر الصغير الذي يمر من فوق نهير لافلي كريك. فتحت الباب الخارجي ودخل جو من فوره وفي يده سلة تحوي بعض الأسماك المملحة وجوالا من الدقيق على كتفه. وبينما كان ينزل السمك إلى القبو، ظهر شخص آخر في المدخل؛ فتى صغير قصير ومحني الظهر ويرتدي قبعة مسطحة على رأسه، ويحمل على ظهره حقيبة كبيرة من القماش الزيتي مثل التي يحملها الباعة الجائلون. غط في النوم في العربة، ولما استيقظ ووجد أن أخاه قد ذهب، ظن أنهما في المنزل واندفع يبحث عن حقيبته. وقف في المدخل يرمش بعينيه لما رأى النور، وبدا مندهشا، ولكنه كان مستعدا لإنجاز ما هو مطلوب منه أيا كان. نظرت السيدة ويلر إليه واعتبرته أحد أولادها. ثم ذهبت إليه وحاوطته بذراعها، وابتسمت وقالت بصوتها الهادئ وكأن بإمكانه أن يفهمها: «عجبا، لا تزال فتى صغيرا على أي حال، أليس كذلك؟»
قال إرنست بعدئذ إن هذه كانت هي المرة الأولى التي يرحب فيها به في هذا البلد، على الرغم من ترحاله مسافة بعيدة، وقد دفع وصيح في وجهه أياما لا يعلم عدتها. في تلك الليلة، تصافح مع كلود ونظر بعضهما إلى بعض بارتياب، ولكنهما أصبحا صديقين حميمين منذ ذلك الوقت.
بعد النزهة، ذهب الفتيان إلى السيرك والسعادة تغمرهما. في خيمة الحيوانات، قابلا ليونارد دوسن الضخم - الابن الأكبر لأحد جيران عائلة ويلر المقربين - وجلس ثلاثتهم من أجل مشاهدة العرض. قال ليونارد إنه أتى إلى المدينة بمفرده في سيارته، وسأل كلود إن كان يريد الركوب معه. ابتهج كلود كثيرا لترك مسألة قيادة البغلين إلى رالف؛ حيث إن اصطحاب الأجيرين ليس مشكلة بالنسبة إليه مثل كلود.
كان ليونارد يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما وهو فتى يتصف بضخامة الجسم وميول البشرة إلى اللون البني، وكانت له يدان كبيرتان، وقدمان كبيرتان، وأسنان بيضاء، وعينان لامعتان مليئتان بالحيوية. كان لا يعمل هو ووالده وأخواه في مزرعتهما الكبيرة فحسب، بل كانوا يستأجرون قطعة أرض مساحتها 160 فدانا من نات ويلر. لقد كانوا مزارعين بارعين. وإذا مر صيف جاف من دون محصول جيد، فما يكون من ليونارد إلا أن يضحك ويبسط ذراعيه الطويلتين ويبذل جهدا كبيرا حتى يحصل على محصول أكبر في السنة التالية. ودائما ما كان كلود متحفظا قليلا تجاه ليونارد؛ إذ يشعر بأن الشاب كان يكره الطريقة العشوائية التي تسير بها الأمور في مزرعة ويلر، ويظن أن الالتحاق بالجامعة مضيعة للوقت. لم يلتحق ليونارد حتى بالمدرسة الثانوية في فرانكفورت، ولكنه حقق بالفعل نجاحا أكثر من النجاح الذي يمكن أن يحققه كلود يوما ما. يعتقد ليونارد أن تلك الأشياء متساوية في نظره، ولكنه كان يحب كلود.
صفحه نامشخص
عند غروب الشمس، كانت السيارة تسرع فوق طريق عريض ومعبد يمتد عبر الأرض المستوية التي تقع بين فرانكفورت والأرض الوعرة الأكثر التي تمتد بطول نهير لافلي كريك. أظهر ليونارد إعجابا شديدا بأداء محرك سيارته الذي لا يتعطل. وفي ذلك الوقت، ضحك في نفسه والتفت إلى كلود. «هل تنزعج لو قلت مزحة عن بايليس؟» «أظن أنني سأنزعج.» لم تنم نبرة كلود عن أي حماسة لديه. «هل رأيت بايليس اليوم؟ هل لاحظت فيه شيئا غريبا، مثل كدمة صغيرة حول إحدى عينيه؟ هل أخبرك بالسبب؟» «كلا. لم أسأله.» «حسن إذن. ولكن سأله كثيرون وقال إنه كان يبحث عن شيء في متجره في الظلام، واصطدم بآلة حصاد. حسنا، أنا آلة الحصاد!»
نظر كلود باهتمام. «هل تريد القول إن بايليس دخل في شجار؟»
ضحك ليونارد. «يا إلهي، كلا! ألا تعرف بايليس؟ ذهبت إلى هناك البارحة كي أدفع فاتورة، ثم أتت سوزي جراي وفتاة أخرى كي تبيعا التذاكر من أجل عشاء رجال الإطفاء. كان مروج للسيرك يتسكع في المكان، وبدأ يتحدث بنبرة جريئة بعض الشيء، لم يتفوه بحديث فظ، بل تحدث بالطريقة المعتادة لدى هؤلاء الأشخاص. ردت عليه الفتاتان بالطريقة نفسها، وباعتا له ثلاث تذاكر وقطعا الحديث معه. لم أفهم كيف فكرت سوزي بسرعة فيما قالته. وفي اللحظة التي خرجت فيها الفتاتان، بدأ بايليس في انتقادهما؛ وقال إن كل فتيات الريف يصبحن وقحات جدا في التعامل مع الآخرين، ويعرفن أكثر مما ينبغي فيما يتعلق بالتعامل مع الرجال العابثين، وفي هذه اللحظة ذهبت إليه ولكمته. وصلت اللكمة بقوة أكبر مما قصدت. قصدت أن أصفعه، لا أن أضربه بقوة على عينه. ولكن لا تسير الأمور كما خطط لها دائما، وعندها أصبحت متحفزا بشدة. انتظرت أن يرد لي الضربة. أنا أضخم منه، ورغبت أن أرضيه. ولكنه ظل في مكانه ولم يتحرك. وقف هناك ولم يتوقف وجهه عن الاحمرار، ودمعت عيناه. لا أقول إنه بكى، ولكن دمعت عيناه. قلت: «حسنا يا بايليس. احفظ يديك عن الرد إذا كان هذا مبدأك، ولكن احفظ لسانك أيضا، خاصة إذا كانت الأطراف المعنية غير موجودة.»»
لم يعلق كلود إلا بقوله: «لن يتجاوز بايليس هذا الأمر مطلقا.»
حرك ليونارد رأسه إلى أعلى. «ليس عليه أن يفعل ذلك! أنا عميل جيد، يمكن أن يتقبل الأمر أو لا، ولكني لن أتزعزع عن موقفي!»
في البضع الدقائق التالية، كان الشاب منشغلا بمحاولة صعود تل وعر بسرعة عالية. كان يستطيع فعل هذا في بعض الأحيان، ولا يستطيع ذلك أحيانا أخرى، ولكنه لم يستطع تبين السبب. بعد أن حرك ناقل الحركة إلى النقلة الثانية ببعض الاشمئزاز، وترك السيارة تسير ببطء كما تشاء، لاحظ الارتباك على رفيقه.
تحدث كلود بصوت متوتر: «أتعرف، يا ليونارد، أعتقد أن العدل يقتضي أن ننزل هنا من السيارة وتمنحني فرصة كي ألكمك؟»
لف ليونارد عجلة القيادة بحدة كي يتفادى عربة على الجانب السفلي من التل. «ما هذا الهراء الذي تتفوه به يا فتى؟» «تظن أنك تستطيع هزيمتنا دون شك، ولكن عليك أن تعطيني فرصة أولا.»
نظر ليونارد مندهشا إلى يديه الكبيرتين ذاتي اللون البني المستقرتين على عجلة القيادة. «أيها الأحمق الهالك، لماذا كنت سأخبرك بكل هذا لو لم أعلم تمام العلم أنك جبان آخر؟ لم أظن قط أنك على وفاق تام مع بايليس.» «لست على وفاق معه، ولكن لا تظن أنه يمكنك أن تصفع أي أحد من عائلتي وقتما تشاء.» علم كلود أن تفسيره بدا أحمق، وكان صوته ضعيفا وغاضبا، على الرغم من الجهود التي بذلها كي يخفي ذلك.
علم الشاب ليونارد دوسن أنه جرح مشاعر الفتى. «يا إلهي، أعلم أنك مقاتل يا كلود. بايليس لم يكن كذلك قط. كنت في المدرسة نفسها معه.»
صفحه نامشخص
انتهت الرحلة بسلام، ولكن كلود ما كان سيترك ليونارد يوصله إلى المنزل. لذا، نزل من السيارة بسرعة شديدة ورمى عليه تحية المساء بنبرة فظة، وركض عبر الحقول المظلمة باتجاه الضوء الساطع من المنزل أعلى التل. وعلى الجسر الصغير على النهير، توقف كي يلتقط أنفاسه ويحرص على أن يظهر بمظهر هادئ قبل أن يدخل المنزل ويرى أمه.
تمتم بصوت عال وأغلق قبضته: «اصطدم بآلة حصاد في الظلام!»
لما استمع إلى نقيق الضفادع العميق، وإلى نباح الكلاب البعيدة في المنزل، بدا هادئا أكثر. مع ذلك، تساءل في نفسه ما الذي يجعل المرء مسئولا في بعض الأحيان عن سلوك أشخاص لهم طبيعة مخالفة لطبيعته كليا.
3
أقيم عرض السيرك يوم السبت. وفي الصباح التالي، كان كلود يقف عند التسريحة وأخذ يحلق. طال شعر ذقنه، وكان أغمق من شعر رأسه قليلا، ولكنه ليس بنفس حمرة بشرته. حاجباه ورموشه الطويلة كان لها لون أصفر فاتح؛ مما جعل عينيه الزرقاوين تبدوان أفتح مما هي عليه في الحقيقة، وبحسب ظنه كان الجزء العلوي من وجهه يوحي بأنه خجول وضعيف. كان مظهره ليس بالمظهر الذي يريده على الإطلاق. كان يكره رأسه على وجه الخصوص؛ إذ كان له رأس كبير على نحو جعله يواجه صعوبة في شراء القبعات، وكان رأسه يتخذ شكلا مربعا واضحا؛ وهو ما جعله يبدو كشخص أبله على نحو مثالي. كان يحمل اسمه مصدرا آخر للشعور بالخزي. كلود اسم يعني «الأبله» مثل إلمر وروي، وهو اسم يعني الريفي الذي يحاول أن يرتقي. في مدارس الريف، كان هناك دائما صبي أحمر الشعر ذو يدين مغطاتين بالبثور وأنف لا ينفك عن السيلان يسمى كلود. منحه الله جسما قويا؛ ذراعاه وساقاه متناسقتان ويكتنزان بالعضلات، وكتفاه قويتان، وهي الصفات الجسمانية التي تليق بفتى مزارع. مع الأسف، لم يتصف بالرزانة التي كان يتمتع بها والده، وغالبا ما تبرز قوته من تلقاء نفسها على نحو غير ملائم. في بعض الأحيان، تتسبب العواصف التي تدوي في رأسه في نهوضه أو جلوسه أو رفع شيء بقوة أكبر مما تستدعيه الأسباب التي دفعته إلى القيام بذلك.
نام أهل البيت حتى وقت متأخر في صباح يوم السبت، حتى ماهيلي لم تستيقظ حتى الساعة السابعة. الإشارة العامة إلى موعد الإفطار كانت رائحة قلي كعك الدونت. في هذا الصباح، نزل رالف عن سريره في اللحظة الأخيرة، وارتدى ملابس داخلية نظيفة على عجل من دون استحمام. لم يأبه لذلك على الإطلاق، على الرغم من أنه استغرق بعض الوقت في تلميع حذائه الجديد الملون بلون دم الثور بلطف باستخدام منديل جيب. وصل إلى المائدة بعدما أكل الآخرون نصف وجبتهم، وعبر عن اعتذاره بسؤال والدته بنبرة لطيفة إن كانت لا تريده أن يوصلها بالسيارة إلى الكنيسة.
نظرت إلى الساعة متشككة وقالت: «أود الذهاب معك إن كان لي أن أنجز أعمال المنزل في وقتها.» «ألا تستطيع ماهيلي إنجازها بدلا منك هذا الصباح؟»
ترددت السيدة ويلر. «يمكنها إنجاز الأعمال كافة ما عدا استخدام فرازة اللبن. ولكنها لا تستطيع تجميع كل الأجزاء بعضها مع بعض. إنه قدر كبير من العمل، كما تعلم.»
بينما كان يفرغ رالف محتويات إبريق الشراب السكري على كعكاته، قال بخفة دم: «والآن يا أمي، أنت متعصبة لرأيك. لا أحد يفكر في خض اللبن هذه الأيام. المزارعون المسايرون للزمن يستخدمون الفرازة.»
رمشت عينا السيدة ويلر الشاحبتان. وقالت: «لن أكون أنا وماهيلي قط مسايرتين للزمن يا رالف. إننا لا نعلم غير الطرق القديمة، ولا أريد سوى أن تدعنا كذلك. أستطيع تبين ميزات الفرازة إذا كنا نحلب ست بقرات. إنها ماكينة عبقرية للغاية. ولكن تنظيفها بالماء الساخن وتركيبها يحتاج إلى جهد أكبر بكثير مما يتطلبه التعامل مع اللبن بالطريقة القديمة.»
صفحه نامشخص
طمأنها رالف: «لن يكون الأمر كذلك عندما تعتادين عليها.» رالف هو كبير الميكانيكيين في مزرعة ويلر، وعندما لا يجد ما يفعله مع أدوات المزرعة والسيارات، كان يذهب إلى المدينة ويشتري آلات من أجل المنزل. وبمجرد أن تعتاد ماهيلي على استخدام غسالة أو ممخضة ما، كان يحضر رالف إلى المنزل واحدة أخرى أحدث كي يواكب مسيرة الاختراعات المتسارعة. لم تتمكن قط من استخدام غسالة الأطباق الميكانيكية، والمكاوي المسطحة والأفران التي تعمل بالزيت ذات العلامات التجارية كانت تدفعها للجنون.
طلب كلود من والدته أن تصعد إلى الطابق العلوي وترتدي ملابسها؛ كان سينظف الفرازة ريثما يجهز رالف السيارة. كان لا يزال يعمل على ذلك عندما أتى أخاه من المرآب كي يغسل يديه.
صاح غاضبا: «يجب ألا تثقل كاهل والدتك بأعمال مثل تلك يا رالف. هل جربت من قبل أن تغسل هذه الآلة اللعينة بنفسك؟» «بالطبع فعلت ذلك من قبل. إذا كان بإمكان السيدة دوسن فعل ذلك، فأعتقد أن أمي تستطيع.» «السيدة دوسن أصغر في السن. على أي حال، لا جدوى من تدريب ماهيلي وأمنا على استخدام الآلات.»
رفع رالف حاجبيه ردا على فظاظة كلود. وقال محاولا الإقناع: «اسمعني، لا تشجعها أنت على الاعتقاد بعدم إمكانية تغييرها لطرقها. بإمكان والدتنا التعامل مع كل ما نحضره من أجهزة موفرة للجهد والوقت.»
ضرب كلود الأقماع المعدنية المتدرجة التي يزيد عددها عن الثلاثين، التي كان يحاول تركيبها بتسلسلها الصحيح. «لا بأس، إن كان هذا سيوفر الجهد والوقت حقا.»
قهقه الفتى الأصغر وركض إلى الطابق العلوي كي يجلب قبعة بنما الخاصة به. لم يتشاجر مع أخيه البتة. في بعض الأحيان، كانت تتعجب السيدة ويلر من تحمل رالف لكلود.
بعدما انطلق رالف ووالدته بالسيارة، ذهب السيد ويلر كي يرى جاره الألماني جاس يودر الذي اشترى لتوه ثورا غير مهجن. كان دان وجيري يلعبان لعبة رمي حدوات الخيول على أحد الأوتاد خلف الحظيرة. كلود أخبر ماهيلي أنه ذاهب إلى القبو لوضع الرف المعلق الذي كانت تريده؛ حتى لا تستطيع الفئران الوصول إلى خضراواتها. «شكرا لك سيد كلود. لا أعلم ما الذي يجعل الفئران بهذا السوء. إن القطط تمسك تقريبا بواحد كل يوم.» «أظن أنها تأتي من الحظيرة. لدي لوح عريض ومتين في المرآب ينفع لعمل الرف.» القبو كان مغطى بالأسمنت ورطبا وجافا، ويحتوي على خزانات عميقة لتخزين الفاكهة المعلبة والدقيق وأغراض البقالة، وصناديق للفحم وأكواز الذرة، وغرفة مظلمة مليئة بمعدات التصوير الفوتوغرافي. أخذ كلود مكانه على منضدة النجارة تحت إحدى النوافذ المربعة. أشياء غامضة كانت منثورة من حوله في الشفق الرمادي؛ بطاريات كهربائية، دراجات قديمة وآلات كاتبة، ماكينة لصناعة أعمدة السياج الخرسانية، فرن لتصليد المطاط، ستريوبتكون بعدسة مكسورة. كانت تخزن في هذا المكان الألعاب الميكانيكية التي لا ينجح رالف في تشغيلها، وكذلك تلك التي سئم منها. إذا تركت هذه الألعاب في الحظيرة، كان يراها السيد ويلر كثيرا، وفي بعض الأحيان كان يبدي عليها تعليقات ساخرة إن اعترضت طريقه. توسل كلود إلى والدته كي تسمح له أن يجمع هذه الأشياء المبعثرة في عربة ويدفنها في حفرة عميقة على امتداد النهير، ولكن السيدة ويلر نهرته وقالت له إنه يجب ألا يفكر في ذلك؛ لأنه بهذا كان سيؤذي مشاعر رالف. وتقريبا في كل مرة كان يذهب فيها كلود إلى القبو، كان يأخذ قرارا منفعلا بأن يخلي المكان في يوم ما، ويقول في نفسه بمرارة بأن الأموال التي تنفق على هذا الحطام كان يمكن أن تكفي مصاريف الجامعة لأي فتى.
لما كان كلود يسوي بالفأرة اللوح الذي أراد أن يدليه من الروافد، تركت ماهيلي عملها ونزلت كي تشاهده. تظاهرت قليلا بأنها أتت لتأخذ بعض البصل المخلل، ثم جلست على صندوق بسكويت، وعلى مقربة منها كانت توجد «أرجوحة بزنبرك» منجدة بنسيج قطيفة ومكسورة منها إحدى ذراعيها، ولكنها لم تظن أنه من الأدب أن تجلس عليها. كان في عينيها شيء من الرضا الناعس بينما كانت تتبع حركات كلود. راقبته كأنه طفل صغير يلعب. استقرت يداها على نحو مريح على حجرها. «لم يزرنا السيد إرنست منذ مدة طويلة. لا أظنه متضايقا من شيء، أليس كذلك؟» «أوه، كلا! إنه مشغول للغاية هذا الصيف. رأيته في المدينة أمس. ذهبنا إلى السيرك معا.»
ابتسمت ماهيلي وأومأت. «جميل. يسعدني أن تحظيا بوقت طيب معا. السيد إرنست فتى طيب، طالما أحببته بشدة. إنه فتى صغير مع ذلك. إنه ليس كبيرا مثلك، أليس كذلك؟ أظن أنه لا يبلغ حتى السيد رالف في طول القامة.»
قال كلود بين ضربات تثبيت الرف: «هذا صحيح. ولكنه قوي وينجز قدرا كبيرا من العمل.» «أوه، أعلم! أعلم أنه كذلك. أعلم أنه يعمل بجد. كل الأجانب يعملون بجد، أليس كذلك يا سيد كلود؟ أعتقد أنه أحب السيرك. ربما ليس لديهم سيرك مثل الذي عندنا، في المكان الذي أتى منه.»
صفحه نامشخص
بدأ كلود يخبرها عن الفيل الذي يقوم بحركات كوميدية والكلاب المدربة، وجلست تستمع إليه وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة سعيدة بلهاء، وكان يوجد أيضا وراء ابتسامتها شيء ينم عن حكمة وبعد نظر.
أتت ماهيلي للعمل لديهم منذ وقت طويل، وحينها لم يكن يتجاوز عمر كلود أكثر من بضعة أشهر. أتت إلى الغرب مع عائلة من فيرجينيا لا تحسن التدبير؛ ومن ثم تشتت وتفرق أفرادها تحت وطأة حياة المزارع الجديدة. وعندما ماتت الأم في تلك العائلة، لم تجد ماهيلي أي مكان تذهب إليه؛ ومن ثم استأجرتها السيدة ويلر. لم يكن لدى ماهيلي أحد يعتني بها، ولم يكن لدى السيدة ويلر أحد يساعدها في العمل؛ ولذا لقي العون بعضهما في بعض.
عاشت ماهيلي أياما صعبة في شبابها؛ إذ تزوجت من إنسان همجي يعيش في منطقة جبلية، أساء معاملتها في أغلب الأحيان، ولم ينفق عليها على الإطلاق. كان بإمكانها أن تتذكر أوقاتا كانت فيها تجلس في الكوخ وبجانبها برميل وجبات فارغ ووعاء حديدي بارد تنتظر «إياه» كي يحضر سنجابا اصطاده أو دجاجة سرقها. وفي كثير من الأحيان كان لا يدخل إلا بإبريق من ويسكي جبلي وقبضتين وحشيتين يضربها بهما. الآن، كانت تعتقد أنها في رغد من العيش؛ إذ لا تتوسل من أجل الطعام ولا تضطر إلى التوغل في الغابات من أجل جمع الحطب؛ ومن ثم فهي تضمن الحصول على سرير دافئ وحذاء وملابس جيدة. كانت ماهيلي ابنة لأبوين أنجبا ثمانية عشر ابنا، نشأ معظمهم بإعاقة ذهنية أو في حياة الجريمة، وأنهى اثنان من إخوتها - مثل زوجها - حياتهما في السجن. لم تلتحق بالمدرسة البتة؛ ولذا فهي لا تستطيع القراءة والكتابة. ولما كان كلود فتى صغيرا، حاول أن يعلمها القراءة، ولكن ما تتعلمه في ليلة كانت تنساه في الليلة التي تليها. كان يمكنها العد ومعرفة الوقت من الساعة، كما أنها تفخر بشدة بمعرفتها الحروف الأبجدية، وبقدرتها على تهجي الحروف المكتوبة على جوالات الدقيق وعبوات القهوة. كانت تتمتم: «هذا حرف
A
كبير، وذاك حرف
a
صغير.»
كانت ماهيلي تتمتع بفطنة في تقدير الناس، وكان يعلم كلود أنها تصدر أحكاما ملائمة بشأن الكثير من الأشياء. واتضح له أنها تدرك جميع أطياف المشاعر الشخصية، ومواطن الاتفاق والاختلاف بين أفراد المنزل، تماما كما كان يفعل، وما أحب أن يفوته رأيها السديد. لقد كانت تستشيره في جميع الصعوبات الصغيرة التي كانت تواجهها. فإذا تعرضت ساق طاولة المطبخ إلى الخلخلة، فإنها كانت تعلم أنه سيثبتها لها ببراغي جديدة. وعندما كسرت يد مرقاق العجين، وضع له يدا أخرى، وركب مقبضا لسكين تقطيع اللحم التي تفضلها بعد أن قال الجميع إنه يجب رميها. حظيت تلك الأشياء بقيمة جديدة في نظرها بعد إصلاحها؛ ومن ثم أحبت العمل بها. وعندما كان يساعدها كلود في رفع شيء أو حمله، فإنه كان لا يتحاشى قط ملامستها، وكانت تشعر بذلك في أعماقها. كانت تشك بأن رالف ربما لا يحبها، وأنه يفضل أن تتولى المطبخ امرأة شابة ونشيطة.
في مثل الأيام هذه التي لا يوجد فيها الآخرون في المكان، كانت ماهيلي تحب أن تتحدث مع كلود عن الأشياء التي فعلاها معا عندما كان صغيرا؛ عن تجولهما بالقرب من النهير يوم الأحد، حيث كانا يقطفان العنب البري ويراقبان السناجب الحمراء، أو يتسكعان معا عبر المراعي العالية حتى يصلا إلى أجمة من البرقوق البري في الطرف الشمالي من مزرعة ويلر. بإمكان كلود أن يتذكر أيام الربيع الدافئة لما كانت أشجار البرقوق مزهرة كلها، وكانت ماهيلي معتادة على الاستلقاء تحت ظلها والغناء لنفسها، وكأن حلاوة العسل الشهية للبرقوق جعلتها تشعر بالنعاس؛ أغاني من دون كلمات في معظمها، ولكنه كان يتذكر أغنية رثائية جبلية لم تنفك عن التغني بها تقول: «وأدخلوا جيسي جيمس إلى قبره.»
4
صفحه نامشخص
كان يقترب وقت رجوع كلود إلى الكلية الدينية المتشددة، الواقعة على أطراف عاصمة الولاية التي قضى فيها شتاءين موحشين وغير مثمرين.
لما سنحت له الفرصة أن يتحدث مع والدته بمفردهما في صباح أحد الأيام، قال: «أمي، ليتك تسمحين لي بترك كلية تمبل والانتقال إلى جامعة الولاية.»
انتقلت ببصرها إليه من كتلة العجين التي كانت عاكفة على عجنها. «ولكن لماذا يا كلود؟» «حسنا، أحد الأسباب أن بإمكاني تعلم المزيد. كما أن الأساتذة في تمبل ليسوا جيدين. ومعظمهم واعظون لا يكفيهم الوعظ بصفته مصدر دخل لهم.»
ارتسمت ملامح الألم التي دائما ما كانت تجعل كلود يلين على وجه والدته على الفور. «يا ولدي، لا تقل هذا الكلام. لا أصدق سوى أن اهتمام المعلمين بطلابهم يزيد عندما ينشغلون بتلبية احتياجاتهم الروحية والعقلية على حد سواء. يقول القس ويلدون إن العديد من الأساتذة في جامعة الولاية ليسوا مسيحيين، حتى إنهم يتباهون بذلك في بعض الأحيان.» «أوه، أظن أن معظمهم أناس جيدون دون شك؛ على أي حال، إنهم متمكنون من مادتهم العلمية. هؤلاء الواعظون الصغار الحمقى من أمثال ويلدون يتسببون في كثير من الأذى؛ إذ لا يفعلون شيئا سوى التجول في البلاد والحديث. إن مهمته جذب الطلاب إلى كليته. وإذا لم يأت بهم، فسيخسر وظيفته. ليته لم يصل إلي قط. ومعظم الطلاب المطرودين من جامعة الولاية يأتون إلينا، تماما كما فعل.» «ولكن من أين يمكن أن تأتي الدراسة الجادة إن كانوا يخصصون وقتا كبيرا من أجل الألعاب الرياضية والملهيات؟ إنهم يدفعون لمدرب كرة القدم لديهم راتبا أعلى من رئيس الجامعة. كما أن مساكن الطلبة تلك أماكن يتعلم فيها الفتيان كل أنواع الشرور. لقد سمعت عن بعض الأشياء المريعة التي تحدث داخلها في بعض الأحيان. وبجانب هذا كله، إنها تتكلف أموالا أكثر، ولا يمكنك العيش بقليل من المال كما هو الحال في منزل آل تشابين.»
لم يرد كلود بشيء. وقف أمامها عابسا، وأخذ يفرك بقعة خشنة في راحة يده. نظرت إليه السيدة ويلر بحزن. وقالت: «أنا متأكدة من أنك ستستطيع الدراسة على نحو أفضل إذا كانت البيئة المحيطة بك هادئة وجادة.»
تنهد وابتعد عنها. لو كانت والدته مداهنة ولو بقدر أقل من القس ويلدون، لاستطاع إخبارها بحقائق عديدة توضح لها الأمور. ولكنها كانت تركن إلى حسن الظن والبساطة، وكانت مستقيمة بشدة بطبيعتها، ولا تعلم شيئا عن الحياة كما علمها هو؛ ولذا كان لا فائدة من النقاش معها. كان بإمكانه أن يصدمها ويجعلها تخشى العالم حتى أكثر مما كانت تخشاه الآن، ولكنه لم يستطع أن يفهمها ذلك قط.
كانت والدته غير مسايرة للعصر. كانت تظن أن الرقص ولعب الأوراق من المسليات الخطيرة - إذ لم يقم بتلك الأشياء سوى الأشقياء وهي فتاة في فيرمونت - وأن «أهل الدنيا» ما هو إلا مرادف للأشرار. ووفقا لمفهومها عن التعليم، يجب على المرء أن يتعلم، لا أن يفكر؛ وفوق كل هذا، ما ينبغي للمرء أن يسأل. تاريخ البشرية لا يخفى على أحد - حيث إنه السبب في وجودهم - ومصيرها كذلك لا يخفى على أحد؛ لأنه محتوم أمامهم. كما يجب ألا يحيد العقل عن المفهوم اللاهوتي للتاريخ.
نات ويلر لم يكن يشغله أي مؤسسة تعليمية يتعلم فيها ولده، ولكنه - هو الآخر - كان يسلم بأن الكلية الدينية أرخص من جامعة الولاية، ويسلم بأنه نظرا إلى أن الطلاب هناك يبدون أقل هنداما، فإنه يقل احتمال أن يعرفوا الكثير وأن يمارسوا ذكاءهم بطريقة بغيضة في المنزل. وعلى الرغم من ذلك، أخبر بايليس عن تلك المسألة لما كان في المدينة في أحد الأيام. «يريد كلود أن ينتقل إلى جامعة الولاية هذا الشتاء.»
وعلى الفور، أظهر بايليس على وجهه ذلك التعبير الحكيم الذي يبدو منه أنه مستعد للأسوأ، الذي جعله يبدو حصيفا ومتمرسا منذ طفولته. «لا أرى أي فائدة من التغيير ما لم تكن لديه أسباب وجيهة.» «حسنا، يعتقد أن مجموعة القساوسة الموجودة في تمبل لا يعدون أساتذة مميزين.» «أعتقد أن بإمكانهم مع ذلك تعليم كلود الكثير. وإذا التحق بفريق كرة القدم الفاجر هذا في جامعة الولاية، فلن يستطيع أحد السيطرة عليه.» كان يمقت بايليس كرة القدم الأمريكية لسبب أو لآخر. «وهذا النشاط الرياضي عمل مضر بشدة. وإذا أراد كلود التدريب فيمكنه زراعة القمح في فصل الخريف.»
في تلك الليلة، فتح السيد ويلر الموضوع على العشاء وسأل كلود، وحاول أن يعرف سبب سخطه. كان أسلوبه مازحا كالعادة، ولكن كلود كان يكره أي مناقشة لأموره الشخصية على الملأ. خشي فكاهة والده عندما كانت تقترب بشدة منه.
صفحه نامشخص
ربما كان سيستمتع كلود بالعروض الهزلية الكبيرة والوقحة إلى حد ما التي يثري بها السيد ويلر الحياة اليومية، لو لم يكن هو مؤلفها. ولكنه رغب من أعماق أعماقه أن يكون والده هو الأكثر احتراما، كما هو بلا شك الأوسم والأذكى في المجتمع. إضافة إلى ذلك، كان كلود لا يتحمل التهكم كثيرا. إنه كان يحس به قبل أن يصيبه؛ أي إنه عندما كان يراه قادما كان يستبقه. لاحظ السيد ويلر هذه السمة فيه لما كان صبيا يافعا، ونعتها بالفخر الزائف، وتعمد أن يثير حفيظة مشاعر كلود كي يقوي قلبه، كما فعل مع والدته التي كانت تخشى كل شيء إلا الكتب المدرسية ولقاءات الصلاة لما تزوجها في البداية. كانت لا تزال متحيرة بنحو أو بآخر، ولكنها تغلبت على أي مشاعر خوف منه، أو من العيش معه منذ زمن بعيد. لقد تقبلت كل شيء في زوجها باعتبارها جزءا من ذكوريته الخشنة، وكانت تفخر بذلك بأسلوبها الهادئ.
لم يغفر كلود لوالده قط بعضا من مداعباته السمجة. ففي يوم حار من أيام الربيع حينما كان صبيا مشاغبا في الخامسة من عمره، وكان يلعب داخل المنزل وخارجه، سمع والدته تتوسل إلى السيد ويلر أن ينزل إلى البستان ويقطف عناقيد الكرز من شجرة محملة بالثمار. تذكر كلود أنها استمرت في التذمر قائلة إن عناقيد الكرز عالية ولا تستطيع الوصول إليها، وحتى لو حصلت على سلم فسيؤلم ظهرها استخدامه. كان السيد ويلر ينزعج دائما إن أشارت زوجته إلى أي ضعف جسدي تعاني منه، خاصة إذا اشتكت من ظهرها. نهض وخرج. ثم عاد بعد برهة. نادى مبتهجا وهو يمر من المطبخ: «كل شيء على ما يرام الآن يا إيفانجلين. لن يسبب لك الكرز أي مشكلات. يمكنك أنت وكلود الذهاب وجمع ثماره بمنتهى السهولة.»
ارتدت السيدة ويلر قبعتها الشمسية واثقة، وأعطت كلود دلوا صغيرا، وأخذت هي واحدا كبيرا، ثم ذهبا إلى البستان عبر تل المراعي، وكان هذا البستان مسيجا في الأرض المنخفضة بجانب النهير. لقد حرثت الأرض في ذلك الربيع كي تحتفظ بالرطوبة، وظل كلود يركض سعيدا في أحد الأخاديد عندما نظر إلى أعلى، ورأى مشهدا لن يستطيع أن ينساه أبدا. رأى شجرة الكرز الجميلة ذات القمة الدائرية المليئة بالأوراق الخضراء والثمار الحمراء، وقد قطعها والده بالمنشار! كانت تقبع على الأرض بجانب جذعها النازف. وبصرخة واحدة، تحول كلود إلى شيطان صغير. رمى دلوه المصنوع من القصدير بعيدا، وأخذ يقفز في المكان وهو يصرخ ويضرب الأرض الرخوة بحذائه ذي المقدمة النحاسية، حتى قلقت والدته عليه أكثر من قلقها على الشجرة.
صاحت: «يا ولدي، يا ولدي، إنها شجرة والدك. له الحق الكامل في قطعها إن أراد. وكثيرا ما قال إن الأشجار كثيفة هنا. ربما هذا أفضل للأشجار الأخرى.»
صاح كلود: «إنها ليست كذلك! إنه أحمق لعين، أحمق لعين!» وزمجر وظل يقفز ويركل، وكاد أن يخنقه الغضب والكراهية.
جثت والدته على ركبتيها بجانبه. «كلود، توقف! أفضل أن تقطع كل أشجار البستان على أن أسمع منك هذه الكلمات.»
بعد أن هدأته، جمعا الكرز وعادا إلى المنزل. وعدها كلود بألا يتفوه بكلمة، ولكن لا بد أن والده لاحظ نظرات الغضب التي كان يوجهها الصبي الصغير تجاهه طوال العشاء، وكذلك تعبير الاحتقار البادي على وجهه. وحتى ذلك الحين، كان يعرف كيف يكبح شفتيه المرنتين عن التعبير عن الصورة المكنونة بداخله. لعدة أيام بعد ذلك، كان يذهب كلود إلى البستان ويشاهد الشجرة وهي تضعف أكثر وتذبل وتموت. قال في نفسه لا بد أن الله سيعاقب من تجرأ وفعل بها ذلك.
المزاج الحاد والاضطراب الجسدي كانا من أبرز الصفات في كلود عندما كان صبيا صغيرا. كان رالف مطيعا، وبدت حنكته في الابتعاد عن المشكلات في وقت مبكر. وحيث إنه كان هادئا في أسلوبه، فقد كان بارعا في إثارة المتاعب، ولا يصعب عليه إقناع أخيه الأكبر - الذي كان لا يتوقف عن البحث عن شيء يفعله - لتنفيذ خططه. وعادة ما كان يمسك كلود لا غيره متلبسا بالجرم. ولما كان رالف يجلس على بساطه على الأرض هادئا ومتأملا، كان يهمس إلى كلود بأنه ربما يكون من المبهج الصعود وأخذ الساعة من فوق الرف، أو تشغيل ماكينة الخياطة. ولما كبرا وبدآ يلعبان خارج المنزل، كان يكفيه أن يلمح إلى كلود أنه خائف كي يحرضه على لمس فأس مغطاة بالثلج بلسانه، أو القفز من أعلى سطح السقيفة.
لم تكن متاعب الطفولة المعتادة في الريف كافية بالنسبة إلى كلود؛ فكان يفرض على نفسه عقوبات واختبارات جسدية. فكلما أحرق إصبعه اتبع نصيحة ماهيلي وقرب يده من الموقد حتى «يخرج النار من إصبعه». وفي أحد الأعوام، ذهب إلى المدرسة طوال الشتاء بسترته بغية أن يشد من عضده. كانت أمه تحكم أزرار معطفه، وتضع وعاء العشاء في يده وتجعله ينطلق في طريقه إلى المدرسة. وبمجرد أن يبعد عن أنظار من في المنزل، كان يخلع معطفه ويلفه تحت إبطه، وينطلق مسرعا بطول حافة الحقول المغطاة بالثلوج حتى يصل إلى سور المدرسة لاهثا ومرتجفا، ولكنه كان سعيدا بنفسه بشدة.
5
صفحه نامشخص
انتظر كلود من الكبار أن يغيروا رأيهم بشأن المكان الذي يجب أن يذهب إليه للدراسة، ولكن يبدو أن لا أحد اهتم كثيرا بالأمر، حتى والدته .
منذ عامين، أتى الشاب الذي تدعوه السيدة ويلر باسم «القس ويلدون» من لينكن، وعمل في الوعظ في المدن الصغيرة والكنائس الريفية، وسعى لجذب الطلاب إلى المؤسسة التي كان يدرس بها في فصل الشتاء. أقنع السيدة ويلر أن الكلية التي يعمل بها هي آمن مكان يمكن أن يذهب إليه فتى يغادر المنزل للمرة الأولى.
لم تكن والدة كلود تضمر تحاملا ضد الواعظين. كانت تعتقد أن جميعهم مختارون وطاهرون، وأسعد لحظات حياتها كانت عندما أتى أحدهم إلى منزلها وأخذت تطهو له وتعمل على خدمته. لقد وفرت كل سبل الراحة للسيد ويلدون الشاب؛ مما دفعه إلى البقاء في منزلها عدة أسابيع، شاغلا الغرفة الشاغرة حيث كان يقضي وقت الصباح في الدراسة والتأمل. لم يتخلف عن مواعيد الوجبات، وحينها كان يطلب البركة على الطعام ويجلس، وترتسم على عينيه ملامح الورع والخجل أثناء تقطيع الدجاج تمهيدا لتوزيعه. كان رأسه المدبب من الأعلى مائلا إلى أحد الجانبين قليلا، وكان شعره الخفيف مفروقا بالضبط فوق جبهته البارزة، وممشطا بتموجات بسيطة. كان لين القول ومتواضعا في تعامله، وكان لا يشغل مكانا كبيرا عندما يجلس. حلمه أثار إعجاب السيد ويلر الذي كان يحب أن يغدق عليه بالطعام، ولا ينفك يسأله بجدية: «ما الجزء الذي تفضله في الدجاجة؟» كي يسمعه وهو يتمتم: «قليل من لحم الصدر إذا سمحت»، وحينها كان يسحب مرفقيه بالقرب منه، وكأنه ينزلق ببراعة من فوق مكان خطير. فيما بعد الظهيرة، اعتاد القس ويلدون أن يرتدي ربطة عنق جديدة مصنوعة من قماش رقيق، وقبعة خشنة ولامعة من القش كانت تترك خطا أحمر على جبهته، ويمسك الكتاب المقدس الخاص به تحت ذراعه ويخرج داعيا للناس. وإذا ذهب إلى مكان بعيد، كان يأخذه إليه رالف بالسيارة.
كره كلود هذا الشاب منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها، ونادرا ما كان يرد عليه بطريقة مهذبة. السيدة ويلر التي كانت شاردة الذهن دائما، والتي كانت حينها مشغولة بشدة بواجب الضيافة للزائر، لم تلاحظ صمت كلود النابع من الازدراء حتى همست إليها ماهيلي - إذ لا تفوتها هذه الأشياء مطلقا - فوق الموقد يوما ما قائلة: «السيد كلود لا يحب الواعظ. إنه فقط لا يحترمه، ولكن لا تقولي لأحد.»
بسبب المدة التي أقامها القس ويلدون في المزرعة، أرسل كلود إلى كلية تمبل. بدأ كلود يعتقد أن أبغض الأشياء والأشخاص إلى قلبه هم من سيحددون له مصيره.
لما اقترب الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وضع بعض الملابس والكتب في صندوقه وودع والدته وماهيلي. أوصله رالف إلى فرانكفورت كي يلحق بالقطار المتجه إلى لينكن. وبعدما جلس كلود في عربة القطار العادية القذرة، أخذ يفكر في مستقبله. كانت هناك عربة فاخرة في القطار، ولكن الركوب في العربة الفاخرة في رحلة نهارية لم يكن من الأشياء التي يفعلها أحد من آل ويلر.
كان كلود يعلم أنه عائد إلى الكلية الخطأ، وأنه كان يهدر الوقت والمال معا. سخر من نفسه بسبب ضعف عزمه. قال لنفسه ما دمت مضطرا إلى التعامل مع الغرباء، فبإمكاني أن أحدد ما أريده وأحارب من أجله. ربما لم يكن باستطاعته مواجهة والده أو والدته، ولكنه كان يستطيع أن يتحلى بالجرأة مع بقية الخلق. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فلماذا استمر في العيش مع آل تشابين المزعجين؟ بيت آل تشابين كان يعيش فيه أخ وأخت. كان إدوارد تشابين رجلا في السادسة والعشرين من عمره ذا وجه رجل عجوز منهك، وكان لا يزال يدرس كي يصبح قسيسا. أخته أنابيل كانت تعتني بشئون المنزل؛ هذا يعني أنها كانت تقوم بواجبات المنزل كلها. كان الأخ يحصل على قوت يومه له ولأخته من العمل في وظائف غريبة في الكنائس والجمعيات الدينية؛ فقد كان يلقي «الخطبة» وقت مرض القس، ويقوم بأعمال السكرتارية في الكلية وجمعية الشبان المسيحيين. وعلى الرغم من قلة المبلغ الذي كان يدفعه كلود للإقامة والوجبات في هذا البيت، فإن هذا المبلغ كان يسهم كثيرا في راحتيهما.
التحق تشابين بكلية تمبل منذ أربع سنوات، وربما كان سيستمر سنتين أخريين حتى يكمل دراسته. اعتاد أن يذاكر دروسه في عربات الترولي، وفي أوقات الانتظار بجانب السكك الحديدية في الأماكن الخالية، وكان يذاكر حتى وقت متأخر من الليل. لا بد أن غباءه الفطري كان خارجا عن المألوف؛ فبعد سنوات من الدراسة المهيبة لم يستطع قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية من دون معجم وكتاب قواعد. لقد كان يخصص وقتا كبيرا من أجل التدريب على الخطابة والإلقاء. وفي بعض الأوقات، كان بيتهم القديم - المبني من جدران رفيعة من أجل الطلاب الفقراء، والمستقر على كتل خرسانية بدلا من الأساس - يردد صدى صوته الأجش والمنهك أثناء تدريبه على خطبة من إعداده أو إعداد ويندل فيليبس.
أنابيل تشابين كانت من زملاء كلود في الفصل. لم تكن غبية مثل أخيها؛ فلم يصعب عليها تعلم تصريف الأفعال والتعرف على أشكالها عندما ترد عليها مرة أخرى. ولكنها كانت فتاة سخيفة وذات عواطف فياضة، تتشكك في جمال كل شيء في حياتهم الوضيعة، كما أنها كانت مغرمة بكلود للأسف. كانت تتغنى أنابيل بدروسها مرارا وتكرارا لنفسها وقت الطهي والتنظيف. وكانت ممن يجعلون أفضل الأشياء تبدو مملة فقط بالإشارة إليها. في الشتاء الماضي، ظلت تتلو قصائد هوراس الغنائية في أنحاء المنزل - إذ كانت هذه هي فكرتها بالضبط عن الأشياء التي يجب أن يفعلها الطلاب - حتى خشي كلود أن يربط على الدوام ذلك الشاعر بسوء وجبات الغداء المعدة على عجل.
أحبت السيدة ويلر فكرة أن كلود كان يساعد هذين الأخوين المستحقين للمساعدة في كفاحهما من أجل إكمال رحلة تعلمهما، ولكنه رأى منذ أمد بعيد أنه ما دامت لم تثمر أي من جهود الأخوين عن نتائج كبيرة، فقد يكون من الأفضل أن يتخليا عن هذا الكفاح منذ البداية. لقد كان يعتني بغرفته الخاصة إذ يحافظ على نظافتها وصلاحيتها للسكن وخلوها من محاولات التودد من جانب أنابيل. ولكنه كان يمقت بشدة الادعاءات الواهية بالتدبر الخفيف لشئون المنزل. فقد ولد وهو يحب النظام، تماما مثلما ولد بشعر أحمر. إنها سمة شخصية فيه.
صفحه نامشخص
كان يشعر الفتى بالمرارة من الطريقة التي ربي بها، وحيال شعره والنمش الموجود في وجهه وارتباكه . وعندما كان يذهب إلى المسرح في لينكن، كان يأخذ مقعدا في البلكون؛ لأنه كان يعلم بأنه يبدو كفتى ريفي ساذج. لم يرتد ملابس مناسبة البتة. لقد اشترى ياقات طويلة جدا وربطات عنق براقة للغاية، وأخفاها في صندوق ملابسه. ولم تنجح تجربته الوحيدة في الاستعانة بخياط. لاحظ الخياط من فوره أن زبونه المتلعثم لم يكن يعرف ما يريد؛ ومن ثم قال له ما دام أنه في فصل الربيع، فإنه بحاجة إلى سروال فاتح بمربعات، وصدرية ومعطف أزرقين من قماش السيرج. وعندما ارتدى كلود ملابسه الجديدة للمرة الأولى وهو ذاهب إلى كنيسة سانت بول في صباح يوم الأحد، أخذ كل إنسان يقابله ينظر إلى سرواله المميز. وفي الأسبوع التالي، ظل ينظر إلى سيقان الرجال والشباب، وعلم أنه لا يوجد سروال بمربعات في لينكن غير الذي يرتديه. ولذلك علق ملابسه الجديدة في دولابه ولم يرتدها مطلقا مرة أخرى، على الرغم من نظرة أنابيل تشابين الحزينة إليها. وعلى الرغم من ذلك، ظن كلود أن بإمكانه تمييز الرجل الأنيق عندما يراه. حتى إنه ظن أن بإمكانه فعل الشيء نفسه مع النساء. وإذا ركبت امرأة جذابة عربة الترام وهو في طريقه إلى الجامعة ذهابا أو إيابا، كان يتشتت ما بين الرغبة في النظر إليها والرغبة في أن يبدو غير مبال.
كلود الآن في طريق عودته إلى لينكن، ومعه مصروف كبير إلى حد ما، لكنه لن يسهم كثيرا في راحته أو سعادته. إنه ليس لديه أصدقاء أو أساتذة يمكن أن ينظر إليهم نظرة إعجاب، على الرغم من أن الحاجة إلى الإعجاب هي الحاجة الأهم بالنسبة إليه الآن. إنه مقتنع بأن الأشخاص الذين يمكن أن يعنوا له شيئا دوما سيخطئون في الحكم عليه ولن يأبهوا له. إنه لا يخشى كثيرا الوحدة بقدر ما يخشى قبول البدائل الرخيصة؛ كأن يختلق أعذارا لنفسه بشأن أستاذ يتزلف إليه، أو يستيقظ في صباح يوم ما ويجد نفسه معجبا بفتاة لمجرد أن الوصول إليها سهل. إنه يخاف بشدة من البدائل السهلة، ويخاف كثيرا من أن ينخدع.
6
بعد ثلاثة أشهر وفي يوم غائم من أيام ديسمبر، كان كلود جالسا في عربة الركاب بقطار شحن به عربات للركاب، عائدا إلى المنزل لقضاء الإجازة. كان يضع كومة من كتبه على المقعد المجاور له، وكان مستغرقا في القراءة عندما توقف القطار بهزة قوية تسببت في سقوط تلك المجلدات على الأرض. رفعها من الأرض ونظر في الساعة. كان الوقت وقت الظهيرة. وكان قطار الشحن سيتوقف هنا ساعة أو أكثر حتى يمر قطار الركاب المتجه إلى الشرق. نزل كلود من العربة ومشى ببطء على الرصيف باتجاه المحطة. وضعت مجموعة من شجر التنوب الصغير بالقرب من مكتب الشحن، وأرسلت عبق عيد الميلاد بين ذرات الهواء البارد. كانت تقف بعض عربات الجر بالقرب من المكتب، وكانت الخيول مغطاة لحمايتها من البرد. تصاعد بخار بنفسجي قاتم من القطار، وانتشر في السماء الملبدة بالغيوم.
ذهب كلود إلى مطعم في الجهة المقابلة من الشارع، وطلب يخني محار. ومن رحلة إلى أخرى، دائما ما كانت تتذكره مالكة المطعم، وهي امرأة ألمانية قصيرة بدينة، ذات قصة متغضنة منسدلة على الجبين. ولما كان يأكل المحار، أخبرته أنها انتهت لتوها من شواء دجاجة مع البطاطا، وإذا أحب فيمكنه الحصول على أول قطعة مشوية من الصدر قبل أن يأتي قائدو القطار من أجل الغداء. وبعدما طلب منها إحضارها على الفور، جلس منتظرا على مقعد عال، وحذاؤه على مسند القدمين المصنوع من الرصاص، ومرفقاه على طاولة البيع البنية اللامعة، وأخذ يحملق في هرم السندوتشات التي تبدو صلبة تحت كرة زجاجية.
لما أحضرت السيدة فوكت الطبق، قالت له: «أنا أبحث عنك كل يوم. لقد وضعت قدرا كبيرا من المرق الجيد على البطاطا.» «شكرا لك. لا بد أن رواد مطعمك يحبونك.»
قهقهت. وقالت: «نعم، كل قائدي القطارات أصدقاء لي. في بعض الأحيان، يحضرون لي قليلا من الجبن السويسري من أحد المتاجر الكبرى في أوماها التي يتردد عليها الألمان. ليس لدي أطفال؛ ومن ثم اعتدت أن أعد بعض الأشياء من أجل أطفالهم، أليس هذا جيدا؟»
وقفت تنظف يديها القصيرتين والبدينتين تحت مئزرها، وتراقب كل لقمة يأكلها بشغف وكأنها تتذوقها هي. دخل قائدو القطار ونادوا عليها وسألوها ماذا أعدت من أجل الغداء، وركضت إليهم مثل دجاجة صغيرة مبتهجة، وأخذت تضحك وتثرثر معهم. تساءل كلود هل العمال لطفاء مع النساء العجائز في جميع أنحاء العالم كما هو الوضع هنا. لم يكن يظن ذلك. أحب أن يعتقد أن هذا اللطف لا يشيع إلا بين من يسميهم ب «أهل الغرب». اشترى سيجارا كبيرا وظل يتجول على الرصيف ذهابا وإيابا مستمتعا بالهواء المنعش حتى انطلقت صافرة قطار الركاب.
بعدما انطلق قطار الشحن باعثا كومة من البخار، لم يفتح كتبه مرة أخرى، ولكن جلس ينظر إلى المنازل القاتمة وهي تمر أمامه ومن حولها حقول الذرة الجافة والمحصودة، وقطع الأراضي المحروثة الكبيرة حيث يستقر القمح الشتوي. كان يمتد بعض الجليد اللامع مثل بلورات الصقيع بطول الحواف العالية الهشة بين الأخاديد.
اعتقد كلود أنه يعرف تقريبا كل مزرعة تقع على الطريق من فرانكفورت إلى لينكن؛ فهو يقوم بتلك الرحلة كثيرا مستخدما القطارات السريعة والبطيئة. كان يقضي كل الإجازات في المنزل، كما أنه كان يعود مرارا وتكرارا إليه لأسباب مختلفة؛ في وقت مرض أمه، أو عندما انقلب رالف بالسيارة وكسرت كتفه، أو عندما رفس والده حصان شرس. ولم يكن من عادة آل ويلر أن يأتوا بممرضة؛ فإذا مرض أي فرد في المنزل، فمعروف أن فردا آخر في المنزل كان سيتولى المهمة.
صفحه نامشخص
جلس كلود يتفكر في حقيقة أنه لم يسبق له قط أن عاد إلى المنزل بتلك المعنويات المرتفعة. حدث له شيئان مبهجان من وقت أن ذهب في هذا الطريق منذ ثلاثة أشهر.
بمجرد أن وصل إلى لينكن في سبتمبر، سجل في جامعة الولاية من أجل برنامج دراسي خاص في التاريخ الأوروبي. في العام السابق، سمع محاضرة ألقاها رئيس هذا القسم أمام إحدى الجمعيات الخيرية، وقرر وقتئذ أن يدرس تحت إشراف ذلك الرجل حتى لو لم يتمكن من تغيير الجامعة. البرنامج الدراسي الذي اختاره كلود كان من البرامج الدراسية التي يمكن للطالب أن يخصص لها الوقت الذي يختاره. وكان يعتمد على قراءة المصادر التاريخية، وكان الأستاذ معروفا بشرهه إلى دفاتر الملاحظات الممتلئة بالكتابة. وكان دفتر كلود واحدا من تلك الدفاتر. كان كلود يظل يدرس في مكتبة الجامعة أوقاتا طويلة، وغالبا ما كان يتناول عشاءه في المدينة ويعود للقراءة حتى وقت إغلاق المكتبة. للمرة الأولى كان يدرس موضوعا بدا حيويا بالنسبة إليه؛ إذ يتعلق بالأحداث والأفكار بدلا من المعاجم وكتب القواعد. كم تمنى أن يقابل إرنست في المحاضرات! كان يستطيع أن يرى إرنست وهو يستوعب كامل محتوى تلك المحاضرات، ويتفق معه أو يعارضه بطريقته المستقلة. كان عدد الطلاب كبيرا للغاية، وكان يتحدث الأستاذ من دون ملاحظات أمامه؛ كان يتحدث بسرعة كبيرة وكأنه يتحدث مع مكافئين له، ولا يتخلل العرض طريقة الإقناع المتزلفة التي كان معتادا عليها طلاب كلية تمبل. كانت محاضراته مكثفة وكأنها مذكرة قانونية، غير أن صوته كانت تتخلله حماسة واهنة، وعندما كان يقاطع عرضه من حين لآخر لإبداء تعليق شخصي بحت، كان يبدو أنه تعليق قيم ومهم.
عادة ما كان يخرج كلود من هذه المحاضرات بشعور أن العالم مليء بالمحفزات، وأنه محظوظ لأنه حي وبإمكانه العثور على تلك المحفزات. وبفضل القراءة في ذلك الخريف، بدا المستقبل بالفعل أكثر إشراقا في عينيه؛ إذ بدا أنه يبشره بشيء. من الصعوبات الأساسية التي كانت تواجهه دوما أنه لم يستطع أن يجعل نفسه يؤمن بأهمية كسب المال أو إنفاقه. كان يرى أنه إن كانت تلك هي الحياة، فإنها لا تستحق العناء.
الشيء الجيد الثاني الذي حدث له هو أنه تسنى له التعرف على بعض الأشخاص الذين أحبهم. حدث هذا التعارف من غير ترتيب، بعد مباراة كرة قدم أمريكية بين فريق كلية تمبل وفريق جامعة الولاية؛ كانت مجرد مباراة تجريبية للفريق الأخير. كان كلود يلعب في مركز الظهير المساعد في فريق كلية تمبل. وقرب نهاية نصف الشوط الأول من المباراة، أتم تدخله في الطرف الأيمن بسلام، وأوقف هجمة كادت أن تنهي اللعبة، وانفرد بالكرة مسافة تسعين ياردة، وأخذ يعدو حتى وصل إلى منطقة الجزاء. واستطاع أن يساعد فريقه على تقديم عرض جيد في المباراة. هنأه أعضاء فريق جامعة الولاية بحرارة، حتى إن مدربهم لمح له بأنه لو أراد يوما تغيير فريقه، فسيجد مكانا له ضمن فريق جامعة الولاية.
حظي كلود بلحظة فخر، ولكن حتى وقت حديثه مع المدرب بالينجر، اندفع طلاب كلية تمبل من المدرج وهم يصيحون، ورمت أنابيل تشابين - التي كانت تظهر بمظهر مضحك لما ارتدت بدلة رياضية من تصميمها، كانت مزينة بألوان كلية تمبل، وأخذت تنفخ في بوق لعبة - بنفسها في أحضان كلود. خلص نفسه ولكن ليس بلطف بالغ، ومشى بعيدا مكتئبا إلى غرفة تغيير الملابس؛ فما الفائدة إذا كنت دائما مع الأشخاص الخطأ؟
أخذه جانبا يوليوس إرليش - الذي لعب نصف شوط مع فريق جامعة الولاية - وتحدث إليه بود قائلا: «تعال إلى المنزل كي تتعشى معي هذا المساء يا ويلر وتقابل أمي. تعال معنا وارتد ملابسك في المبنى العسكري. لديك ملابس في حقيبتك، أليس كذلك؟»
رد كلود مترددا: «إنها ملابس لا تكاد تصلح للزيارة.» «أوه، هذا لا يهم! إننا جميعا فتية في المنزل. لن تمانع أمي إن أتيت بملابسك الرياضية.»
وافق كلود قبل أن يتوفر له الوقت كي يخيف نفسه بالتفكير في الصعوبات. كثيرا ما كان يجلس بجواره الفتى إرليش في محاضرة التاريخ، وكان قد تحدث بعضهما إلى بعض عدة مرات. حتى ذلك الحين، كان يشعر كلود أنه «لا يستطيع فهم إرليش»، ولكن لما كان يرتديان ملابسهما بعد الاستحمام بعد ظهر ذلك اليوم، أصبحا صديقين مقربين في غضون بضع دقائق. على الأرجح، لم يشعر كلود بالتقييد في تفكيره وحركاته مثلما هو معتاد. وذهل بشدة لما وجد نفسه على وفاق وعلاقة ودية مع إرليش، حتى إنه لم يشغل باله بقميصه الذي كان يرتديه لليوم الثاني على التوالي، وبياقته ذات الحافة المتهالكة؛ وهي من الأمور البائسة التي اعتاد أن يشغل باله بها.
لم يمشيا أكثر من مربعين سكنيين بعد المبنى العسكري حتى دخل يوليوس إلى منزل خشبي كبير غير مخطط جيدا يضم حديقة غير مسيجة ومدرجة. قاد كلود إلى الجناح ودخلا من باب زجاجي إلى غرفة كبيرة، كانت ثلاثة جدران منها عبارة عن نوافذ بأعلى المنجور. وجد الغرفة ممتلئة بالفتيان والشباب الذين كانوا جالسين على أرائك، أو جاثمين على أذرع مقاعد كبيرة منجدة، ويتحدثون جميعا في وقت واحد. وعلى واحدة من تلك المقاعد، كان يضطجع شاب يرتدي سترة تدخين، ويقرأ بهدوء كما لو كان بمفرده.
قال المضيف: «خمسة من هؤلاء إخوتي، والباقون أصدقاء.»
صفحه نامشخص
تعرف الجمع على كلود وأشركوه في الحديث معهم عن المباراة. ولما ذهب الضيوف، قدم يوليوس إخوته إليه. اعتقد كلود أن جميعهم فتيان لطفاء، وأنهم مؤدبون ومرحون. كان الثلاثة الكبار يعملون، ولكنهم أيضا ذهبوا إلى المباراة التي أقيمت بعد ظهر ذلك اليوم. لم يسبق لكلود أن قابل إخوة يتحدثون هكذا بصراحة وانفتاح شديدين بعضهم مع بعض. لقد وجدهم ودودين جدا؛ تقدم إليه الأخ المضطجع كي يصافحه، وحافظ على المكان الذي توقف عنده في الكتاب بإصبعه.
كان يوجد على طاولة في منتصف الغرفة غلايين وصناديق تبغ، وسيجار في جرة زجاجية، ووعاء صيني كبير ممتلئ بالسجائر. بدا هذا الأمر هو الأبرز بالنسبة إلى كلود؛ لأنه في منزله كان يضطر إلى التدخين في حظيرة الأبقار. أذهله عدد الكتب تقريبا بالقدر نفسه؛ فجميع المنجورات في الغرفة كانت مصممة بحيث تكون أرفف كتب مفتوحة، وكانت ممتلئة بالمجلدات الكبيرة والصغيرة، التي بدت جميعها مثيرة للاهتمام ومستخدمة بكثرة. كان أحد الإخوة في حفل الليلة الماضية، ولما عاد إلى المنزل وضع ربطة عنقه حول رقبة تمثال صغير من الجص للشاعر بايرون الذي كان يقبع على رف الموقد. لم ينجذب انتباه كلود إلى شيء في الغرفة أكثر من ذلك الرأس، وربطة العنق تلك الموضوعة على نحو جذاب، ولسبب ما جعلاه على الفور يتمنى لو كان يعيش هناك.
أحضر يوليوس والدته، وعندما ذهبوا لتناول العشاء أجلس كلود بجانبها على أحد طرفي الطاولة الطويلة. بدت السيدة إرليش صغيرة السن جدا على أن تكون على رأس تلك العائلة. لم يفقد شعرها البني لونه، وكان ينساب على أذنيها ويلتف في ضفيرتين صغيرتين مثل السيدات التي تظهر في الصور الداجيرية القديمة. وجهها كذلك كان يوحي بأنها سيدة من عصر تلك الصور؛ إذ كان به شيء غريب وعتيق الطراز. بشرتها كانت بيضاء ناعمة مثل الزهور البيضاء التي بللها المطر. كانت تتحدث بإيماءات سريعة، وكانت إيماءتها البسيطة المقصودة غريبة وغير مفهوم كنهها. كانت تنظر بترقب بعينيها ذات اللون البندقي من فوق النظارة المستقرة على أنفها، وتراقب دائما الأمور حتى تتأكد من سيرها على نحو جيد، وتبحث دائما عن جنية ألمانية طيبة في الخزانة أو وعاء الكعك، أو في البخار الصاعد في يوم الغسيل.
كان الأولاد يناقشون أمر خطبة أعلن عنها للتو، وبدأت السيدة إرليش تحكي لكلود قصة طويلة عن الطريقة التي أتى بها ذلك الشاب الألمعي إلى لينكن وقابل تلك الفتاة الجميلة التي كانت مخطوبة بالفعل لشاب متبلد المشاعر وتقليدي، وكيف فسخت الفتاة خطبتها من الرجل الخطأ بعد عديد من الخلافات الشديدة، وخطبت إلى الرجل المناسب، وباتت السعادة تغمرهما الآن، وطلبت من كلود أن يصدقها في أن الجميع كانوا سعداء بالقدر نفسه! في منتصف القصة، ذكرها يوليوس مبتسما أنه ما دام كلود لا يعرف هذين الشخصين، فلا يرجى اهتمامه بقصتهما الرومانسية، ولكنها نظرت إليه من فوق نظارتها الأنفية، وقالت: «هكذا إذن، يا سيد يوليوس!» لا ريب أنها كانت ندا لهم.
أخذ الحوار ينتقل من موضوع إلى آخر. وبدأ النقاش يحتد بين الأولاد حول فتاة جديدة كانت تزور المدينة؛ هل هي جميلة، وما مقدار جمالها، وهل هي ساذجة؟ رأى كلود الحديث وكأنه مشهد في مسرحية. إذ لم يسبق له من قبل أن سمع إنسانا يتم تناوله وتحليله بتلك الطريقة. لم يسبق أن سمع حوارا عائليا بهذا القدر، أو بهذا القدر من الحماسة. هنا اختفى كل التحفظ البغيض الذي دائما ما كان يكتنفه في التجمعات العائلية، ولم يكن هناك حرج من أن يجلس أفراد العائلة واضعين أيديهم في حجرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، ولا يحاول أي منهم أن يخفي مكنونات قلبه، سواء من سر أو شك، مع السعي إلى الانتقال إلى موضوع لا يثير البلبلة. ذهل أيضا من وفرة الكلام؛ فكيف لأناس أن يجدوا هذا الكم من الكلام عن فتاة واحدة؟ لا ريب أن قدرا كبيرا منه بدا بعيد الاحتمال بالنسبة إليه، ولكنه اعترف آسفا أنه ليس حكما في تلك المسائل. ولما عادوا إلى غرفة المعيشة، بدأ يوليوس في العزف على الجيتار، وبدأ أخوه الملتحي في القراءة. ولما رأى أوتو - الأخ الأصغر - مجموعة من الطلاب يمرون من جانب المنزل، هرع إلى الحديقة ونادى عليهم كي يدخلوا؛ كانوا فتيين وفتاة متوردة الخدين ترتدي شالا من الفرو. عمد كلود إلى زاوية، وكان سعيدا بشدة بأن يكون في موقف المشاهد، ولكن سرعان ما أتت السيدة إرليش وجلست بجانبه. ولما فتحت الأبواب المؤدية إلى الصالة، لاحظت أن عينيه كانت تشردان إلى صورة منقوشة معلقة أعلى البيانو لنابليون، ودفعته إلى الذهاب عندها والنظر إليها. أخبرته أنها صورة منقوشة نادرة، وأرته بورتريه لجدها الأكبر الذي كان ضابطا في جيش نابليون. أما عن قصة كيفية الحصول على هذه الصورة، فيطول شرحها.
بينما كانت تتحدث السيدة إرليش إلى كلود، اكتشفت أن عينيه ليستا شاحبتين في حقيقة الأمر، ولكنهما كانتا تبدوان كذلك بسبب رموشه ذات اللون الفاتح. كان بإمكانهما قول الكثير عندما كانتا تنظران مباشرة إلى عينيها، وهي أحبت ما كانتا تقولانه. وسرعان ما اكتشفت تعاسته؛ مدى كرهه لكلية تمبل، ولماذا رغبت والدته في أن يلتحق بها.
لما غادر الطلاب الثلاثة الذين دعوا إلى الدخول وهم يمرون من جانب المنزل، نهض كلود هو الآخر. من الواضح أنهم كانوا معتادين على ارتياد المنزل، وخروجهم غير المكترث وأسلوبهم المرح لما قالوا «ليلة سعيدة على الجميع!» لم يعطياه أي اقتراحات عملية بشأن ما ينبغي له قوله الآن أو الطريقة المثلى للخروج. يوليوس صعب الأمور أكثر لما طلب منه أن يجلس لأنه لم يحن وقت الذهاب بعد. ولكن السيدة إرليش أخبرته أن هذا الوقت قد حان لأن المسافة إلى كلية تمبل بعيدة.
كان الأمر في الواقع غاية في البساطة. مشت معه إلى الباب، وأعطته قبعته وربتت على ذراعه على نحو مودع. وقالت: «ستأتي كثيرا لزيارتنا. وسنصبح أصدقاء.» اقتربت جبهتها التي تنسدل عليها خصلات شعرها البني المنمق من أسفل ذقن كلود، وحدقت فيه وفي عينيها هذا التعبير الغريب المفعم بالأمل، وكأن ... وكأنه قد يحقق نجاحا في حياته! بالتأكيد، لا أحد رمقه بنظرة كتلك من قبل.
تمتم إليها من دون حرج تماما: «كانت أمسية جميلة»، وفي سعادة لف مقبض الباب الزجاجي وخرج منه.
بينما كان قطار الشحن يمشي متباطئا في الريف ذي الجو الشتوي، مخلفا وراءه خطا أسود معلقا في الهواء الساكن، استرجع كلود تلك التجربة بكل ما فيها، وكأنه كان يخشى أن ينسى شيئا منها عندما يصل إلى منزله. كان بإمكانه أن يتذكر بدقة كيف عاملته السيدة إرليش والأولاد في تلك الليلة الأولى، وأن يكرر تقريبا كل كلمة وردت في الحوار الذي كان يعد جديدا للغاية بالنسبة إليه. ظن حينها أن آل إرليش أثرياء، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنهم فقراء. لقد توفي الأب، واضطر كل الأولاد إلى العمل، حتى الذين لا يزالون في المدرسة. اكتشف أنهم كانوا يعرفون كيف يكسبون عيشهم، وأنهم كانوا ينفقون أموالهم على أنفسهم بدلا من الآلات التي تنجز الأعمال والآلات التي تروح عن الناس. كان يرى كلود أن الآلات لا تستطيع أن تصنع السعادة مهما كانت الأمور التي كانت تنجزها. كما أنها لا تستطيع خلق أناس لطفاء. وبحسب ما كان يرى، فإن الأمر الأخير يتحقق من خلال الممارسة الحصيفة تقريبا لكل شيء تعلم أن يتجنب الخوض فيه.
صفحه نامشخص
منذ الزيارة الأولى تلك، بالتأكيد لم يذهب كلود إلى منزل آل إرليش بالقدر الذي تمناه، وإنما ذهب بالقدر الذي كانت تسمح به جرأته. يبدو أن بعضا من طلاب الجامعة كانوا يذهبون هناك في الوقت الذي يريدونه وكأنهم أفراد من العائلة، ولكن مظهرهم كان أفضل من مظهره ، وصحبتهم أفضل من صحبته. بالتأكيد كان باومجارتنر الطويل القامة صديقا مقربا من تلك العائلة، وقد كان فتى أخرق ذا يدين حمراوين كبيرتين ويلبس حذاء به بقع ملونة، ولكنه على الأقل كان يستطيع التحدث بالألمانية مع الأم، ويعرف كيفية العزف على البيانو، ويبدو أنه كان يعرف الكثير عن الموسيقى.
لم يرد كلود أن يبدو مملا. فعندما كان يغادر المكتبة في بعض الأحيان في المساء كي يدخن سيجارا، كان يمشي متباطئا بالقرب من منزل آل إرليش، وينظر إلى النوافذ المضيئة لغرفة الجلوس، ويتساءل عما يدور بالداخل. وقبل أن يذهب إلى هناك لزيارتهم، كان يفكر في أشياء يتحدث عنها. وبالطبع كان يساعده في ذلك إذا كانت هناك مباراة كرة قدم أو مسرحية جيدة في المسرح.
تقريبا من دون أن يدرك ما كان يفعله، حاول أن يفكر مليا في الأشياء ويبرر آراءه لنفسه؛ حتى يجد ما يقوله عندما يسأله أولاد إرليش عنها. لقد نشأ على قناعة أنه ليس من مقامه أن يبرر آراءه، تماما كما يجب عليه الاهتمام بملبسه أو ألا يضبطه أحد وهو يحاول جاهدا فعل شيء ما. كان إرنست هو الشخص الوحيد الذي يعرفه، والذي كان يحاول أن يذكر بوضوح سبب اعتقاده بشأن هذا أو ذاك؛ ولذا كان يعتقد الناس في المكان الذي يعيش فيه أنه مغرور وغريب جدا. لم يكن من طابع الأمريكيين أن يبرروا آراءهم؛ ليس عليك أن تفعل ذلك! في المزرعة، يمكن أن تعبر عن رأيك بشأن أي شيء؛ تقول مثلا إن روزفلت محق أو مجنون. لكن لا يفترض أن تقول المزيد ما لم تكن خطيبا سياسيا؛ أي إذا حاولت أن تقول المزيد، فهذا لأنك تحب أن تسمع نفسك وأنت تتحدث. وما دمت لم تقل شيئا قط، فأنت لم تنم عادة التفكير لديك. وإذا أحسست بقدر كبير من الملل، كان عليك أن تذهب إلى المدينة وتشتري شيئا جديدا.
لكن كل الناس الذين قابلهم في منزل إرليش كان يمكنهم التحدث. إذا سألوه عن مسرحية أو كتاب وقال إنه «ليس جيدا »، فسيسألونه على الفور عن السبب. ظن أفراد آل إرليش أنه شخص هادئ، ولكن كلود يظن نفسه مذهلا في بعض الأحيان. هل يمكن لكلود أن يعبر عن آرائه بهذا الأسلوب الفظ؟ لاحظ في نفسه أنه كان يستخدم كلمات لم تمر من بين شفتيه من قبل، ولم يصادفها عقله في غير الأعمال المطبوعة. عندما كان يدرك فجأة أنه يستخدم كلمة ما للمرة الأولى، وربما يخطئ في نطقها، كان يرتبك بشدة وكأنه يحاول أن يشتري بعملة مزيفة من الرصاص؛ إذ كان يحمر وجهه ويتلعثم، ويترك أحدا غيره يكمل الجملة له.
لم يستطع كلود في بعض الأحيان مقاومة الذهاب إلى منزل آل إرليش فيما بعد الظهيرة؛ وفي ذلك الوقت كان لا يوجد الأبناء في المنزل، ويمكن أن يجلس مع السيدة إرليش بمفردهما لمدة نصف الساعة. عندما كانت تتحدث معه، كانت تعلمه الكثير جدا عن الحياة. أحب أن يسمعها وهي تغني أغاني ألمانية عاطفية وهي تعمل، مثل «اغزلي، اغزلي، يا ابنتي العزيزة». لم يعرف السبب، ولكنه ببساطة أحب الأمر بشدة! في كل مرة كان يخرج من عندها، كان يشعر بالسعادة وتغمره الطيبة، وكان يفكر في الغابات التي تنتشر بها أشجار الزان والمدن المسيجة أو في كارل شورز والثورة الرومانسية.
ذهب كي يرى السيدة إرليش قبل أن يذهب إلى المنزل لقضاء الإجازة، ووجدها تعد كعك عيد الميلاد الألماني. أخذته إلى المطبخ وشرحت له التقاليد شبه المقدسة التي تحكم طريقة تحضير هذه الأكلة المعقدة. رأى كلود أن حماستها وجديتها وهي تخفق المكونات وتقلبها كانتا رائعتين بشدة. عددت له على أصابعها المكونات الكثيرة للكعك، ولكنه اعتقد أن هناك مكونات لم تذكرها؛ وهي رائحة الصداقات القديمة، ووهج الذكريات الأولى، والإيمان بالقصائد والأغاني القادرة على فعل العجائب. لا ريب أن هذه أشياء جيدة تستحق أن توضع في الكعك الصغير! بعدما تركها كلود، فعل شيئا لم يفعله أحد من عائلة ويلر؛ ذهب إلى شارع أوه وأرسل إليها باقة من أكثر الزهور حمرة. وكان يحتفظ في جيبه برسالة الشكر القصيرة التي كتبتها من أجله.
7
أوشك الظلام أن يرخي أستاره عندما وصل كلود إلى المزرعة. وبينما توقف رالف كي يركن السيارة، مشى هو بمفرده إلى المنزل. لم يسبق أن عاد من دون أن تسكنه العواطف، رغم أنه حاول مرارا وتكرارا أن يتغاضى عن مرات المغادرة والرجوع هذه التي كانت جميعها معتادة بالنسبة إليه. عندما كان يصعد إلى التل بتلك الهيئة متجها إلى البيت العالي ذي النوافذ المضيئة، دائما ما كان ينقبض قلبه. كان يحب العودة إلى المنزل ويكرهها في الوقت نفسه. كان محبطا على الدوام، ولكن دائما ما كان يستشعر صواب العودة إلى منزله. وحتى عندما كان يثبط معنوياته ويحطم كبرياءه، كان يشعر أن الصواب في أن يظل متواضعا هكذا. لم يشك في أن أسوأ الحالات المزاجية هي أصدقها، وأنه كلما نأى الإنسان عن التفكير في نفسه، زاد احتمال أن يكون مصيبا في تقديره.
لما اقترب كلود من الباب، توقف لحظة ونظر إلى الداخل من نافذة المطبخ. رأى الطاولة معدة للعشاء وماهيلي واقفة عند الموقد تقلب شيئا في قدر حديدي كبير؛ على الأرجح عصيدة دقيق الذرة؛ فهي كثيرا ما تطهو هذه الأكلة لنفسها؛ لأن أسنانها بدأت في السقوط. لقد كانت تقف محنية تمسك بإحدى يديها القدر، وتضرب باليد الأخرى المكونات الصلبة، وتومئ برأسها بنفس إيقاع هذه الحركة الدوارة. تصاعدت عواطف مضطربة داخل كلود. ودخل مسرعا واحتضنها بقوة.
تجعد وجهها وهي تبتسم الابتسامة الساذجة التي كان يعرفها جيدا. وقالت: «يا إلهي، كم أرعبتني يا سيد كلود! لو زدت قليلا لسقطت مني العصيدة كلها على الأرض. تبدو بخير، أيها الفتى اللطيف!»
صفحه نامشخص
كان يعرف أن ماهيلي تسعد بعودته إلى المنزل أكثر من أي أحد آخر عدا والدته. ولما سمع وقع خطوات والدته المتنقلة وغير الواثقة على السلم المسيج، فتح الباب وجرى كي يقابلها في منتصف السلم واحتضنها بقوة بعض الشيء، ولكن بحنان كان يشعر به دوما، ولكن نادرا ما كان يستطيع إظهاره. مدت كلتا يديها باتجاهه وربتت على شعره للحظة، وأخذت تضحك كما يفعل المرء مع الصبي الصغير، وتخبره بأنها تظن أن حمرة شعره تزداد في كل مرة يعود فيها. «هل حصدنا كل الذرة يا أمي؟» «كلا يا كلود، لم نفعل. تعلم أننا دائما متأخرون. كان الطقس جيدا، ومناسبا للتقشير أيضا. ولكننا على الأقل تخلصنا من هذا البائس الذي يدعى جيري، وهذا شيء محمود. ما حدث أنه لما كان في المدينة في أحد الأيام، دخل في نوبة غضب شديدة وهو عائد إلى المنزل، ورآه ليونارد دوسن وهو يضرب أحد خيولنا بمقرن الرقبة. أخبر ليونارد والدك وعبر عن رأيه بصراحة، وعليه طرد والدك جيري. لو أخبرته أنت أو رالف بالأمر، فعلى الأرجح ما كان يرجى أن يتخذ أي إجراء. ولكني أظن أن كل الآباء على هذا المنوال.» انطلقت منها ضحكة خافتة على نحو واثق، وأخذت تتكئ على ذراع كلود وهما ينزلان على السلم. «أظن ذلك. هل تأذى الفرس كثيرا؟ أي فرس كان يضربه؟» «الفرس الصغير الأسود، بومبي. أعتقد أنه فرس سيئ بعض الشيء. يقول الناس إن إحدى العظام الموجودة فوق عينه قد كسرت، ولكنه على الأرجح سيتعافى ويصبح بحال جيدة.» «بومبي ليس سيئا؛ إنه عصبي. كل الخيل يكره جيري، ولديهم الحق في ذلك.» هز كلود كتفه كي يطرد صور هذا النذل المثيرة للاشمئزاز التي استرجعها عقله. سبق أن رأى أشياء تحدث في الحظيرة ولم يستطع أن يخبر والده عنها على الإطلاق. دخل السيد ويلر إلى المطبخ، وتوقف في طريقه وهو صاعد إلى الطابق العلوي بعض الوقت ليقول: «مرحبا يا كلود. تبدو بصحة جيدة جدا.» «نعم يا أبي. أنا بخير، شكرا لك.» «أخبرني بايليس أنك كنت تلعب كرة القدم كثيرا.» «ليس أكثر من المعتاد. لعبنا ست مباريات، واستطعنا الفوز فيها بوجه عام. ولكن جامعة الولاية لديها فريق رائع.»
رد السيد ويلر متشدقا وهو يصعد السلم: «توقعت ذلك.»
مر العشاء كالمعتاد. ظل دان يبتسم ابتسامة عريضة ويغمز إلى كلود؛ إذ كان يحاول أن يعرف إن كان قد علم بالفعل بما آل إليه مصير جيري أم لا. أخبره رالف بما جرى في الجوار؛ جارهم الألماني جاس يودر رفع قضية ضد مزارع أطلق النار على كلبه. كما أن ليونارد دوسن كان يعتزم الزواج من سوزي جراي. تذكر كلود أنها الفتاة التي صفع ليونارد بايليس بسببها.
بعد العشاء، خرج رالف والسيد ويلر بالسيارة لحضور احتفال بعيد الميلاد في مبنى مدرسة البلدة. جلس كلود وأمه كي يحظيا بحديث هادئ بجانب المدفأة التي تعمل بالفحم الصلب في غرفة المعيشة بالطابق العلوي. كان كلود يحب هذه الغرفة، خاصة عندما يغيب والده عن المنزل. السجادة القديمة والكراسي الباهتة اللون وطاولة الكتابة والنقش المهترئ البادي على الأريكة، والمستمدة كافة المشاهد البادية عليه من كتاب «رحلة الحاج»؛ كانت تشعره هذه الأشياء بالراحة الشديدة. كثيرا ما كان رالف يقترح إعادة تأثيث الغرفة باستخدام خشب البلوط، وأسلوب التصميم القائم على البساطة وقلة الزخرفة، ولكن كلود ووالدته حافظا عليها بشكلها الحالي حتى ذلك الحين.
جلس كلود على كرسيه المفضل وبدأ يخبر والدته عن أولاد إرليش وأمهم. استمعت إليه ولكنه لاحظ أنها كانت مهتمة أكثر بأحوال آل تشابين، وهل تحسن حلق إدوارد أم لا، وأين يعظ هذا الخريف. كانت تلك واحدة من الأشياء التي كانت تثبط رغبته في العودة إلى المنزل؛ كان لا يمكنه قط أن يثير اهتمام والدته بأي أشياء جديدة أو أشخاص جدد إلا إذا كانوا مرتبطين بالكنيسة بنحو أو بآخر. كان يعلم أيضا أنها دائما ما تتمنى أن تسمع أنه في النهاية شعر بالحاجة إلى أن يكون قريبا أكثر من الكنيسة. إنها لم تكن تلح عليه فيما يتعلق بهذه الأشياء، ولكنها أخبرته مرة أو مرتين أن لا شيء يمكن أن يحدث في العالم ويسعدها أكثر من أن تراه قريبا من الرب. ولما تحدث معها عن آل إرليش، أدرك أنها كانت تتساءل عما إذا كانوا من «أهل الدنيا» بشدة أم لا، وخشيت من تأثيرهم عليه. لم تسر الأمسية على النحو المطلوب؛ ومن ثم ذهب إلى الفراش مبكرا.
كان كلود يمر بوقت عصيب؛ إذ كان يعتصره الشك والخوف عندما يفكر كثيرا في الدين. ظل عدة سنوات - من سن الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة - يعتقد أنه سيضيع إذا لم يتب ويخضع لهذا التغيير الغامض المسمى بالهداية. ولكن كان بداخله شيء عنيد يحول دون استفادته من هذا العفو المقدم. كان يشعر بالذنب، ولكنه كان لا يريد أن يزهد في عالم لا يعرف عنه شيئا حتى الآن. كان يريد أن يخوض غمار الحياة بكل قوته، مطلقا العنان لكل ملكاته. لم يرد أن يكون مثل الشباب الصغير الذين يقولون في اجتماعات الصلاة إنهم يعتمدون على مخلصهم. لقد كان يكره طريقتهم في القبول الخانع للمتع المباحة.
في تلك الأيام، كان لديه خوف جسدي شديد من الموت. كانت أي جنازة - مشهد أحد الجيران وهو راقد متيبس في نعشه الأسود - يملأ أوصاله بالرعب. اعتاد أن يستلقي مستيقظا في الظلام ويفكر في الموت، ويحاول أن يضع خطة للهروب منه، ويتمنى غاضبا لو لم يولد من الأساس. ألا توجد طريقة للخروج من العالم غير تلك؟ عندما كان يفكر في ملايين المخلوقات الوحيدة المتحللة تحت الأرض، لا يرى الحياة سوى فخ يصيد الناس وينهي حياتهم نهاية مروعة. لم يظهر على الأرض إنسان مهما بلغ من القوة والصلاح استطاع الهروب من الموت. ولكنه كان يتسلل إليه شعور أكيد في بعض الأحيان بأنه هو - كلود ويلر - سيستطيع الهروب من الموت؛ كان يعتقد في واقع الأمر أنه سيبتكر تحولا ذكيا ما كي ينقذ نفسه من التحلل. وعندما يعثر عليه فلن يخبر أحدا؛ سيكون ماكرا وسيبقي الأمر طي الكتمان. التعفن، التحلل ... كان لا يستطيع أن يسلم جسده الجميل الذي ينبض بالحياة إلى هذا الفساد! ما الذي تعنيه تلك الآية الواردة في الكتاب المقدس التي تقول: «لن تدع تقيك يرى فسادا»؟
إن كان هناك شيء يمكن أن يشفي صدر فتى ذكي من المخاوف الدينية المرضية، فإنه كلية دينية مثل تلك التي أرسل إليها كلود. لقد نبذ الآن كل اللاهوت المسيحي لأنه يراه مليئا بالمراوغات والمغالطات، بحيث يصعب الاعتماد عليه. كان متأكدا أن من وضعوه لا يختلفون عمن يدرسونه. ووفقا لنظريتهم، يمكن أن يذهب للجحيم أنبل الناس، في حين يمكن أن ينقذ أي إنسان وضيع الأخلاق بسبب إيمانه. «الإيمان» - كما رآه يتجسد في أعضاء هيئة التدريس بكلية تمبل - يستعاض به عن معظم الصفات الإنسانية التي يعجب بها. كان يريد الشباب أن يصبحوا قساوسة لأن الخجل أو الكسل دربهم، ويريدون للمجتمع أن يقوم على رعايتهم، ولأنهم يريدون أن تدللهم نساء لطيفات وبريئات، مثل والدته.
على الرغم من أن كلود لم يهتم باللاهوت وعلماء اللاهوت، فإنه كان سيقول إنه مسيحي. إنه كان يؤمن بالرب وبقدسية الأناجيل الأربعة وبعظة الجبل. اعتاد أن يتوقف ويتأمل آية «طوبى للودعاء»، حتى إنه فكر في أحد الأيام أن تلك الآية نزلت تحديدا في أناس مثل ماهيلي، ولا ريب أنها كانت مباركة!
8
صفحه نامشخص
في يوم الأحد الذي تلا عيد الميلاد، كان كلود وإرنست يتمشيان على ضفاف نهير لافلي كريك. مشيا إلى نهاية أرض الغابة التي كانت تتبع السيد ويلر وعادا. بدا الوقت وكأنه عصر يوم خريف؛ إذ كان الجو دافئا جدا لدرجة أنهما تركا معطفيهما على أحد الأغصان الكبيرة لشجرة دردار ملتوية بجوار سياج المراعي. بدت الحقول وقمم الأشجار العارية وكأنها تسبح في الضوء. كانت لا تزال بعض الأوراق الذابلة معلقة في الأشجار الكثيفة على طول النهير. في المرعى العلوي الذي يقع على مسافة تزيد على ميل من المنزل، وجد الفتيان كرمة ثمارها ذات مذاق حلو ولاذع، تلتف حول شجرة قرانيا صغيرة وتغطيها بالتوت القرمزي. كان الأمر أشبه بإيجاد شجرة عيد ميلاد تنبت على نحو طبيعي خارج المنزل. كانا يتحدثان عن بعض الكتب التي أحضرها كلود إلى المنزل، وعن مقرر التاريخ الذي يدرسه. لم يستطع كلود أن يخبر إرنست عن المحاضرات بالقدر الذي أراده، وشعر أن الجزء الأكبر من الخطأ في هذا الشأن يقع على عاتق إرنست؛ إذ لم يكن ذا عقلية واسعة الخيال. وعندما وصلا إلى الكرمة التي ثمارها ذات مذاق حلو ولاذع في الوقت نفسه، نسيا مناقشتهما واندفعا إلى الضفة كي يتأملا العناقيد الحمراء المتدلية من شجرة الكرم ذات اللون الرمادي وأوراقها الذهبية الذابلة التي لا تحتاج إلى أكثر من لمسة كي تسقط على الأرض. كانت تختفي الكرمة والشجرة الصغيرة التي تظللها في شق واد؛ ومن ثم نجتا من الرياح العاتية ومن أعين التلاميذ الذين كانوا يأخذون طريقا مختصرا إلى المنزل عبر المراعي في بعض الأحيان. وعند جذورها، كان النهير يتهادى ببطء وقد تحول ماؤه للون الأسود بين طبقتين متعرجتين من الجليد الذائب.
لما غادرا المكان وصعدا مرة أخرى وأصبحا على الأرض المستوية، شعر كلود مرة أخرى بضرورة أن يخرج إرنست من مزاجه المعتدل والعقلاني. «ما الذي ستفعله بعد ذلك يا إرنست؟ هل ستبقى مزارعا طوال حياتك؟» «هذا طبيعي. لو كنت قد تعلمت مهنة أخرى لسبقت إليها منذ زمن. ما الذي جعلك تسأل عن ذلك؟» «أوه، لا أعلم! أعتقد أن المرء يجب أن يفكر في المستقبل أحيانا. وأنت عملي للغاية.» «أتتحدث عن المستقبل؟» وأغلق إرنست إحدى عينيه وابتسم. «هذه كلمة كبيرة. بعدما أمتلك مكانا خاصا بي وأبدأ بداية جديدة، سأعود إلى دياري كي أرى أهلي يوما ما. ربما سأتزوج فتاة جميلة وأعود بها إلى هنا.» «هل هذا كل شيء؟» «هذا كاف، إذا تم ذلك على خير، أليس كذلك؟» «ربما. قد يختلف الأمر بالنسبة إلي. لا أظن أنني يمكن أن أستقر يوما على أي شيء. ألا تشعر على هذا النحو أنه لا يوجد الكثير فيها؟» «في ماذا؟» «في الحياة بوجه عام، التي تجري على النحو الذي نعيشه. ما الذي نخرج به منها؟ لأضرب لك مثلا بهذا اليوم؛ إنك تستيقظ في الصباح سعيدا لأنك على قيد الحياة، إنه يوم مناسب للقيام بأي شيء وأنت متأكد من أن شيئا سيحدث. وسواء كان اليوم يوم عمل أو إجازة، فالأمر سيان في النهاية. تخلد إلى النوم في الليل، ولم يحدث أي شيء.» «ولكن ما الذي تنتظره؟ ما الذي يمكن أن يحدث لك إلا ما يدور في عقلك؟ إذا انتهيت من عملي، وفي العصر ذهبت كي أزور أصدقائي كما هو الآن، فهذا كاف بالنسبة إلي.» «حقا؟ ما دمنا نعيش الحياة مرة واحدة، فيبدو أنه من المفترض أن يكون هناك شيء ... حسنا، شيء رائع في الحياة، أحيانا.»
أصبح إرنست متجاوبا معه الآن. اقترب من كلود أكثر وهما يتمشيان، ونظر إليه من طرف عينيه باهتمام. وقال: «أنتم، الأمريكيين، دائما ما تبحثون عن شيء خارج أنفسكم كي يمنحكم السعادة، ولكن لا سبيل إلى ذلك. في البلدان القديمة حيث لا يمكن أن يحدث لنا الكثير، نحن نعلم ذلك ... ونتعلم كيف نخرج بأقصى استفادة من الأشياء البسيطة.» «لا بد أن الشهداء عثروا على شيء خارج أنفسهم. وإلا لكان بإمكانهم الاكتفاء بالأشياء البسيطة.» «عجبا، يمكنني القول إنهم هم الأشخاص الذين لا يمتلكون شيئا إلا فكرتهم! من السخف أن يعدم المرء حرقا من أجل فكرة. أعتقد أحيانا أن الشهداء كان لديهم أيضا قدر كبير من الغرور ليساعدهم في المضي قدما في طريقهم.»
اعتقد كلود أنه لم يسبق أن رأى إرنست مملا هكذا. نظر بعينين نصف مغمضتين في شيء براق عبر الحقول، وقال بنبرة حادة: «إرنست، الحقيقة هي أنك تعتقد أن الإنسان ينبغي أن يرضى عن سكنه وملبسه وإجازات الأحد، أليس كذلك؟»
ارتسمت على وجه إرنست ضحكة حزينة. «فكرتي عن الحياة لا تهم كثيرا؛ الأشياء لا تتغير. أعتقد أنه لن ينزل شيء من السماء ويعلو بإنسان إليها.»
تمتم كلود بشيء لنفسه ولوى ذقنه من فوق ياقته وكأن في فمه لجاما.
غابت الشمس، ولما رأت السيدة ويلر الفتيين من نافذة المطبخ، بدوا وكأنهما يمشيان بجانب حريق كبير في أحد المروج. ابتسمت لما رأت خيالهما يتحرك بطول قمة التل تحت السماء الذهبية؛ حتى من تلك المسافة بدا أحدهما متكيفا جدا والآخر متمردا جدا. كانا يتجادلان على الأرجح، وعلى الأرجح أخذ كلود الجانب الخطأ.
9
بعد الإجازة، عاد كلود مرة أخرى إلى القراءة في مكتبة الجامعة. لقد كان يجلس على طاولة بجوار الكوة الموجودة في الجدار التي توجد فيها الكتب الخاصة بالرسم والنحت. كانت طالبات الفنون الجميلة - إذ كان كل طلاب هذا القسم من الفتيات - يقرأن ويهمسن بعضهن مع بعض في هذا المكان، وكان هو يستمتع بصحبتهن من دون أن يكون عليه التحدث إليهن. كانت هؤلاء الفتيات يتمتعن بالحيوية واللطف؛ وغالبا ما كن يطلبن منه أن يرفع لهن الكتب والمجلدات الثقيلة من الرفوف، ويبادلنه التحية بمرح عندما يقابلنه في الشارع أو في الحرم الجامعي، وكن يتحدثن معه بالأسلوب الودي المعتاد بين الأولاد والفتيات في مؤسسة تعليمية مشتركة. واحدة من هؤلاء الفتيات، وهي الآنسة بيتشي ميلمور، كانت مختلفة عن الأخريات؛ كانت مختلفة عن أي فتاة أخرى عرفها كلود من قبل. كانت من جورجيا، وكانت تقضي الشتاء مع عمتها القاطنة في شارع بي.
على الرغم من أن الآنسة ميلمور كانت قصيرة وبدينة، فإنها كانت تمشي بخطوات رشيقة، وكانت تتمتع بأدب وتحفظ أكثر من الفتيات الغربيات. كان شعرها أصفر ومجعدا؛ الخصلات القصيرة القريبة من أذنيها كانت بلون الفرخ الصغير. كانت عيناها الزرقاوان البراقتان جاحظتين قليلا، وخداها متوردين بشدة. بدا أن خديها كانا ينبضان بالحيوية لدرجة تدفع المرء إلى الرغبة في لمسهما؛ كي يرى هل هما ساخنان أم لا. كان يطلق عليها أبناء إرليش وأصدقاؤهم اسم «خوخة جورجيا». كانت الفتاة تعد غاية في الجمال، وقد لفتت أنظار فتيان الجامعة عندما أتت إلى المدينة للمرة الأولى. ولكن منذ ذلك الحين، قلت شعبيتها بعض الشيء.
صفحه نامشخص
كثيرا ما كانت الآنسة ميلمور تتلكأ في مغادرة الحرم الجامعي كي تذهب مع كلود إلى المدينة. ومهما حاول أن يضبط طريقة مشيه التي كانت بخطوات طويلة مع مشيتها الرشيقة، فكان لا بد لها أن تلهث وهي تحاول اللحاق به. دائما ما كانت تسقط قفازها أو كراسة الرسم خاصتها أو حقيبة يدها، وأحب هو أن يلتقطها لها وأن يساعدها في لبس الجرموق المطاطي الذي كان ينزلق من عند الكعب. كان يعتقد أنها كانت طيبة جدا بحيث تخصه بالاهتمام وتكون ودودة جدا معه. أقنعته حتى أن ترسمه بملابسه الرياضية كعارض في محاضرة الرسم المخصصة لذلك صباح يوم السبت، وأخبرته أنه يمتلك «جسدا رائعا»، وهي مجاملة أربكته تماما. ولكنه فعل بالطبع ما أرادته.
كان كلود يتطلع دائما لرؤية بيتشي ميلمور، وكان يفتقدها إذا لم يجدها في المكان الخاص بطالبات الرسم في المكتبة، ولا يرى غضاضة في ضرورة أن تشرح له سبب غيابها، وتخبره كم مرة كانت تغسل شعرها وطوله عندما كانت تفكه.
في أحد أيام الجمعة من شهر فبراير، قابل يوليوس إرليش كلود في الحرم الجامعي، واقترح عليه أن يذهبا للتزلج في اليوم التالي.
رد كلود: «حسنا، سأذهب. لقد وعدت الآنسة ميلمور أن أعلمها التزلج. ألن تأتي كي تساعدني؟»
ضحك يوليوس بلطف. «أوه، كلا! في وقت آخر. لا أريد أن أقحم نفسي في ذلك.» «هراء! يمكنك أن تعلمها أفضل مني.» «أوه، لا أمتلك الشجاعة!» «ما الذي تقصده؟» «أنت تعرف قصدي.» «كلا، لا أعرف. على أي حال، لماذا دائما ما تضحك عندما ترى تلك الفتاة؟»
عبس يوليوس قليلا. «لقد كتبت بعض الرسائل العاطفية إلى فيل بوين، وقرأها هو بصوت عال في مساكن الطلاب في إحدى الليالي.»
سأل كلود بعدما استشاط غضبا: «ألم تصفعه؟»
رد يوليوس مبتسما: «حسنا، فكرت أن أصفعه، ولكني لم أفعل. كانت الرسائل سخيفة جدا لدرجة جعلتني لا أود إثارة ضجة حولها. أصبحت متحفظا تجاه خوخة جورجيا منذ ذلك الحين. وإذا تعاملت برقة مع هذا النوع من الشخصيات، فربما يبقى ملتصقا بك.»
رد كلود بغرور: «لا أعتقد ذلك. كل ما هنالك أنها طيبة القلب.»
رد يوليوس معترفا: «ربما أنت على حق. ولكني أخاف كثيرا من الفتيات الطيبات القلب بشدة.» لقد أراد أن يحذر كلود بشأنها منذ وقت طويل.
صفحه نامشخص