وهو في حفظي قديما، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه ﷺ لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه- أي وهم المنافقون- فقال ﷺ: «المدينة كالكير» الحديث، ولهذا سميت بالفاضحة كما قدمته، مع أن الذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة.
وقوله: «وتنصع» بالفوقانية المفتوحة والنون والمهملتين كتمنع- أي: تخلص، والناصع: الخالص الصافي، و«طيبها» بفتح الطاء والتشديد منصوبا على أنه مفعول هذا هو المشهور فيه، والله أعلم.
وعيد من أراد أهلها بسوء
وفي صحيح مسلم من حديث جابر في تحريم المدينة مرفوعا: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء» .
قال عياض: قوله «في النار» يدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، ويبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال: وقد يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي ﷺ كفي المسلمون أمره، واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار. قال:
ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارا. قال: وقد يكون في اللفظ تقديم وتأخير: أي أذابه الله كذوب الرصاص في النار، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا، بل يذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة، فأهلك في منصرفه منها. ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك، وغيرهما ممن صنع صنيعهما، انتهى.
وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، وليس في الحديث ما يقتضي أنه لا يتم له ما أراد منهم، بل الوعد بإهلاكه، ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا هذا لما تظاهرت طائفة العياشي بإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها حتى أهلك الله تعالى عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة.
وقد يقال: المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته في النار في الآخرى، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني، وفي غيره الأول؛ ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث: «من أرادها بسوء» يعني المدينة «أذابه الله كما
1 / 42