كلام للتقي السبكي
قال التقي السبكي: وقد رأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع، وقال لي قاضي القضاة السروجي الحنفي: طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك، قال السبكي: وقد وقفت على ما ذكره ابن عبد السلام من أن الأزمان والأماكن كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بها، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما، وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما، قال السبكي: وأنا أقول: قد يكون التفضيل لذلك، وقد يكون لأمر آخر فيهما، وإن لم يكن عمل؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه، وأيضا فباعتبار ما قيل: إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه، وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبي ﷺ حي، وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد؛ فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قلت: وهذا من النفاسة بمكان، على أني أقول: الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة، وهي غير متناهية؛ لدوام ترقياته ﵊، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ألا ترى أن الكعبة على رأي من منع الصلاة فيها ليست محل عملنا، أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وأيضا فاهتمامه ﷺ بأمر أمته معلوم، وإقبال الله عليه دائم، وهو بهذا المحل الشريف، فتكثر شفاعته فيه لأمته وأمداده إياهم، وقد ورد في حديث «وفاتي خير لكم» وجاء بيان ذلك بأن «أعمالكم تعرض عليّ؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» وفي رواية «استوهبت الله ذنوبكم» وله شواهد تقويه، وسيأتي في الباب الثامن أن المجيء المذكور في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: ٦٤] الآية حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف أيضا، فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات، وعنده تجاب الدعوات، وتحصل الطلبات، فقد جعله الله تعالى سببا في ذلك أيضا، فهو روضة من رياض الجنة، بل أفضل رياضها، وقد قال ﷺ: «لقاب قوس
1 / 33