وادی نطرون
وادي النطرون: ورهبانه وأديرته ومختصر تاريخ البطاركة
ژانرها
ونتمشى بعد ذلك إلى ما وراء هذا الزمن بقرنين لنصل إلى عصر المؤرخ العربي أبي عبيد البكري المتوفي عام 487ه (1094م) إذ يقول هذا المؤرخ في كتابه (المسالك والممالك ص 2) في أثناء الكلام على المشهور من المدن والقرى في الطريق من مصر إلى برقة والمغرب ما نصه:
فمن (ترنوط) إلى (المنى) وهي ثلاث مدن قائمة البنية خالية فيها قصور شريفة في صحراء رمل ربما قطع فيها الاعراب على الرفاق. وتلك القصور محكمة البناء منجدة الجدر أكثرها على آزاج معقودة يسكن بعضها رهبان وبها آبار عذبة قليلة الماء. ا.ه.
فناحية (المنى) التي وصفها هذا المؤرخ هي بلا ريب وادي النطرون أو وادي هبيب ولكنه أخطأ في تسميتها. واسم (المنى) انما ينطبق على الصحراء المتاخمة لهذا الوادي والفاصلة بينه وبين الترعة النوبارية الحالية كما يتضح ذلك من رحلة بنيامين البطريرك الثامن والثلاثين. فقد ورد في كتاب (تاريخ البطاركة) لمؤلفه افيتس ص 241 وما يليها في الكلام على رحلة هذا البطريرك التي قام بها من الاسكندرية إلى وادي هبيب لزيارة الأديرة التي بهذا الوادي، أنه سافر في اليوم التالي من شهر طوبه بدون ذكر السنة التي سافر فيها. ولا بد أن ذلك كان في الربع الأخير من أيام بطريركيته. وذهب أولا إلى تروجه الواقعة بالقرب من أبي المطامير، ثم توجه من تروجه إلى صحراء المنى التي على مسافة قصيرة من جبل برنوج، ثم وصل في النهاية إلى دير البراموس بوادي هبيب.
فمن وصف هذه الرحلة يتضح أن ناحية وادي هبيب متأخمة لصحراء المنى. وهذا بلا ريب هو الذي أوقع أبا عبيد البكري في ذلك الارتباك فعبر عن الناحية الأخيرة بالاولى في حين أن هذه شيء وتلك شيء آخر.
ويدلك على ذلك أن صحراء المنى لا يوجد فيها بئر يمكن استيراد الماء منها حتى توجد بها تلك القصور المحكمة البناء المنجدة الجدر التي كان يسكنها بعض الرهبان كما ذكر المؤرخ في عبارته. فهذه القصور ليست إلا أديرة وادي النطرون الحالية.
ولدينا دليل آخر يعزز ما ذكرناه وهو أطلال الثلاث المدائن المهجورة التي ذكرها هذا المؤرخ ولا يوجد في قلب صحراء المنى شيء من ذلك على الاطلاق. وتلك الاطلال لا أظنها إلا أطلال الثلاث نواحي المذكورة قبلا وهي (سياتيس) و(نيتريا) و(بيامون) التي كانت في أقليم نيتريوتيس، أي وادي النطرون.
ولكي أزيل من ذهن القارئ كل شك يمكن أن يحدث من تشابه اسمى (منى) و(مينا) - إذ في الاستطاعة أن يتصور أن ما وصفه هذا المؤلف يمكن أن ينطبق على القديس أبي مينا - فاني سأتابع ماذكره تفصيلا لرحلته، وأورد الوصف الذي دونه في أيامه عن هذه الكنيسة الشهيرة. وهذا أمر سيراه القارئ ذا بال وغير خارج عن موضوعنا نظرا لمجاورة الناحيتين وجامعة العلاقة الدينية بينهما:
قال أبو عبيد البكري بعد الكلام على (ترنوط) و(المنى):
ومنها (أي من المنى) إلى أبى مينى وهي كنيسة عظيمة فيها عجائب من الصور والنقوش توقد قناديلها ليلا ونهارا لا تطفأ. وفيها قبو عظيم. في آخر مبانيها فيها صورة جملين من رخام عليهما صورة إنسان قائم. رجلاه على الجملين وإحدى يديه مبسوطة والأخرى مقبوضة، يقال إنها صورة أبى مينى. وكل ذلك من رخام. وفي هذه الكنيسة صور الأنبياء كلهم عليهم السلام. صورة زكريا ويحيى وعيسى في عمود رخام عظيم على ذات يمين الداخل يغلق عليها الباب. وصورة مريم قد أسدل عليها ستران وصور سائر الأنبياء. ومن خارج الكنيسة صور جميع الحيوان وأهل الصناعات من جملتها صورة تاجر الرقيق ورفيقته معه وبيده خريطة مفتوحة الأسفل يعني أن التاجر بالرقيق لا ربح له. وفي وسط الكنيسة قبة فيها ثماني صور يزعمون أنها صور الملائكة. وفي جهة من الكنيسة مسجد محرابه إلى القبلة يصلي فيها المسلمون. حولها ثمار كثيرة وعامتها اللوز الأملس والخروب المعسل الرطب يعقد منه الأشربة وكروم كثيرة يحمل أعنابها وشرابها إلى مصر. ويقولون إن سبب بنيان هذه الكنيسة أن قبرا كان في موضعها وكان بالقرب منه قرية، وأن رجلا من أهلها كان مقعدا فزال عنه حماره فزحف في طلبه ليصرفه حتى وصل إلى القبر. فلما صار عليه انطلق ماشيا فمشى إلى حماره واستولى عليه راكبا وانصرف إلى موضعه صحيحا. فتسامع الناس ذلك فلم يبق عليل إلا قصد ذلك القبر فجلس عليه فأفاق. فبنيت عليه هذه الكنيسة وقصدها أولو الاسقام ليستشفوا بها فبطل ذلك بعد بنائها. ويؤدي من القسطنطينية إلى هذه الكنيسة في كل عام آلاف دينار (الدينار 60 قرشا). ا.ه.
ولنعد بعد نقل هذه النبذة المتعلقة بالغرب إلى موضوع الوادي.
صفحه نامشخص