ويتحدثون إلى أنفسهم، وربما تحدث بعضهم إلى بعض - إذا خلا بعضهم إلى بعض - بأن الخير كل الخير عند محمد وأصحابه، وبأن الخير كل الخير في أن ينحازوا إليهم، فالضعف إلى الضعف قوة، ومن يدري؟! لعل الله أن ينتصف لهم ولأمثالهم بمحمد وأصحابه من أولئك البغاة الظالمين.
وأما المسلمون الذين صرف عنهم العذاب ونحيت عنهم الفتنة، فكانوا يشهدون وفي نفوسهم ألم وأمل، وفي قلوبهم حزن وثقة، قد اطمأنوا إلى أن العاقبة لهم، واستيقنوا بأن الله منجز وعده، ولكنهم على ذلك يرحمون إخوانهم، وربما تمنوا لو كانوا مكانهم فاحتملوا عنهم بعض ما يحتملون من الأذى.
وربما كان أصدق وصف لمكة حين أمسى المساء من ذلك اليوم أن أكثر أهلها كانوا حائرين، يرون الفتنة ولا يدرون أيعرفونها أو ينكرونها؛ لأنهم لا يعرفون أخير هي أم شر! وأن أقل أهلها كانوا قد صدقوا الله ما عاهدوا عليه، فرضيت نفوسهم واطمأنت قلوبهم واستيقنوا أن العاقبة للمتقين، ولو كشف الغطاء عن أهل مكة لرأوا حين تقدم الليل من ذلك اليوم أن من حول مكة أعيادا يحفل بها الشياطين، وقد استخفهم الفرح واستهواهم الطرب، ورأوا أصحاب محمد يعذبون أشد العذاب وأقساه، فغرهم بالله وبأنفسهم الغرور، وظنوا أن فتنة هؤلاء الرهط ستحفظ لهم سلطانهم على مكة، وستمكن لهم في قلوب قريش.
وأصبح أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
فتحدثوا إليه من أمر الفتنة بما علموا، ولكنه تحدث إليهم من أمرها بما لم يعلموا، لا لأنه شهد الفتنة، أو رأى كيف كان تصب على المستضعفين من أصحابه، بل لأن أمر الفتنة كله قد أوحي إليه.
وخرج النبي وأصحابه فتفرقوا في أحياء مكة يسعى بعضهم هنا ويسعى بعضهم هناك، يلتمسون فضلا من ربهم، ويريدون في أكبر الظن مواساة لهؤلاء المستضعفين الذين كانوا يفتنون عن دينهم ويعذبون في الله، ويمشي النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض بطحاء مكة، وقد وضع يده في يد عثمان بن عفان، وما يزالان يتماشيان حتى يبلغا آل ياسر وقد سطحوا على الأرض موثقين، ووضعت على صدورهم الصخور الثقال، وجعل المشركون يمسونهم بالنار حينا بعد حين، وربما وخزوهم بالخناجر والحراب، وثلاثتهم سكوت لا ينطقون حرفا، والمشركون قد ملأ قلوبهم الغيظ؛ لأنهم لا يبلغون منهم شيئا، وقد أنكروا صمتهم الذي اتصل منذ أخذ في تعذيبهم مع الضحى، حتى جعلوا يشتطون عليهم في البأس
226
صفحه نامشخص