شكائمها، ويكاد المرح والنشاط يخرجها من جلودها. وكان هؤلاء الشباب إذا خلا بعضهم إلى بعض تحدثوا في حالتهم تلك فنونا من الأحاديث، كانت تنتهي بهم دائما إلى الحسرة الدفينة والغيظ المكظوم، كانوا يقلبون وجوههم فيما حولهم من القرى الحاضرة، ومن أحياء العرب البادية، فتتقطع بهم الآمال، ويردون إلى العجز واليأس، يرون أن الحياة في مكة خير ما يمكن أن يتاح لهم ولأمثالهم من ضروب العيش. في مكة الأمن والسلم، والقوت يكسب في غير مشقة شاقة ولا جهد عسير، وليس في مكة مغامرة بالنفس ولا بالمال. وفي مكة الموسم الذي يجلب إليها وإلى ما حولها قبائل العرب وتجارتها من كل فج؛ فالحياة فيها وادعة خصبة، ولكنها على ذلك مغلقة إلا على الذين يتيح لهم الغنى والمولد وشرف النسب أن يفتحوا أبوابها، ويخرجوا منها إلى آفاق الأرض البعيدة، ثم يعودون وقد ملئوا أيديهم بالمال، ومتعوا أنفسهم بالرحلة والتنقل في الأقطار. ولكن خبابا يلقى صديقا له ذات يوم، فلا يكاد يتحدث إليه ببعض ما كان يدور بينهما من حديث حتى يرى منه ازورارا
167
عن اليأس وانحرافا عن الحزن وتعلقا بأمل مشرق بعيد. يقول خباب لصاحبه: ما خطبك؟ إني لأرى من شأنك شيئا لم أعهده، وما أنكرت من صديقي أحدا كما أنكرك منذ اليوم. فلا يجيبه صديقه بما تعود أن يجيبه بمثله من رجع الحديث، وإنما يتلو عليه:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى .
168
فلا يكاد خباب يسمع هذا الكلام حتى تجري في بدنه رعدة تصطك لها أسنانه وركبتاه،
169
ويتركه صاحبه ساعة، حتى إذا هدأت رعدته وثاب إليه أمنه واستقر جسمه، قال لصاحبه: ويحك! أعد علي ما قلت؛ فإني أجد له في قلبي حرا ولا يكاد عقلي يفهمه. ويعيد عليه صاحبه تلك الآيات مرة ومرة.
وإذا خباب يرد على صاحبه فيتلو:
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى . ما هذا القول؟ إنه ليس من عندك، أين سمعته؟ أو ممن سمعته؟ وهل لي إلى أن أسمع مثله من سبيل؟
صفحه نامشخص