268
وأقبل بجيش من أهل الكوفة مددا لأهل البصرة في بعض المواقع، فلما أظفر الله المسلمين قال له بعض أهل البصرة: يا أجدع، أتريد أن تشاركنا في غنائمنا؟! فلم يزد عمار على أن قال وهو يضحك: خير أذني سببت. وكانت أذنه تلك قد أصيبت في سبيل الله يوم اليمامة، وقد أبى أهل البصرة أن يشركوا عمارا وأصحابه في الغنيمة، وأبى عمار إلا أن يأخذ لأصحابه حقهم منها. فكتبوا في ذلك إلى عمر، فكتب إليهم عمر: إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة. وأخذ عمار وأصحابه حقهم، وكان عمر يخالف بين ولاته على الأمصار، لا يكاد يمد لأحدهم في الولاية. فلما عزل عمارا ولقيه بعد ذلك في المدينة قال له: أساءك عزلنا إياك؟ فأجابه عمار: أما إذا قلت ذاك فقد ساءني حين استعملتني وساءني حين عزلتني، ثم فرغ عمار للعبادة والطاعة والأمر بالمعروف وتأديب الناس في دينهم ما بقي من أيام عمر وصدرا من أيام عثمان، ولكن عمارا يعلم ذات يوم أن عثمان قد أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر، فيحضره خاطر مؤلم يمره في نفسه، ثم يلقيه في أعماق ضميره لا يحدث به نفسه بعد ذلك ولا يحدث به الناس، ويذكر أن آية في القرآن قد أنزلت أشير فيها إليه وإلى عبد الله بن أبي سرح هذا الذي أمر على مصر، وهي قول الله عز وجل:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
وكان المسلمون يرون أن عبد الله بن أبي سرح هو الذي أشير إليه في قول الله عز وجل:
من شرح بالكفر صدرا .
يقول عمار لنفسه: إن عبد الله بن أبي سرح قد عاد بأخرة إلى الإسلام، فعسى أن يكون قد تاب وأصلح، وعسى الله أن يكون قد حط عنه ثقل الكفر بعد الإيمان. ولكن سيرة عبد الله بن أبي سرح في مصر تصبح موضع الشكوى بين المصريين كسيرة غيره من ولاة عثمان في الكوفة والبصرة، ثم تكثر الشكوى ويشيع النكير حتى يغضب المهاجرون والأنصار في المدينة ويتكلمون في ذلك، ثم يجتمعون ويتشاورون، ويذهب عمار إلى عثمان عن نفسه أو عمن وراءه من المسلمين ليحدثه برأي الناس في ولاته، فلا يرضي قوله عثمان، ويعظم الأمر بينهما، حتى يأمر عثمان بإخراجه، فيخرجه غلمانه ويضربونه حتى يغشى عليه، وحتى يظن الناس أنه الموت، ولكن عمارا يفيق ويقول: طالما عذبنا في الله من قبل. ويصبح منذ ذلك اليوم زعيما من زعماء المعارضة لعثمان.
25
لبث عبد الله بن مسعود في الكوفة بعد أن عزل عنها عمار بن ياسر، لم يعد إلى المدينة، ولم ينح عن عمله، وإنما ظل أمينا على بيت مال الكوفة معلما لأهلها مشيرا على ولاتها. وقد علم الناس فأحسن تعليمهم، فملأ قلوبهم حبا له وإعجابا به، وترك في نفوسهم أقوى الأثر وأبقاه.
ولم يكن ذلك غريبا، فقد لزم ابن مسعود رسول الله فأطال لزومه، حتى ظن بعض أصحابه أنه من أهل البيت، وأخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن لم ينازعه فيهن أحد، وكان النبي يحب قراءته للقرآن، ويحببها إلى الناس، ويقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد.»
وكان عبد الله شديد التأثر
صفحه نامشخص