وعليه، فإن قراءة التاريخ القديم دون الأسطورة أمر غير تام العلمية، باحتسابنا الأسطورة السجل الأمثل للفكر وواقعه في مراحله الابتدائية، عندما كان يحاول تفسير الوجود من حوله، ويحاول قراءة الواقع الاجتماعي وتغييره ... هذا بالطبع مع ما تنقله لنا الأسطورة من بصمات وانطباعات النفس الجماعية عليها. ونقول جماعية لأن الأسطورة لا يمكن لأحد أن يدعي حق تأليفها. فهي مجهولة الأصل والمؤلف - بل وأحيانا - المنشأ والتاريخ، ناهيك عن كونها ثقافة أجيال متعاقبة، ظلت تجرح فيها وتعدل، هذا مع عالميتها التي وضحت في قدرتها المبهرة على الانتقال عبر حدود المكان والزمان، وإمكاناتها الهائلة على التكيف خارج وطنها وبعيدا عن زمنها؛ لتظل حية لدى شعوب مخالفة تتبناها في أزمنة مخالفة.
وعليه يمكن الاستفسار: هل جاء الإسلام المرتبط بالعروبة بالضرورة، بقطيعة معرفية مع الأسطورة، حتى يمكن القول، مع القائلين: إن هنا المعقول ودونه لا معقول، ونجعل من تلك المصادرة مبررا كافيا لإهدار الأساطير القديمة لأنها اللامعقول؟ هنا - لا شك - سيجد أصحاب تلك الرؤية عسرا شديدا في قياس مواضيع إيمانية بحت - لا شأن للعقل بها - على ما اتفق الاصطلاح عليه بتعبير المعقول، مثل تحديد موقع حادثة الإسراء والمعراج من هذا المعقول، وهل نرفضها بمنطق رفض اللامعقول؟ أم نبقي عليها بمنطق الإيمان؟ أم أن النوع القديم من اللامعقول هو محل التجرؤ والعنترية؟ ثم كيف نصنف دابة البراق - التي حملت الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى القدس - تصنيفا علميا يضعها ضمن فصيلتها الحية، وكيف نحدد تحديدا دقيقا أمة يأجوج ومأجوج بين الشعوب، وتحديد مواطنها، وهي أمة يتحدد معها مصير العالم، ويجب اتخاذ مواقف مناسبة إزاءها (بالمعقول؟) ثم لا شك أن أي مؤمن وأي شاك ستطيب نفسه إن تمكن من تفسير الحكمة الإلهية في إهلاك شعب مقابل ناقة تلدها صخرة!
كما لا جدال أن إيجاد تفسير معقول لإفناء قوم نوح في ضوء المعقول الآني الذي يفرض حرية الاعتقاد، سيكون مريحا لكثير من النفوس الحيرى والقلقة، وغير ذلك كثير لا يغنينا زيادة السرد بشأنه شيئا؛ لأنه ليس موضوع عقل، إنما كما قلنا هو موضوع قبول أو رفض، موضوع إيمان؛ مما يشير إلى أن سمة اللامعقول في بعض تفاصيل الأساطير القديمة لا تسلبها الحق في احترامها ودراستها، وربما كان الأمر الأهم من سردنا أمثلة أخرى، الوصول مباشرة للإجابة على السؤال الأخطر، الذي ربما كانت الإجابة عليه هي الأكثر علمية وإنصافا، هو: كيف تحول الحدث التاريخي في صدر الإسلام إلى حدث أسطوري، إبان تواتر الوحي في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، والزيادة الهائلة والمكثفة في أسطرة الوقائع عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين؟
لا شك إذن أن إهدار التراث القديم، دون بحثه، وبحث ظرفه الموضوعي، وإصدار أحكام قبلية عليه وعلى من قبس منه من فلاسفتنا، ليس من العلمية في شيء (وهو النموذج الذي رأيناه لدى باحث مقتدر، وجد غاية لذته العقلية في سلب ابن سينا كل ميزات منتجه الفكري وتسفيهه كل التسفيه، بحسبانه متأثرا بذلك القديم اللامعقول، دون أن يهتم سيادة الباحث بما دون الجانب المعرفي وحده، ودون أن يخفى على باحث مثله، أنه بالإمبستولوجيا وحدها يمكن إثبات الأمر ونقيضه في آن معا)؛ ومن ثم يمكننا القول: إنه بالتزام كل شروط العلمية في البحث، يمكن أن نعثر في القديم على كثير مما يفيد قراءتنا لتراثنا وحاضرنا قراءة صحيحة، بالضبط كما نبحث عن العوامل الموضوعية لحدث ديني، ونترك اللاموضوعي فيه موكولا إلى جانب الإيمان، دون أن نكون قد ارتكبنا خطأ في حق العلم أو في حق الدين. ولذلك فإن اهتمامنا بالتراث القديم، يعود في المقام الأول إلى احتسابنا ذلك هو الطريق الممكن للوصول إلى جذور كثير من الاعتقادات التي توجه فكر وسلوك إنساننا اليوم، وربما تعديل ذلك السلوك، إضافة إلى ما يحمله هذا المنهج من إمكانات عدم الاصطدام مع عنصر الإيمان؛ لأن مساحة الحرية المتاحة في مناقشة القديم، بحسبانه ليس محل إيمان وإن كان محل تشابه، لا يضع الباحث وبحثه في محل تشكيك، ويعطيه قدرا من حرية الحركة، والبحث، والقول، مع ضمان عدم تمكن الطرف الآخر في الصراع الفكري، من استخدام أسلحته التقليدية في قمع البحث والمصادرة على القول، بل وربما في شل فعاليات تلك الأسلحة التقليدية نفسها.
وهنا يبدو واضحا أن ثمة علاقة من نوع ما بين الأسطورة والدين تطلب تحديدا وتوضيحا. ولأن حديثنا عن التراث القديم، فسيكون من الدقة الإشارة إلى أن ذلك التحديد والتوضيح سيتركز على الأديان الابتدائية، التي وصلت أوج القوة مع ظروف اجتماعية واقتصادية بعينها لم تعد الأسطورة تفي بمطلب مواكبتها؛ مما أدى لتجلي الدين كبديل معرفي أشمل وأقدر على المعالجة المعرفية، وحل إشكاليات مستجدة لم تعد الأسطورة كافية لحلها ومعالجتها، إضافة للعنصر الجديد الذي تلبسه الدين، ليتميز عن الأسطورة. فبينما كانت الأسطورة بعيدة تماما عن الفردية، وغير مفروضة، فيحق للناس تصديقها أو رفضها، والعمل بشروطها أو بشروط أخرى، فإن الدين جاء بدوره بفعل ظروف موضوعية، لكن دخل فيه الجانب الفردي واللمسة العبقرية لأشخاص بعينهم، بعد أن أصبح توجيها مخططا ومبرمجا عن وعي من فئة متميزة في المجتمع في مراحل تطوره التالية؛ نظرا لطبيعة منشئه وعلاقته بتلك النشأة، كان لا بد أن يتجاوز الأسطورة ، من حيث كونه أداة قمع، ليصبح اعتقادا مفروضا، وليظهر مفهوم الإيمان والكفر، وما يتبع ذلك من إنعام أو حرمان.
وفي كل ما اهتدينا إليه من كتابات بشأن علاقة الأسطورة بالدين، وجدنا شبه اتفاق على أن الدين الابتدائي في ظهوره مثل الأسطورة، نشأ نتيجة الجهل المعرفي، والأمل فيما هو أفضل من الحادث فعلا، مع بعض الخيال اللازم بالضرورة عن الجهل والأمل، وهي أمور ناتجة عن ضعف العلوم الطبيعية، والتصور الثنائي للكون ما بين روح أو عقل أو نفس، وبين مادة جامدة لا تفعل إلا بالفعل أو الروح. وهو بدوره ناتج ضروري عن تقسيم العمل إلى يدوي وذهني، وهذا أيضا ناتج آخر في سلسلة الأسباب والنتائج عن الانقسام الطبقي، ودور الطبقات المستغلة في إشاعة هذه التصورات ودعمها، ومنحها التفرغ الكافي لحكماء، يؤدون دور المنظرين المبدعين - شكلوا فيما بعد طبقة الكهان والعرافين، ثم رجال الدين - لتعميق تلك التصورات وإدامتها وإلباسها ثوب الإقناع والاستمرار.
هذا ويذهب نفر من علماء الميثولوجيا إلى أن أول الأعمال الأدبية الأسطورية ولدت في المعابد وهياكل الآلهة، ويعتقد روبرتسون سميث
صفحه نامشخص