ارگانون جدید
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
ژانرها
51
من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءك!» هذه العلامة إذن من أخطر العلامات. ها قد فرغنا الآن من عرض فكرتنا: أن كل ما يتخذ دليلا على صدق الفلسفات والعلوم وصحتها هو دليل غير صحيح، سواء كان مستمدا من منشئها أو من نتاجها أو من تقدمها أو من اعترافات واضعيها أو من الإجماع (عليها). ••• (78) نأتي الآن إلى أسباب هذه الأخطاء، والأسباب التي جعلت الناس تتعثر بها طيلة هذه القرون، هذه الأسباب هي من الكثرة والقوة بحيث يزول معها أي عجب من أن تخفى هذه الاعتبارات التي طرحتها عن ملاحظة الناس حتى يومنا هذا، العجب الوحيد هو أن تطرأ اليوم أخيرا في ذهن واحد من الناس وتصبح موضوعا لفكره، أنا شخصيا أعتبر ذلك حقا نتاج مصادفة سعيدة وليس فضل موهبة استثنائية عندي، هي بنت الزمن وليست بنت الذكاء.
فأنت أولا إذا نظرت إلى الأمر على حقيقته لوجدت أن هذه القرون الطويلة تختزل في نطاق صغير جدا، ففي هذه القرون الخمسة والعشرين - التي تحيط بها الذاكرة والمعرفة البشريتان - لن تستطيع أن تفرد أكثر من ستة قرون كانت خصبة في العلوم ومواتية لتقدمها. إن للزمن فيافيه وقفاره مثلما لأصقاع الأرض، ونحن لا نستطيع أن نعد عن حق إلا ثلاث ثورات وفترات ذروة في الفلسفة: الأولى بين اليونان، والثانية بين الرومان، والثالثة بيننا نحن أمم أوروبا الغربية، ولن تزيد الفترة المقيضة لكل واحدة منها عن قرنين من الزمن، أما العصور الوسطى للعالم فلم تكن خصبة في إنتاج محصول وفير وغني من العلوم، وليس ثمة ما يدعو إلى ذكر العرب والأسكولائيين الذين محقوا العلوم برسائلهم العديدة في الزمن الوسيط أكثر مما أضافوا إلى وزنها، جملة القول: إن السبب الأول لهذا التقدم الهزيل في العلوم يعود إلى ضآلة الفترات الزمنية التي كانت مواتية للعلم. ••• (79) في المقام الثاني هناك سبب يطرح نفسه، وهو بالتأكيد على أعلى درجة من الأهمية، وهو أنه في تلك العصور نفسها - التي ازدهر فيها الذكاء البشري والمعرفة ازدهارا كبيرا أو حتى ازدهارا متوسطا - لم يكن الناس يولون الفلسفة الطبيعية إلا جزءا ضئيلا من جهدهم، غير أن هذه نفسها هي التي ينبغي أن تعد الأم العليا للعلوم، فكل فن أو علم ينبت عن هذا الجذر، قد يصقل ويعدل للاستخدام العملي، ولكنه لن ينمو على الإطلاق، ومن المعلوم أنه بعد أن انتشرت المسيحية واشتد عودها، فإن أغلب العقول النابغة اشتغلت باللاهوت، حيث كانت تقدم أعلى المنح وتبذل بسخاء كل ضروب الإعانات، هذا التكريس للاهوت احتل ذلك الجزء الثالث أو الفترة الثالثة بيننا نحن الأوروبيين الغربيين، لا سيما أنه في الوقت نفسه بدأ الأدب في الازدهار والخلافات الدينية في الاندلاع، أما في العصر السابق - أي طوال الفترة الثانية بين الرومان - فكانت تأملات الفلاسفة وجهودهم منصرفة بالدرجة الأساس إلى الفلسفة الخلقية التي كانت عند الوثنيين بمثابة اللاهوت عندنا، إلى جانب ذلك انشغلت العقول النابغة بالشأن العام (السياسة)؛ نظرا لضخامة الإمبراطورية الرومانية وما تتطلبه من خدمات عدد كبير من الأشخاص، أما العصر الذي بدا فيه أعلى ازدهار للفلسفة الطبيعية بين اليونان فلم يمتد طويلا، ففي الفترة المبكرة كرس الفلاسفة المعروفون ب «الحكام السبعة» (باستثناء طاليس) أنفسهم للفلسفة الخلقية والسياسة، وفي الفترة المتأخرة - بعد أن أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض - ازداد رواج الفلسفة الخلقية وصرفت عقول الناس عن فلسفة الطبيعة.
بل إن الفترة نفسها التي ازدهر فيها البحث في الطبيعة قد أفسدتها الخلافات اللفظية، والمنافسة في وضع آراء جديدة، وجعلتها عديمة الجدوى، وهكذا خلال هذه الفترات الثلاثة أهملت الفلسفة الطبيعية أو أعيقت، فلا عجب ألا يحقق الناس غير تقدم يسير في هذا المجال؛ إذ كان اهتمامهم منصرفا إلى شيء مختلف تماما. ••• (80) أضف إلى ذلك أن الفلسفة الطبيعية قلما وجدت - حتى بين أولئك الذين مارسوها - من يكرس لها كل وقته، وخاصة في الأزمنة الحديثة (إلا إذا عثر المرء ربما على نموذج أو اثنين في راهب في صومعته أو نبيل في بيته الريفي)،
52
فقد عوملت الفلسفة الطبيعية كمجرد معبر أو جسر إلى مطالب أخرى.
هكذا أكرهت هذه الأم العليا للعلوم - بجور غريب - على أن تؤدي مهام خادمة، فتلبي حاجات الطب أو الرياضيات، أو تغسل الأذهان غير الناضجة للشباب وتنقعها في نوع من الصبغة الأولى حتى يتسنى لها لاحقا أن تمتص صبغة أخرى وتثبتها، كذلك لا يتوقعن أحد أي تقدم كبير في العلوم (وبخاصة في جانبها العملي) ما لم توصل الفلسفة الطبيعية بالعلوم الخاصة، وترد العلوم الخاصة ثانية إلى الفلسفة الطبيعية، وبسبب افتقارها إلى هذا نجد علوم الفلك والبصريات والموسيقى وعددا من الفنون الميكانيكية والطب نفسه (ويا للعجب) والفلسفة الأخلاقية والسياسة وعلوم المنطق؛ نجدها جميعا تفتقر إلى العمق، ولا تمس الأشياء إلا مسا سطحيا عابرا؛ ذلك أنها بعد أن انفصلت وتأسست كعلوم خاصة لم تعد تتغذى بالفلسفة الطبيعية التي كانت كفيلة بأن تمدها بقوة جديدة ونماء من خلال التأمل الأصيل للحركة والأشعة والأصوات وبنية الأجسام وهيئتها وللانفعالات والعمليات الذهنية، ومن ثم فلا عجب ألا تنمو العلوم إذا ما انفصلت عن جذورها. ••• (81) ثمة سبب آخر مهم وقوي لعدم إحراز العلوم إلا تقدما قليلا: فليس بالإمكان أن تتقدم في المضمار كما ينبغي إذا كان الهدف نفسه لم يوضع على نحو صحيح، فالهدف الحقيقي والمشروع للعلوم هو أن تزود الحياة الإنسانية باكتشافات وموارد جديدة، والكثرة الكاثرة من الناس لا يعرفون شيئا عن هذا، إن هم إلا مأجورون ومحترفون، ربما يتصادف أن صانعا ما ذا عبقرية حادة وطموح للشهرة يكرس نفسه لعمل اختراع جديد، والذي يكون دائما على نفقته الخاصة، غير أن الغالبية من الناس لا يحدثون أنفسهم بأن يزيدوا حصيلة العلوم والفنون، فهم لا يأخذون من الحصيلة المتوافرة لديهم ولا يلتمسون منها إلا ما يمكنهم أن يحولوه إلى استعمال حرفي أو ربح أو صيت أو ما شابه ذلك من المزايا، وإذا كان في هذا الحشد واحد يسعى إلى المعرفة بحب صادق ولأجل المعرفة فحسب، فحتى هذا سنجد أن هدفه هو التأملات والمذاهب المتنوعة وليس البحث الصارم الجاد عن الحقيقة، وحتى إذا كان هناك من هو باحث أكثر كدا عن الحقيقة فهو أيضا سوف يضع أمامه وصفا للحقيقة من شأنه أن يرضي عقله وفهمه في تقديم علل للأشياء معلومة أصلا، لا وصفا يقود إلى نتائج جديدة ونور جديد من المبادئ،
53
وهكذا إذا كانت «غاية» العلوم لم توضع بعد على نحو صحيح، فلا عجب أن يكون الناس قد أخطئوا في أمر «الوسائل». ••• (82) ومثلما أن الناس لم تحدد غاية العلوم وهدفها كما ينبغي، فإنهم حتى لو حددوا ذلك تحديدا جيدا، إنما يتخذون إليه طريقا خاطئا ومسدودا تماما، وإنه لمن أعجب العجب لمن يتأمل الأمر أن لا يعنى أحد ولا يهتم بفتح طريق ممهد ومعبد للفهم الإنساني ينطلق من الحواس عبر التجربة المنظمة المحكمة، بل يترك كل شيء نهبا لغيوم التقاليد ودوامة الجدل، أو لتقلبات الصدفة ومتاهاتها والخبرة العارضة غير المنظمة، فليتأمل أي منا بتيقظ وعناية في نوعية الطريق الذي اعتاد البشر اتخاذه في بحث أي شيء واكتشافه، فإنه - بدون شك - سيلحظ أولا منهجا بسيطا غير علمي للكشف مألوفا جدا للبشر، وهو لا يعدو أن يكون كالتالي: عندما يعد أي شخص نفسه للكشف فإنه يستعلم عن كل ما سبق أن قيل في الموضوع ويلم به، ثم يضيف تأملاته الخاصة، ويقلب الأمر في ذهنه ويستنطق روحه الخاصة ويهيب بها أن توحي إليه، هذا منهج يفتقر إلى أي أساس، وتذهب به الآراء كل مذهب.
وآخر قد يستدعي المنطق لكي يعينه في الكشف، والمنطق لا صلة له بهذا الغرض سوى صلة اسمية، فالمنطق لا يكتشف المبادئ والقضايا الرئيسية التي تتألف منها الفنون، بل يكتشف فحسب تلك القضايا التي تبدو متسقة معها،
صفحه نامشخص