فلما وقع نظر أرميا على أستير دهش وصاح متنهدا من أعماق قلبه قائلا: من أنقذك؟ هاها، ما أقوى النساء الجميلات. فإنهن ينقذن أنفسهن دائما، أعطوها السيف أعطوها السيف. فإنني لا أأتمن غيرها على روحي. ياعزيزتي، اذكري أنني خلصتك فخلصيني.
فأخذت أستير السيف بيدها البيضاء الجميلة، ودنت من أرميا وهو ممدد، فصار أرميا يضحك لها. فقطعت أستير بالسيف الحبال التي كانت توثق يديه ورجليه، فنهض أرميا، وصار يتمطى كنمر كان مقيدا وأطلق من قيده.
وبعدما أصلح أرميا شأنه وملابسه دنا من أستير باهتمام وقال لها: لقد أطلقونا الآن فهلمي بنا. فضحكت أستير وأجابت: إلى أين؟ فصاح أرميا: كل الأماكن خير من هذا المكان. هلمي يا أختي لنعيش بالبرية معا كالرعاة. فعبس أبوها وهز رأسه، وهو يقول في نفسه: إنه صار يجب عليه إنقاذ الفتاة لا من ضرار فقط بل من أرميا المعتوه أيضا، ومنذ هذا الحين عرف صعوبة موقف الرجل بين بعض الرجال إذا كان يصحب فتاة متناهية في الجمال.
أما ضرار فإنه لما علم بمطلب أرميا هز سيفه حتى دب الموت بإفرنده وقال له: والله إذا ذكرت الرحيل مرة أخرى لأجعلنك مرتعا له. - فابتعد عنه أرميا دون أن يفهم كلامه، وهو يدير فيه عينين مذعورتين، ويبحث بهما في الأرض عن حجارة أو أخشاب يدفع بها عن نفسه إذا هاجمه صاحب السيف.
أما الشيخ أبو أستير فإنه خلا بأرميا وأخبره أن أمير العرب أسرهم، ولا يأذن لهم بالرحيل، ولكنه أذن لأرميا بذلك، وكان أرميا قد علم أن الشيخ هو أبو أستير فقال له: أنا مقيم معكم حيثما تقيمون.
ومنذ هذا الحين صار أرميا يتجول في حي العرب بين الخيام؛ لمشاهدة تلك المنازل البدوية الغريبة، وفي المساء يعود إلى خيمة ضرار وينام في الليل على بابها، وأستير في داخلها مع أبيها كأنه حارس لها.
وفي ذات يوم بينما كان يدور بين الخيام متجنبا المضارب التي فيها نساء وأولاد وأصوات القتال واردة من جهة بيت المقدس وإذا به قد بلغ خيمة رفيعة العمد عالية الأطناب، وكان حول هذه الخيمة خيام كثيرة تحيط بها على مسافات مختلفة، والناظر إليها يعرف لأول نظرة أنها خيمة زعيم قومه، وفي الحقيقة أنها كانت خيمة الفارس المغوار المشهور عمرو بن معدي كرب الزبيدي الذي ترك بوادي اليمن، وجاء في رجاله لنصرة جند الشام مع مالك بن الأشتر النخعي في أواخر خلافة أبي بكر.
2
فلما دنا أرميا من هذه الخيمة الشامخة سمع فيها صوتا يتكلم باللغة اليونانية، فعجب من ذلك، وتقدم متلصصا، فلما أطل على الخيمة أبصر في إحدى زواياها ما أثار دهشته، فرجع القهقرى مستغربا.
ذلك أنه أبصر في تلك الزاوية «إيليا» جالسا مشدود اليدين شدا خفيفا.
صفحه نامشخص