وهناك بقي جامدا هامدا يصغي بكل جوانحه.
لكن هذا الشبح لم يكد يستقر في مكانه وراء النافذة حتى علا من غرفة أستير صراخ وبكاء. فأجفل الشبح وصار ينظر حوله خوفا من أن يفاجئه أحد. ثم اشتد البكاء مقرونا بزفير وشهيق متصلين. فيظهر أن إيليا انتبه على صوت بكاء أستير فهب من رقاده مهرولا، وخرج من باب غرف المزرعة قاصدا نافذة أستير الخارجية ليتنصت عليها. فما كاد يصل إلى النافذة حتى لمح الشبح الأول الذي كان واقفا هناك.
وكانت زوبعة أمس قد سكنت والريح هادئة والظلام دامس. فهجم إيليا بشجاعة نحو الشبح ولا سلاح في يده غير قبضته، ولما وصل إليه أخذ بيديه أخذا شديدا وصاح به: من أنت
1
فضحك حينئذ الشبح ضحكا شديدا، وأجاب: أما عرفتني يا كيريه إيليا؟ فحينئذ عبس إيليا وأجاب: وماذا تصنع هنا يا أرميا؟
أما أرميا وهو عين الشبح المذكور فإنه زاد ضحكا وأجاب: أنا أصنع كما تصنع أنت. فغضب إيليا حينئذ وقال: يا أرميا إن نزولك إلى المزرعة تحت جنح الدجى أمر غير حسن. ثم تركه إيليا ودخل فأيقظ الشيخ سليمان، وأخبره ببكاء أستير في الليل، ووجود أرميا في المزرعة.
أما الشيخ سليمان فلم يبال بهبوط أرميا إلى المزرعة في تلك الليلة؛ لأن إيليا لم يوقفه على سبب ذلك، ولهذا لم يهتم إلا بأمر أستير. فذهب في الحال ونبه بناته، وبعد ثلاث دقائق اجتمعن في عرفة أستير يؤانسونها.
أما أستير فإنها لما وقع نظرها على إيليا زاد بكاؤها حتى كاد يغمى عليها، وكان أرميا من خارج يسمع صوتها. فقال في نفسه: إذا لم يكن ذلك الليلة فغدا.
ولما سألت البنات أستير عن سبب بكائها أجابتهن أنه حلم مريع، ولكنها لم تقص لهن شيئا من هذا الحلم، وفي الحقيقة أنه كان مؤثرا. فإن أستير لم تكد ترقد حتى رأت نفسها في كنيسة جاثية أمام الصليب وهي تقول: «إنني أكفر يا سيدي عن جناية أمتي» لكنها لم تلبث أن رأت أمها العجوز المقعدة قد دخلت إلى الكنيسة ركضا؛ لأنها كانت تفتش عنها، وإذ أبصرتها صاحت بها «أهكذا تتركينا يا أستير، أهذه ثمرة أتعابنا فيك». فانتبهت أستير مذعورة مرتعدة، واندفعت تبكي بكاء شديدا دون أن تتمالك نفسها كما يحدث كثيرا للذين يرون أحلاما مؤلمة.
وكانت حينئذ قد دخلت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كان الفتيات يسكن روع أستير في داخل الغرفة جاء أرميا وطلب الانفراد بإيليا. فخرج إليه إيليا عابسا. فأخذه أرميا إلى جانب في ساحة المزرعة، وابتدأ الحديث بقوله: يا كيريه إيليا على أي شيء عزمت الآن؟ فدهش إيليا وأجاب: أي شيء تريد؟ فقال أرميا المعتوه: أنت تعلم أن الصيد لمن صاده، وأنا وأنت قد اصطدنا صيدا فلماذا تنفرد به أنت وحدك؟ فحملق إيليا وصاح به: ما معنى كلامك هذا؟ فضحك أرميا ضحكة شديدة وأجاب: أنظرت يا كيريه إيليا. إنه لا يغضب إلا المخطئ، وأما الذي يكون ذا حق مثلي فإنه يكون هادئا دائما، واسمع لأفسر لك كلامي. يا كيريه إيليا، ضع يدك على صدري فتعلم أن لي قلبا مثل قلبك، وهو يتحرك أيضا كما يتحرك قلبك. فأنا أحب كما أنت تحب، وأول ما وقع نظري على هذه الفتاة الوثنية أحببتها من صميم قلبي، وصرت أرى من واجباتي هدايتها إلى الإيمان الحقيقي. ثم لما اصطدناها معا على الطريق ليلة أمس صار لي الحق فيها، وأنت أيضا لك فيها حق لا ينكر. فماذا تريد الآن هل تبيعني حقك أم تشتري حقي؟
صفحه نامشخص