فهنا جمد إيليا في مكانه، وصار كله آذانا تصغي. فبعد حين سمع في الغرفة بابا يفتح وصوت أقدام. ثم سمع قائلا يقول باللغة اليونانية: - يا أختي المحبوبة، خففي عنك فقد أزعجت ضميري ببكائك وجزعك، ولذلك لم أقدر على الرقاد حتى الآن، فبحياة أهلك إذا كان لك أهل، ووطنك إذا كان لك وطن أن تريحي نفسك وتريحينا. انظري إننا هنا كلنا أخواتك، وكل ما تحتاجين إليه يقضى في الحال؛ فتعيشين معنا بهناء وسرور لا ينقصك شيء ولا يزعجك شيء، ولا نطلب منك في مقابل ذلك إلا شيئا واحدا.
ثم سكت الصوت فلم يجاوبه أحد بل اشتد صوت الزفير قليلا. فاستأنف ذلك الصوت الكلام قائلا - ما بالك لا تجاوبين يا أختي، إننا لم نطلب منك إلا ما فيه خلاص نفسك، وهل مثلك تدنس نفسها بعبادة باكوس وجوبيتير وجينون وتترك الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، ألا تخجلين يا أختي من عبادة الأصنام والتماثيل الحجرية التي يكسرها أضعف إنسان بيده.
ولكن هذا الصوت لم يأت على هذا الكلام حتى أجاب صوت آخر صارخا بحدة وبكاء: - أنا أعرف الله أكثر منكم.
فصاح الصوت الأول بابتهاج قائلا - شكرا لله شكرا لله. فلقد أنار عقلك، وياما أحيلى اسم «الله» في شفتيك يا أختي المحبوبة، الآن أرحت بالي، وعلمت أن النور قد بدأ يدخل إلى نفسك، ولكن من أي ساعة بدأت تعرفين الله يا أختي المحبوبة؟
فأجاب أيضا الصوت الثاني بنزق وحدة وبكاء - عرفته منذ ولادتي. فهو إلهي وإله آبائي وأجدادي. هو الذي أخرجنا من مصر، ووهبنا هذه الأرض أرض الميعاد، وحمانا في خلال القرون والأجيال، ولولانا لما عرفتموه، وهو لم يسمح لكم أن تستولوا على هذه الأرض حينا إلا عقابا لنا كما سمح بذلك للبابليين من قبل، ولكن كما حدث للبابليين سيحدث لكم أيضا فيعيد إلينا إلهنا مملكتنا، ويخذل أعداءنا.
وكان إيليا يصغي إلى المتخاطبتين بانتباه شديد؛ لأنه من بدء الحديث فهم أن الصوت الأول صوت إحدى الراهبات ولعلها الرئيسة، والصوت الثاني صوت أستير حبيبته. فازداد قلبه نبضا للجرأة والتهور اللذين ظهرا من الفتاة، وقال في نفسه: إنها لو فاهت بهذا الكلام أمام أحد من العامة لما بقيت حية زمنا طويلا.
أما الراهبة فإنها لما علمت أن الفتاة لم تكن وثنية بل إسرائيلية قالت بلطف مساو للطفها الأول - يا أختي سواء كنت يهودية أم وثنية فإن ضميري يوجب علي أن أسعى لهدايتك، ولكن لماذا لم تخبرينا من قبل بذلك؟ إنني الآن عرفت سبب إغمائك حينما وقع نظرك في الصباح على صليب المخلص في الكنيسة. فيا بنية ارقدي الليلة بهدوء وسلام، وغدا سنتباحث في شأنك. ألا تريدين أن تأكلي شيئا فإنك لا تزالين صائمة منذ الصباح؟
فبكت الفتاة وصاحت: لا أنام ولا آكل قبل أن ترفعوا هذا من هنا فإنه لا يدعني أستريح أبدا.
ثم أشارت بيدها إلى زاوية فيها صليب صغير عليه السيد المسيح مصلوب، وذلك دون أن تنظر نحوها.
فلما سمعت الراهبة ذلك حمقت، وكادت تستشيط غضبا لهذا الكلام الذي جرح صميم قلبها، ولكنها كانت طويلة البال كثيرة الحلم فأجابت وقلبها يقطر دما من كلام الفتاة - يا أختي، هذا البيت بيتنا، ونظامنا أن نضع في كل غرفة فيه صليب مخلصنا، فلا تتحكمي فينا في بيتنا، لماذا تغلقين قلبك إلى هذا الحد يا بنية. انظري إلى المصلوب فهو يمد يديه نحوك. انظري ألا يخيل لك أنه يبتسم استقبالا لك. إنه حنون صفوح فلا تخافي أن يذكر لك جناية آبائك. اسمعي اسمعي. فإنه يخاطبك بلساني قائلا: إذا كان التبن الذي يذر في الريح العاصفة يعود ويجتمع فمملكتك تعود وتجتمع. لقد تشتتت أورشليم القديمة، وقامت مكانها بأمر الله يا أختي أورشليم الجديدة، ونحن بنات إسرائيل الجديد نستقبل فيك الآن بنت إسرائيل القديم. فيا له من يوم جميل يوم تضعن أيديكن بأيدينا لنمجد كلنا معا أختنا الأم العذراء التي اختارها الله ونفخ روحه في أحشائها. نامي نامي يا بنية هذه الليلة على تذكار هذه الآمال الجميلة، وغدا سنتباحث مليا في أمرك، وليكن الله معك.
صفحه نامشخص