فأشار الراهب الشيخ إلى الفتى بجد ورزانة أن يجلس بجانبه، وإذ جلس أخذ الشيخ يقول، والطبيعة كلها في أواخر ذلك الليل مصغية مع الفتى إلى كلامه اللطيف: - يا بني: لا تزال الشمس بعيدة، فلنتحادث قليلا قبل أن تشرق. فإننا لا نحتاج إلى نورها لبث الحرارة في نفوسنا، فإن الروح الإلهية التي أودعها الله في داخلنا كافية لذلك، ولقد سرت أمس حرارة نفسك إلى نفسي فرأيت أن أحادثك هذا الحديث بعد ما شهدته أمس من اضطرابك وبكائك.
يا بني، نعم إنك لم تطلب مني فضة ولا ذهبا، ولم تكلفني عناء، ولكن فاعلم أنك طلبت مني ما هو عندي أهم من الفضة والذهب، لقد طلبت مني أمرين عظيمين: الأول أن أمد يدي إلى ضميرك في باطن نفسك، وأديره إلى حيث أشاء، والثاني أن أحكم لك على هيئتنا ومعيشتنا الحاضرة الحكم الذي أراه.
هذا ما يجب أن يدور عليه محور جوابي إذا أجبتك على سؤالك، ولذلك رأيتني ترددت أولا عن تحمل هذه التبعة العظمى، ولكن دموعك واضطرابك غلبتني فجئت معك إلى هنا على هذا الجبل المقدس الذي دوت في فضائه تعاليم إلهية؛ لأذكر لك فيه ثمرة اختباراتي في هذه الحياة كما طلبت مني.
يا بني، إنك تسألني بعد ما شاهدته في المدينة وفي القداس أمام القبر المقدس، هل تنخرط في سلك الخدمة الدينية كما كنت تنوي أم تعدل عن ذلك إلى خدمة أخرى؟ وما هي الخدمة التي تليق بك؟ فأجيبك أنك أخطأت في تركك تلك الأمور الجزئية تؤثر على عقلك، والأرجح أن سبب خطئك توقعك من لبس الثوب الأسود الوصول إلى الراحة والهناء والسعادة في هذه الأرض، ولذلك أجفلت لما رأيت الأسقف يلطم شماسه أمام الناس، والكاهن يبكي وينوح؛ لأنهم قطعوا رزقه وضغطوا على حريته، ولكن فاعلم يا بني أنني لا أحثك على ترك الثوب الأسود للفرار من الأذى والإهانة والضغط والاضطهاد؛ لأن هذا الثوب ما خلق إلا ليتحمل هذه كلها، فإذا كنت تشعر في نفسك بالقوة على تحملها والترفع عن الاهتمام لها فأقدم عليه، وإلا إذا كنت تطلب به الراحة والهناء فاتركه؛ لأنك تكون ضعيفا يجب أن يخدمك الناس لا أن تخدم الناس.
نعم يا بني، لا تدع فساد أعمال الرؤساء يمنعنا من صنع الخير والقيام بواجباتنا في هذه الحياة، وهل الأرض للرؤساء لنتركها لهم حالما يظهر لنا أنهم عادون عليها وعلينا؟ كلا، إن كل إساءاتهم وظلمهم وسوء تدبيرهم وعماهم واضطهادهم وعدوانهم لا ينبغي أن تمنعنا من إتمام ما علينا للبشر الذين يعيشون معنا. فنحن نكون خدمة لله والناس حتى بالرغم عنهم، وإذا أصابنا في حياتنا إبان الخدمة ما أصاب ذلك الشماس من رئيسه أمام القبر، فإننا نقبل اللطمة ونتعزى بأننا أقرب إلى المسيحية وكتابها من ذلك الرئيس اللاطم، وحينئذ يرى الله والناس أننا نحن الصغار المساكين إنما نحن الرؤساء الحقيقيون بالفعل؛ إذ في نفوسنا قوة الرئاسة التي هي قوة المبادئ والعمل بها، على حين أنه لا يكون من الرئاسة لذلك الأسقف الرئيس وأمثاله غير ملابسها المزخرفة.
أجل يا بني، إنني لا أرى في تلك الصغائر ما يمنعك من الخدمة؛ لأنني أهمل إساءات الناس وأعتبرها كأنها غير موجودة، ولكنك هنا تسألني ولا شك، إذن أنت تشير علي بالإقدام على الخدمة، ونبذ الهواجس من نفسي؟
يا ولدي العزيز، هنا وصلت إلى موقف صعب، أنا فيه بين نارين؛ فمن جهة يعز علي أن أجهر بما في ضميري لأنه مؤلم، ومن جهة أخرى يعز علي أن أكذب وأخادعك، ولكن الحقيقة هي عندي يا بني أثمن من كل شيء، ولذلك أنا أصرح لك بها.
نعم، إنني لا أخشى عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم، فإن نفسك القوية لا تبالي بهم؛ لأنك لا تخدمهم، وإنما تخدم الناس تحت رئاستهم، وإنما أخاف عليك شيئا آخر.
أنظرت يا بني تينك الإنسانيتين اللتين التقتا بعد الفراغ من القداس أمام باب الكنيسة؟ هناك رأيت ولا شك إنسانية سعيدة وإنسانية تعيسة؛ هناك بشر يلبسون الحرير والديباج، ويتحلون بالجواهر، ويسكنون القصور، ويشربون الخمور، ويحشون بطونهم حتى حيواناتهم بكل ما في الأرض من أطايب وملاذ، وهناك إنسانية أخرى تعيسة شقية تطلب خبزا لتأكل فلا تجد فتنام على الطوى بلا أكل، وتطلب ملجأ تأوي إليه فلا تجد فترقد على تراب الأسواق والشوارع تحت قبة السماء، وتسأل ثوبا يقيها البرد ويستر أجسامها الهزيلة الصفراء من المرض والحاجة فلا تجد أيضا فتعيش عارية الأجسام كالحيوانات. يا بني، هنا أعيد عليك قولي السابق: إنني لا أخاف عليك من إساءات الرؤساء وظلمهم إذا صرت خادما للأرواح: وإنما أخاف عليك من الله والناس أن تمد يدك يوما إلى تلك الإنسانية السعيدة وتباركها فتبارك بذلك الظلم الاجتماعي الذي يسبب هذا الفساد.
أجل يا بني، إننا عدنا إلى الحالة التي حاربها المسيح منذ ستمائة سنة، وبذل دمه لهدمها. إنه جاء ليعلمنا الرفق والمحبة والمساواة، ويجعل الجميع إخوة. مبطلا قسمة الناس إلى قسمين: أسياد، وعبيد. كبار، وصغار. أغنياء، وفقراء. أقوياء، وضعفاء: وهو ذا نحن اليوم كما كان اليهود لما صلبوه. - إنه جاء لمحاربة الفريسيين الذين يعرضون أكمامهم، ويشمخون بأنوفهم، ويحبون المتكئات الأولى في المجامع، وأن يناديهم الناس سيدي سيدي، ويتخذون وظيفتهم الكهنوتية آلة لكسب المال من الأغنياء والأقوياء مهملين الفقراء والضعفاء؛ إذ لا يرجى منهم نفع ولا ربح: وهو ذا الفريسيون عائشون في هذا العصر أيضا ولم ينقرضوا بانقراض أولئك. - إنه جاء لمحاربة الدين الذي يدعم بالمصلحة والمادة وعبادة المحسوسات، وصرع رجاله المرائين الذي يصلون بشفاههم صلاة لا تصدقها قلوبهم، ومقاومة جعل الكنيسة إدارة واسعة فيها رئاسة ضاغطة وكهنة خصوصيون يرتزقون من وظيفتهم؛ لأن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، ومعارضة الذين يقيدون الله بالهياكل فلا يعتبرون الصلاة في غيرها صلاة حقيقية: وها نحن يا بني نكاد نعود إلى هذه كلها، ولو عاد الآن السيد المسيح الذي لبسنا من حبنا له هذا الثوب الأسود المتعب لاضطر أن يصلب نفسه على يدهم مرة أخرى للدفاع عن المبادئ التي دافع عنها في المرة الأولى.
صفحه نامشخص