فأظهرت أستير الدهشة، وقال: أنا أبكي؟ معاذ الله، وإنما تهيجت عيناي مما أصابني، ثم تنهدت وقالت: أف أف فلقد كنت متوقعة ذلك منذ الصباح. فإني انتبهت من النوم ورأسي مثقل وصدري ضيق. فلعل ذلك من عدم تعودي الرقاد في خيام العرب في ليالي البرد.
فعجب إيليا حينئذ من أنفة أستير ورشاقة حيلتها في نسبة علتها إلى غير سببها، وكان أبوها يسمع كلامها من وراء باب الغرفة فسر بجوابها الدال على عزة نفسها. أما أمها فكانت بجانبها تنظر شزرا إلى ذلك الشاب المسيحي.
غير أن إيليا رأى أن كتمان الداء لا يشفيه؛ بل ربما زاده استفحالا، فعزم على مصادمته وجها لوجه. فانحنى نحو أستير، وقال: هل تستاء فتاة عاقلة مثلك من كلام رجل معتوه كأرميا؟ فهنا غضت أستير من نظرها وترقرق الدمع في عينيها. فقال إيليا: فلو كنت مكانك لضحكت من كلامه بدل أن أتأثر به. فإنه مجنون ولا عتب على المجانين، وإذا شئت برهانا على كذبه فإنني أقول لك: إنه جاءني اليوم بعد الظهر، واعتذر مني عن كذبه وافترائه، وهو حاضر خارجا يشهد على ذلك. هل تريدين أن أدعوه لك؟
فلم رأت أستير أن إيليا دخل في الموضوع الذي كرهت الدخول فيه صيانة لكرامتها وشرفها تحول لونها بغتة من الاصفرار إلى الاحمرار، وبدت الدموع في عينيها، وإذ رأى إيليا أنها لم تجاوب عن سؤاله، وكان يعلم أن السكوت في معرض الحاجة بيان نادى بأعلى صوته - أرميا أرميا. ادخل بأمر السيدة أستير.
وكان أرميا قد سمع من وراء الباب حديث إيليا مع أستير، وكلما كان إيليا يذكر عن أرميا أنه معتوه أو مجنون كان أرميا يحرق الأرم ويعض شفتيه من الحنق، ويثور كالجمل قائلا في نفسه - لقد سمحت له أن يأخذها، ولكني لم أسمح له أن يهينني لديها. فلما سمع صوت إيليا يناديه دخل ونزق الجنون في عينيه، ولكنه ما وقع عليه نظر أستير من وراء طرفها الكسير حتى تحول نزقه إلى هدوء. فأحنى عنقه أمام إيليا كالأولاد، وقال: ماذا يا كيريه إيليا؟
فقال إيليا: يا أرميا أما جئتني اليوم، واعتذرت إلي عما فرط منك؟ فقال أرميا: نعم، يا كيريه إيليا. فقال إيليا: أما ذكرت لي أيضا أنك لما كذبت كذبتك على مسمع من السيدة أستير كنت مضطرب العقل. فتردد أرميا في الجواب، ثم قال: نعم نعم قد قلت لك ذلك، وأنت قلت لي إنك ... فهنا خاف إيليا من فلتات أرميا فقطع كلامه قائلا: أنا لا أسألك عما قلت لك؛ بل أسأل عما قلت لي. فاخرج الآن مشكورا على إخلاصك.
فأحنى أرميا المسكين عنقه أيضا، وخرج طائعا كولد صغير، وبهذه الكذبة وهذه الطاعة في حال كهذه الحال لغرض كالغرض الذي اتفق عليه مع إيليا محا أرميا كل خشونته السابقة، وأظهر أن نفسه نفس رجل كريم؛ بل إنه بهذا الأمر الذي أنكر فيه ذاته إلى هذا الحد ارتقى بجنونه إلى ما فوق العقل، وفاق حبه حب إيليا.
أما أستير فإنها كانت في أثناء ذلك ساكنة هادئة لا تظهر على وجهها دلائل الرضى ولا دلائل السخط، وقد ظن إيليا أنه أقنعها بهذه البراهين، وزاد عليها أنه ذكر لها سببا سياسيا لرحيله بسرعة من معسكر العرب كنصيحة عمرو بن معدي كرب، ودعوة البطريرك له، فضلا عن اتباع ما ذكرته له في كتابها، ولكن أستير كانت تفكر في شيء آخر.
وفي ذلك المساء تعشى إيليا في الفندق وتعشت أستير براحة، وبعد العشاء خرج إيليا إلى الحديقة مسرورا بأن أستير أخذت تتقدم من الصحة، فوجد في الحديقة أرميا جالسا إلى مقعد بعيد وهو حزين يتأمل ورأسه بين يديه. فعاد إيليا من حيث أتى اجتنابا لملقى أرميا، ولما علم أن أستير نامت مستريحة بعد العشاء اطمأن باله فطلب فرسه ليعود إلى القدس على أن يعود في الغد، وقبل رحيله اختلى بأبي أستير، وحادثه بما حادثه بشأن الرق السري، ثم ركب وعاد إلى القدس.
ولم يكد إيليا يصل إلى منتصف الطريق حتى لقي شرذمة من أمراء العرب قادمين إلى بيت لحم مع الإمام عمر؛ لأنه رام مشاهدة المكان الذي ولد فيه المسيح كما شاهد قبره ومصعده. فاستأذن إيليا الإمام بإتمام سيره ليعود إلى البطريرك بمهمة أرسله فيها، فأذن الإمام له.
صفحه نامشخص