ولم يكن هذا الأحمد من بين الثلاثة، فرن اسمه في أذني رنين الاسم الغريب، الذي لم تتعود على سماعه، وخجلت أن أستقصي أكثر؛ فلا بد أنه يعرفني ويتوقع مني أني لا بد أعرفه. ورحت أسأله كما يحدث في أمثال هذه الأحوال عن الصحة والمزاج والعائلة؛ حتى أظفر من ردوده بخيط يقودني إلى معرفته، دون أن أحرجه أو أحرج نفسي!
ورغم أنه مضى يجاوبني بنفس الكلمات، التي تعود الناس قولها ردا على أسئلة كأسئلتي، إلا أني دهشت؛ فصوته كان مملوءا بالانفعال يكاد يلهث، وكان يستعجل السؤال والإجابة، كأنما هناك شيء يؤرقه ويود الإفضاء به إلي، وسمعت منه كلمات عن «مصر الجديدة» و«كتيبتنا» و«المعسكر» ولكني لم أفهم. وسألني مرة إن كنت حقا أذكره، ومع ذلك لم أعرفه إلا حين سألني عن أخي محمد وصحته؛ إذ أيقنت أنه لا بد أحمد عمر، ابن جارنا عم عمر؛ أحمد صديق أخي الأصغر الحميم.
واندفعت أرحب به وأحييه، وقد بدت صورته أمامي واضحة كل الوضوح، فرغم أن عم عمر كهل نحيف، إلا أن ابنه أحمد هذا شاب ضخم، وإذا عرف الإنسان أن سنه عشرون عاما فقط بدا له ضخما جدا؛ فجسده عريض شاهق، وذقنه خصيب غزير، شعره أسود متين كذقون الرجال الكبار، ومع هذا فقد كان من ذلك الصنف من الشبان، الذين يخجلون من مواجهة محدثهم، فلا ينظرون في وجهه أبدا، وتجده إذا تكلم يتعثر في كلماته، فلا تخرج من فمه جملة كاملة، وأحيانا يقول الكلمة ويظنها نكتة وينفجر ضاحكا، وحين يدرك أن أحدا لا يشاركه الضحك، يصطبغ وجهه بلون الدم، ورغم كل شيء فالناس لا بد أن تقول بعدما يذهب: والله باين عليه ابن حلال، طيب.
وكانت صلتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع لست أدري، وأخذ الدبلوم أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري.
وأغرب شيء أنك تحس دائما، أنه ملآن ولديه آلاف الأشياء التي يود قولها، غير أنه نادرا ما يفصح عن نفسه، وإذا تكلم فلا يقول شيئا من عنده، إنما يعبث بكلمات غيره، فتقول له مثلا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكته! ويضحك ويخجل، ويحمر وجهه، كان لا يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخ الأكبر لصديقه، وأحيانا كانت تفلت من لسانه كلمة تستحق التأمل، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه ليس بسيطا كما يبدو، وأن له أعماقا.
وكان إذا جاء لزيارتنا وفتح له الباب، خفض رأسه وسأل عن أخي، فإذا كان موجودا، دلف إلى حيث يكون مطرق الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفت، وكنت أحيانا ألقاه فأحادثه وأحس به شهما خدوما؛ لو قلت له: ارم نفسك في البحر مثلا، لذهب ورمى نفسه في البحر فعلا، ثم عاد إليك في ثاني يوم مبتل الملابس، يقطر الماء من شعره، ويقطر الخجل من وجهه ويتهته ويقول: أما المية كانت ساقعة بشكل!
يقولها قاصدا بها أن يلومك ويؤنبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنب به أحدا!
ولم نكن أصدقاء بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنت لا أراه على حالة واحدة أبدا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدث له أو حدث فيه تغيير؛ فهو في لقاء طالب، وفي لقاء آخر متخرج، وفي ثالث ساخط يبحث عن عمل، ومرة أراه صغيرا لم تنبت له لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرعني طولا! جاء مرة لزيارتنا بملابس الجيش، وفوجئنا به حقا، وأذكر أننا يومها سلخناه عبثا وتريقة، نقول له: يا دفعة، ونضحك على شعره القصير، الذي قصه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لم ربى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل ايه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري!
ويمضي يحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير المبكرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يدربهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى متعلما من أمثال أحمد حتى ينهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف «يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ويتنحنح ليشعرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة!
وأذكر أنه في زيارة أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألته وأنا أسخر من العبقرية التي هبطت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد أنهم يعلمون النيشان في الجيش على علامات ثابتة، ثم يمتحنونهم على علامات متحركة؛ ولهذا فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يضرب بسرعة ويصيب، وبلغ به الحماس مداه، وبلغت بي السخرية مداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة، التي يعلمون بها الجيش غير مجدية، وأن أهم شيء في الدنيا، هو أن يتعود الإنسان أن ينشن على هدف متحرك.
صفحه نامشخص