وأوضع من جديد تحت شقي الرحى، ولكن أي رحى؟! أية غرفة تلك التي أنا فيها؟! حين تخرجت في كلية الطب، كانت الآلة الهندسية الوحيدة التي نعرفها هي جهاز أشعة إكس، وجهاز إصدار الأشعة فوق البنفسجية. ما أراه طب مختلف تماما، وفرع جديد اسمه الهندسة الطبية، يتطور بسرعة الصاروخ، ليبتكر كل يوم اختراعا لم يتصوره أحد من قبل. آخرها؛ ها هو موجود بالغرفة أمامه، أو تمد له يدك فيعطيك في الحال اسم ونوع ووزن كل عنصر داخل في تركيبك، ويصدر إشارات كسيرينة الإسعاف أو بوليس النجدة، لدى كل عنصر فيه نقص أو دون المستوى المعتاد، وكل هذا حدث في أقل من ربع قرن.
شقا الرحى اللذان كمنت بينهما؛ أحدهما ثابت وهو الراقد أنا فوقه، والآخر متحرك حركة رائحة غادية، كحركة نقاش يطلي الجسم بشيء غير منظور، يسمونها طريقة المسح؛ مسح الرئة، مسح الكبد، في الواقع مسح أي شيء أو عضو تريده، وأيضا ثبت من الفحص الثاني أن الرئة تتنفس، ولكن بغير نقطة دم! واستمرت المناقشات طويلة ومليئة بتغييرات، كالأجهزة لم تكن في الخمسينات نستخدمها، بل لم نكن نعرفها.
ولكن آلات ما آلات! تشخيصات ما تشخيصات! احتمالات أسوأ احتمالات! لقد عرفت أنا مرضي أو بالأصح حالتي، نعم، أعرفه الآن تماما.
وأنا متأكد منه؛ الموت! زاحفا خفيا، حتى بغير قفاز حياء، أو تشخيص، فما الحل؟
على مر عشرات ومئات ملايين السنين، أصبح الشغل جزءا من التكوين العضوي للإنسان، صحيح أنه ليس عضوا كسائر أعضائه، ولا يرى لا بالميكروسكوب ولا بالعين المجردة، ولكنه موجود، إشعاعات من الموجات تنطلق من أجزاء جسمه، وتشكل هالة موجية من الموجات الحية، باعتبار أن الحياة في أعلى صورها، هي أرقى وأدق وأعقد أشكال الوجود المادي الموجي، رغم أنها مثل كل الموجات والتموجات، تلك التي تشكل صلب الوجود وقدرته على التبدل والتغير والتفاعل، مثلها مثلهن؛ لا ترى بالعين المجردة ولا بالميكروسكوبات الإلكترونية، ولا بأي صورة ممكن أن يتفتق عنها العقل البشري في المستقبل! إننا فقط نفترض أنها موجودات، ونفترض أنها من مادة ما، ولكن المؤكد أنها موجودة، مؤكد موجودة، وإلا لما كان الوجود.
هذه الموجات المحيطة - موجات التنبؤ والاتصال والربط العضوي الكامل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والنبات، وذرات الرمال في الصحراء وماء المحيطات، وأقصى مجرة من المجرات - هي التي تحرك الإنسان، أي: تحرك زميلاتها موجات الداخل، وتعطي إنسانا مثلك اتجاه وحكمة ورؤية وضرورة أن تتخذ الحركة إيقاعا يؤدى، وفي أنماطه العليا يبتكر ما نسميه بالعمل. ويستوي في هذا أينشتين وأجهل فلاح في بلدنا، وكما يخصص ويركز ويضيف أينشتين، والذي هو في وجوده أول الأمر نقطة التقاء وتفاعل للموجات، أعطته القدرة القصوى على تصور الكون على هيئة معادلات وحل تلك المعادلات، وبالفعل أثبت أن المعادلات التي ابتكرها، تنسجم تماما مع قوانين الموجات، وتجعله يتحكم لأول مرة في الموجات، وكانت القنبلة الذرية والانشطارات، كذلك هي في فلاح بلدنا قدرة خارقة على الانحناء، ربما لأكثر من عشر ساعات، وهو ما لا يستطيعه أينشتين، ولكل منا محيطه الخارجي من موجات، الجزء الأكبر الذي ينظمه هو العمل الملائم لموجاتنا الداخلية، بحيث متى تم التوافق العزفي بين نحن من الداخل ونحن في الخارج، نحن إنتاجا وإبداعا وجمادات، دخل الكائن دورة الكون رائعا عظيما ومنسجما، وأرضى عنه الله والوالدين والإخوة والأصدقاء، والناس.
وما انسحاب الحياة وتضاؤل اتصالاتها، ثم أخيرا موتها، سوى الخلل الحادث بين دائرة الداخل ودائرة الخارج؛ ولهذا يموت فورا بعض الذين يحالون إلى المعاش، ومن بقي منهم حيا لا بد أن لديه بديلا لموجة العمل، واتصالا آخر بالوجود والموجودات.
باختصار لا سفسطة فيه ولا نظريات، حين قررت ألا أكتب، بينما موجاتي كانت قد رتبت نفسها لأكثر من ثلاثين عاما، على العمل الكاتب وتحويل الفكرة المختلطة بالوجدان، وبالذاكرة الجماعية النشطة الاتصال، بالعدد الهائل من نقاط الالتقاء والبشر؛ اتصال كامل ذي اتجاهين، حين قررت التوقف خبت تلك الموجات، وبدأت تخمد في جذوة الحياة، وأفضل المشي على الجري، ثم الجلوس على المشي، ثم الرقاد على الجلوس، ثم السكون التام عن الحياة، كان في حقيقة الأمر نوعا غريبا مبتكرا من الانتحار؛ توقفا عن العمل، مثلي مثل أي خلية في المخ أو الكبد، أو حتى الجلد، تقرر عدم القيام بوظيفتها، فلا ترسل الأنزيمات ولا تستقبل، وتنقطع الصلة بينها وبين العضو التي تنتمي إليه، ثم بينها وبين جسد الوجود الأعلى «الإنسان»، والنتيجة حتما أن تموت.
ولقد حاولت الخلية - والشهادة لله أنها كانت محاولات بطلة - أن تستبدل عملا بعمل، وتتسرب من حيث الكبد مثلا إلى الجارة المعدة، وتصبح خلية جوع وشبع، التهام طعام ومضغ فقط، والنتيجة كانت الكف عن وظيفة الحياة نفسها، فخلية الكبد لا تهضم ولا تستطيع أن تواجه حامض المعدة، بل وتهلك حتما إذا وقفت وظيفيا حائلا بين جارتها الكبدية تلك والخلية الأخرى. القانون سادر، ولا بد أن يظل سادرا، وأنا لا خلقت تخصصي أو اختياري، ولا أستطيع أن أغير نوعيا أو عضويا نفسي، كل ما أستطيعه أن أعمل في اتجاهي بكل موجاتي، وأن أوسع دائرة الوجود من حولي؛ دائرة وجودي، وليس ضروريا أن أجيب الديب من ديله، أو أبني هرما رابعا! لعل السر الذي خلقني، كائن في أني ذات يوم سأقول كلمة تصل إلى إنسان ما في مكان ما، وتلتحم موجتي على شكل الكلمة بموجاته، التحاما ينشط آلاف وملايين ومليارات الموجات، ويتفجر الشيء الذي لم يكن قد خطر على قلب البشر، فأنا قطعا موجود بوظيفة ولأداء وظيفة، وكوني قلت لا مجرد تمرد كخبط الرأس في الحائط، يكفي أنه أوصلني - وأنا على حافة أن أموت سكوتا - أن أكتشف أن سر الوجود هو الحركة، وسر وجودي الشخصي أن أتحرك، وبمطلق وبمنتهى وبأعظم ما أستطيع، أطلق الموجات تلو الموجات، وأستقبل الموجات تلو الموجات، وأنا أخبط رأسي ليس في الحائط هذه المرة، ولكن بكفي نافضا عن نفسي كل ما اخترعته تلك النفس؛ لتحتج على سوء توزيع دورها سكوتا؛ فهذا هو بالضبط طريق الموت.
والموت ليس ضروريا أن يكون صاعقا مفاجئا كالذبحة، إنه كأضرار التدخين أضعفها وأوهنها، وبريء تماما براءتها، أو هكذا يبدو! إنه الموت الأخطر والأبشع، الموت حياة كحياة الموتى، الموت سكونا وسكوتا وصامتا، الموت تمردا وقتيا عالي الضجيج؛ فشديد الضجة يصم كشديد السكون، الحياة! ليس مجردها وإنما خلقها خلقا، ويوميا خلقها خلقا، تعدي الآخرين بها، تنشرها كالوباء صحة، تبثها موجات إثر موجات؛ موجات صحيحة كالجنين الجميل القابل للتشكيل حسبما تريد. الحياة سامية شامخة بشرف، وبلا مساومة أو إزعاج ضمير، الحياة الحلوة حقا ليس دفعا بالأكتاف، ولا عدوانا على الآخرين، ولا استغلالا لحاجتهم. ما أروع أن تصحو من نومك اليوم، وتختار أي عمل طيب بسيط تفعله، حتى لو كان زيارة لسرير مريض مجهول، لا أمل له ولا أهل، إذا كنت فقيرا أعطه كلمة طيبة وبرتقالة، وإذا كنت غنيا وقادرا ابن له مستشفى. •••
صفحه نامشخص