يحكى والله تعالى أعلم، أن بعض الملوك الفرس خرج يومًا يريد الفرجة، واللعب على الخيل، فجاء إلى نهر، وعليه أشجار محدقة، وكان ذلك المكان من أنزه الأماكن، فنصبت فيه الخيام، وأتي بالطعام وسائر ما يحتاج إليه من ملاذ، فبينما هو كذلك إذ نظر إلى طائر قد أقبل وحوله الطيور تطير لمطاره وتهج عند اقترابه، وتشيعه من بعيد إلى أن أقبل إلى بعض الشجر، فقعد في باطن الشجرة فتفرق ما كان حول ذلك المكان من الطيور وفروا هاربين، فقعد قعود الملك إلى أن استغفل طائرًا فكسره ثم حمله إلى تحت بعض الشجر بحيث استتر، وجلس عليه ينتفه إلى أن لم يدع على ذلك الطائر من الريش شيئًا ثم أكل من كفايته، وتقدم بعد ذلك، إلى النهر فنزل وسبح فيه وشرب وطار وجلس إلى غصن من أغصان تلك الشجرة، فلما كان آخر النهار فعل كذلك.
فقال الملك لأرباب دولته: (لقد كانت مملكتي ناقصة)، فرأيت من هذا الطائر ما حير عقلي من عظم رياسته، وإن الطير تخافه، وتجلس بعيدًا عنه وهو لا يخافهم، وهم يخافوه.
ورأيت من شدة احتمله، وكبر نفسه وطول صبره وجلالة قدره، وإذا قعد فتش، وإذا ذرق أبعد وإذا انتفض أرعد، وإذا قبض شدد، الرياسة تشهد له. ثم قال: أريد التحيل في تحصيله فلم يزالوا به إلى أن قبضوا عليه وأتوا به إلى الملك، ففرح به فرحًا شديدًا، ثم أمر أن يشد ويجعل بين يديه ففعلوا به ذلك فلم يقر ولم يهدأ. فقال الملك: زال طربه وكثر شغبه، فمن يداري هذا، فأقبل بعض الحكماء ينظر إليه ورأى أنه كان إذا فتح عينيه خاف وإن أغمض عينيه أمن. ورأى انطباق عينيه بعضها على بعض كأنها مخيطة.
فقال الحكيم: لو خيطت هذه كما يفعل لما كان يخاف، ففعل به ذلك فآمن وقعد، ولم يزل بين يدي الملك ينظر إليه إلى أن انفتحت عينيه لنفسه وأمن مما كان يخاف.
فقال: هذا ملك الطير، قال، وعرف بذلك جميع البزاة ومعادنها، فحينئذٍ فحصت الحكماء في الأخبار والتواريخ، فوجدت اسم الباز، إنه طائر يصيد ويفرض ٣٧ بفقالوا لا يمكن أن يكون الباز المذكور إلا هذا، وأمر الملك أن يحمل إليه كل طير يصيد مثل ذلك الجنس وغيره حتى يحصل ذلك الجنس، قيل: وحسن أمر ذلك الملك وسلطانه بما نظر من ذلك الباز بعدما كان شديد البطش، قليل الحرمة بين جنده.
ثم قال الملك: إن هذا الطائر علمني كيفية المملكة، وكيفية السخط والرضى ولزوم الحرمة، والاستتار من أوباش الناس، وغضّ الرف لدوام لهيبة ودوام الصمت للخديعة، ولكثرة العقل لقطع الشنعة والسرعة في البطش لتخويف الأعداء، وطول الأكل للاستمراء وتصغير اللقم للأمن من العض، وتشمير الثوب للنظافة، ولقد جمع هذا الطائر جميع الأدب بالعقل الكامل.
وذكر حكماء الروم، أو أول من لعب بالبازي الروم.
قال محمد بن منكلي: والذي يترجح، والله أعلم، أن أول من لعب بالبازي العجم، وقصة حكماء لروم لم أجد لها دليلًا قطعيًا، ولم تترجح في مخيلتي، فلم أذكرها إذ لا فائدة من ذكرها.
وقد اختلف في زمان وقعته على صيده إذا كسر، وزمان وقعة الفهد إذا وثب أيهما أسرع. وزعم بعض العلماء أنهما أسرع من السهم في ذلك لأن هذين يتحركان في حالتيهما حركة روحانية متلازمة، والسهم ليس كذلك.
وزعم حكيم أن كسرى أنوشروان أتي بباز قد انكسر جناحه، فوضع بين يديه فنظر إليه طويلًا ثم قال للذي جاء به: لم كسرت جناحه، فقال: هو كسر جناحه أيها الملك.
فقال: إنه نزل على طائر أكبر منه فعالجه وقتله، فأقبلت إليه لآخذ منه الطائر، فرأيته مكسور الجناح.
قال: فكيف رأيت طيرانه.
قال: إذا علا صفّ، وإذا نزل دف، وإذا ضرب رفّ، وإذا وثب ذرق، وإذا عاين سرق، فقال: هذا جبار لا يبقى إذا قدر، ولا يؤمن إذا اشتهر.
ثم سلمه إلى ولده داد بن كسرى، فكان يلعب به، وبسائر الأجناس من الطيور.
وهو الذي سميت بغداد ببغداد، معناها في لغة العجم، بغ يراد بها البستان، وكان اسم ابن كسرى داد، وكانت الزوراء بستانًا، قدر الله ﷾ بعمارة المكان فسميت بغداد ويقال ذاذ بذالين معجمتين وبالعكس، ويقال أن الأولى معجمة والثانية مهملة وبالعكس.
1 / 37