فكانت أعصرُ ركب الناس فيها كل صعب وذلول، كما قال عبد الله بن عباس ﵁. ووجد أهل الأهواء، والنزاعات، ودُعاة الدول، والأحزاب في تلك الكثرة والسعة مخابئ دسُّوا فيها مفترياتهم، أو آثار غفلاتهم، فلا جرم أن أصبحت الأمة في حاجة إلى ضبط الصحيح من آثار رسولها ﷺ وأصحابه. وكان أهل المدينة أحق الناس بذلك الضبط، فإنها مازالت يومئذٍ عاضَّة على السن بنواجذها، مقتفية هدي رسول الله ﷺ وخلفائه وخاصةً أصحابه.
ولم يكن الوضاعون والمدلسون بالذين تنفق بالمدينة خزعبلاتهم، ولا تروج ترهاتهم؛ إذ كانت المدينة مكتظَّة بأهل العلم والأثر، هجيراهم الرواية، والتحديث، ودراسة العلم، وديدنهم التمسك بالحق الصريح، فلو رمى أحد الوضاعين بين ظهرانيهم بحصاة لتَفوهُ، فإن المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طِيبها.
وقد خلص علم فقهاء المدينة إلى مالك بن أنس ﵀ وكانت زكانة رأيه، وصلابة دينه، وقوة نقده، قد هيأت له بتوفيق الله تعالى ذلك المقام الجليل، مقام الضبط، والتصحيح، والتحرير، حتى أيقنَّا أنه الذي بعثه الله على رأس المائة الثانية، مُجددًا للأمة أمر دينها، وماهيك بمثل هذا الأمر من الدين. فقد قال رسول الله ﷺ: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». قال ذلك في