ولكن لا بد لي أن أنهي القصة، فكل شيء له نهاية، لكن نقطة النهاية في هذه القصة لا أستطيع تحديدها، فالنهاية لا تنتهي بنقطة محددة، لأن النهاية في حقيقة الأمر غير موجودة، أو أن النهاية والبداية تتصلان في خيط واحد دائري من الصعب تحديد أوله من آخره.
ومن هنا الصعوبة في إنهاء شيء، وبالأخص إذا كان قصة حقيقية، أي قصة صادقة كل الصدق، دقيقة غاية الدقة، والدقة تقتضي من الكاتب أو الكاتبة أن يراعي كل حرف، وألا يهمل أي نقطة. إن نقطة واحدة قد تقلب كيان معنى من المعاني، وبالذات في اللغة العربية، الذكر قد يصبح أنثى بسبب نقطة أو شرطة، والبعل يصبح بغلا، والوعد وغدا، وهكذا.
ومن هنا أهمية النقطة الدقيقة المحددة؛ أي النقطة الهندسية، وبمعنى آخر، لا بد من دقة علمية في العمل الفني الجيد، لكن العلم يفسد الفن، وهذا الإفساد هو بالضبط ما أردته في هذه القصة لتصبح جيدة، أو لتصبح حقيقية وصادقة صدق الحياة الحية؛ لأن الحياة قد تكون ميتة في بعض الأحيان، كالإنسان الذي يمشي على الأرض دون أن يعرق، أو دون أن يبول، أو دون أن ينبعث من جسده شيء فاسد، لا يمكن للإنسان الحي أن يحبس فساده في داخله، وإلا مات، وأصبح وجهه أبيض ناصع البياض، وجوفه عفنا عفونة الموت.
خيل إلي (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة)، أن طفلا من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة، كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل عن الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجا بشعلة كالشهب قبل أن يحترق.
وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه، لم يكن طفلا ذكرا، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى، فوجوه الأطفال كوجوه العجائز ليس لها جنس.
الوجه (للغرابة الشديدة) لم يكن غريبا علي، كان مألوفا بدرجة أثارت دهشتي إلى حد عدم التصديق، فليس من المعقول أن يخرج الإنسان من بيته في الصباح ذاهبا إلى عمله، فإذا به يصطدم بشخص آخر، ما إن يرفع وجهه إليه حتى يراه وليس أي وجه آخر.
أعترف أن جسدي ارتج، نوع من الذعر شديد، يشل قدرة الإنسان على التفكير، ومع ذلك فكرت، لماذا يذعر الإنسان حينما يرى وجهه وجها لوجه؟ ربما هي الغرابة الشديدة، أو ربما هي الألفة الشديدة، حينئذ يختلط على الإنسان كل شيء، وتصبح الأشياء المتناقضة متشابهة إلى حد التماثل، فالأسود يصبح أبيض، والأبيض أسود، ومعنى ذلك أن يواجه الإنسان بعينيه المفتوحتين حقيقة أنه أعمى.
صفحه نامشخص