فقال أوديسيوس: «ألا تصدق! إذن فانظر إلى الندوب الخالدة التي أحدثها في ساقي خنزير الفلاة إذ أنا حدث، يا أبي، ألا تذكر يوم كنا على جبل برناسوس، وكان جدي أوتوليكوس معنا ثمة، وكان يتحفني بالهدايا واللهي؟ وهاك دليلا آخر يوم مشيت معك في هذه الحديقة، ورجوتك أن تجعل بعض هذه الأشجار باسمي، فمشيت معك، ورحت أنت تسميها لي بأسمائها، فجعلت لي ثلاث عشرة كمثراة، وعشر تفاحات، وثلاثين تينة، وخمسين صفا من الكروم الناضرة التي كان يزرع القمح بين عرائشها والتي كانت تتدلى منها العناقيد من كل لون.»
وانجاب الشك عن فؤاد ليرتيس، فأخذ ولده بين ذراعيه المرتجفتين، وراح يضمه ويقبله، ويصعد في صدره الرحب القوي أنفاسه، حتى إذا وهنت قواه أرسله، وأخذ يحدثه فيقول: «يا للآلهة! يا أرباب السموات الخالدة في شعاف الأولمب! هكذا قضيت آخر الأمر أن ينصب جام غضبك وحمم نقمتك على هؤلاء الكفرة الفجرة، ولكن لشد ما أخشى أن يتألب الجمهور علينا فيهرعوا إلى هنا، ويطلبوا ثأر ذويهم!»
فتبسم أوديسيوس وقال له يطمئنه: «لا عليك يا أبي! هلم الآن فلنذهب إلى بيتك الجميل، فلقد أرسلت تليماك ثمة ومعه الراعي ويومايوس الوفي؛ ليعدوا لنا طعاما سريعا خفيفا.»
فينوس وأدونيس.
وأعد الطعام، ومزجت الخمر، وذهبت الخادم العجوز فأعدت حماما لسيدها الشيخ، ثم ضمخته وأضفت عليه ملابس نظيفة، وتنزلت مينرفا الكريمة فمشت بيديها الإلهيتين على جسم ليرتس، فتدفق الشباب في عروقه، وعاد إليه رواؤه وحسن سمته، فلما خرج من الحمام تعجب أوديسيوس وقال له: «تالله يا أبت إني لا أشك في أن بعض الآلهة قد رد إليك صباك، وخلع عليك بردة الشباب من جديد.»
ولم يكن عجب ليرتيس بأقل من عجب ولده؛ «تعاليت يا جوف، وتقدست يا مينرفا، وسما جدك يا أبوللو! لقد كسوتموني نضرة الشباب التي كانت لي يوم ملكت مدينة نريكوس بمعونة السيفالينيين الشجعان، أواه لو قدر لي أن أقف إلى جنبك أمس يا بني؛ ليكون لي شرف مجالدة الأوغاد الذين قتلت، إذن لحظيت بكوكبة منهم أضرج أديم الأرض بدمائها، فأشفي منهم حردا في صدري، وغلا في حشاشتي.»
وأكلوا هنيئا وشربوا مريئا، ثم جلسوا على الأرائك متقابلين، وكانت الخادمة العجوز قد انطلقت إلى المزارع، فدعت كبير الفلاحين دوليوس، فأقبل في رجاله الذين كدهم العمل وأنهكتهم المثابرة، فلما رأوا ما ارتد إلى سيدهم من شبابه، وهذا الرجل الغريب الذي يجلس بين العائلة المقدسة وقفوا مسبوهين مشدوهين لا يعرفون ماذا يقولون، وحدجهم أوديسيوس، ثم بدأ يكلمهم في لطف وخبث ويقول: «اجلس أيها العجوز دوليوس، فكل أنت ورجالك؛ فليس ثمة متسع لدهش أو عجب. اجلس قبل كل شيء، فاملأ بطنك وبطون رجالك، لقد انتظرناكم طويلا، لكنكم استأنيتم!» ولكن سرعان ما عرف دوليوس مولاه حين سمع صوته فأقبل عليه، وتناول يديه، وطفق يغمرهما بالقبل الباكية ويقول: «أوه يا مولاي! هكذا والله تستجيب السماء، لقد طالما جأرنا، ولقد طالما دعونا، فلها الثناء إذ ردتك إلينا! واسلم وسر وابتهج، ولكن، هل علمت الملكة بقدوم مولاي؟ ألا ننطلق من فورنا فنزف إليها البشرى؟»
وطمأنه أوديسيوس، فجلس الرجل مبتهجا مسرورا، وجلس أبناؤه معه وأخذوا في أكلهم وشرابهم، وأخذ أوديسيوس يلاطفهم ويداعبهم. وهكذا عاد الحبور مرة أخرى إلى بيت ليرتيس. •••
وقرع آذان الناس في المدينة ما كان من قدوم أوديسيوس، وما حاق بالأمراء المعاميد من نكبة على يديه الجبارتين، فأهرعت جموعهم إلى قصره صاخبة ناعبة، ثم انطلقوا إلى حيث كدست أجساد القتلى، فحرق كل قتيله، وأرسلت جثث الغرباء إلى ذويهم في أوطانهم في سفن الصيادين من كل فج لتحرق ثمة، واجتمعوا بعد ليتشاوروا بينهم فيما ينبغي أن يكون، فنهض يوبيتيس والأسى يزلزل حوانجه، وأنشأ يقول: «أيها الرفاق، لقد كان هذا الرجل الطاغية حربا دائمة عليكم، فلم يصبكم منه إلا الشر، ولم تثمر لكم فعاله إلا الندامة؛ فلقد ساق شبابكم وخيرة أبطالكم إلى طروادة المشئومة حيث قتلوا أجمعين، وها هو ذا ينقلب إليكم اليوم، فيذبح ساداتكم وذوي الصولة فيكم ... فهلموا إذن، وروا رأيكم فيه قبل أن ينطلق إلى بيلوس فيطلب العون عليكم، وتصبحوا على ما قصرتم نادمين، إنا إن لم نثأر لضحايانا فأي عار يسمنا؟ وأي خزي يصمنا يا قوم؟ وأية حياة هذه التي تحيونها بعد ما حل بكم من هوان ومذلة؟ لخير لكم أن تذبحوا أنفسكم فترحلوا إلى هيدز مع أرواح قتلاكم، ولن تكونوا على ذلك من الآسفين.» ثم جلس وهو يتصدع من الحزن على صاحبه أتينوس الذي كان أول ضحايا أوديسيوس، وقام ميدون المنشد التاعس فقال: «أيها المواطنون، أعيروني آذانكم، تالله إن أوديسيوس لم يرم سهامه إذ رمى، ولكن بعض الآلهة كان يرسم له وينافح عنه ، ولقد رأيته بعيني هاتين في صورة منطور، ووالله ما هو منطور، ووالله لقد كان يمشي بين يديه ها هنا وها هنا، فيراع العشاق وتفزع قلوبهم ويسقط بعضهم فوق بعض، فتأخذهم سهام أوديسيوس، ويروي من دمائهم سيفه.» وما كاد يفرغ ميدون - وكان فيهم أمينا صادقا - حتى طارت ألوانهم وامتقعت وجوههم، ونظر بعضهم إلى بعض وادارءوا طويلا، ثم وقف هاليتير بطلهم القديم ابن مسطور، وكانت له دراية بكشف أستار الماضي والحاضر والمستقبل، فصعر خده وقال: «أيها الإخوان، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، تالله لقد طالما مهدتم للفتنة، وإنها لثمرة أنتم غارسو شجرتها، وأنتم اليوم جناتها! أتذكرون يوم رجوتكم فألحفت عليكم في الرجاء - أنا وصاحبي ميدون هذا - أن نذهب فنمنع القصر من شبابكم، ونصون عرض أوديسيوس من أبنائكم، ونصرفهم عن ولده وزوجه، ومتاع هذه الحياة الدنيا، فأبيتم أكبر الإباء، ورفضتم أقبح الرفض، وجعلتموها فتنة كنت أستعيذ بالآلهة منها؟! فعلام تغلي مراجل صدوركم يا قوم؟ وفيم ائتماركم بالرجل وقد ثأر لعرضه؟ ألا فاسمعوها كلمة مخلصة أسديها إليكم؛ الرأي ألا تذهبوا، وألا تجعلوها فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل اقعدوا ها هنا آمنين، ولا تكونوا كالذي سعى إلى حتفه بظلفه، وأبطأت عليه المنايا فسعى قدما إليها.» وما فرغ حتى زمجر القوم وتصايحوا به، وضجوا من كل مكان، ثم إنهم سمعوا إلى شيطان يوبيتيس، ففزعوا إلى أسلحتهم، وأسبغوا عليهم من دروعهم، وانطلقوا إلى المدينة، فنظموا فيها صفوفهم، وأقاموا يوبيتيس قائدا منحوسا عليهم، وما جعلوه كذلك إلا ليلقى حتفه بيد ليرتيس والد أوديسيوس، وتعجل روحه إلى النار.
ومضت مينرفا إلى سيد الأولمب، جوف العلي، فوقفت ببابه تقول: «أبتاه، أبن عن سريرتك، واكشف عن مكتوم قلبك ومكنون نفسك؛ هل يحل على هذه الفئة الظالمة غضبك، أو أنك مانحها محبتك، ومحصنها بحمايتك؟» فتبسم من قولها وأنشأ يجيب: «وفيم هذا التساؤل يا ابنتي؟ ألم تقدري أنت أن يعود أوديسيوس إلى وطنه فيذبح بيديه أولئك العتاة الطغاة، ويريح وجه الأرض من خباثاتهم؟ ليكن ما تشائين اصنعي ما بدا لك ، ولكن نصحي أمحضك إياه يا مينرفا؛ ما دام أوديسيوس قد ثأر لنفسه من أعدائه، فليكن السلام على الأرض، وليحل الأمان في ربوعها، وليتقاسم الملأ على الود والصفاء، وليحكم أوديسيوس بين الناس بالعدل، وعلينا نحن أن ننزع ما في صدورهم من غل فينسوا سخائمهم ويطرحوا ثاراتهم، ثم لتكن لهم من أنفسهم أمنة، ولتجر البركات عليهم أجمعين، وليصبحوا بحولنا أصفياء متحابين.»
صفحه نامشخص