وروع أنطونيوس وذهل عن أمره، ولم يشأ أن يخزي نفسه بأن يحاول كما حاول غيره، فوقف فقال: «ما أحسب القوس عنيدة ولا مستعصية كما تزعمون، ولكن اليوم يوم عيد أبوللو رب القوس العظيم، فأنى لنا أن نحمل قوسا اليوم، دعوها واتركوا الأهداف مكانها، فلن يجسر أحد أن يدخل بهو أوديسيوس فيمضي بها، وفي بكرة الغد يحضر ميلانتيوس من قطعانه عنزات سمانا فنضحي بها لأبوللو، ثم نتم محاولتنا.»
ولكن أوديسيوس هب من مجلسه فقال: «يا سادة ما دمتم لن تحاولوا الرماية اليوم، فأرجو أن تدفعوا إلي هذه القوس لأجرب أنا أيضا، ولأرى هل لا تزال بقية من منة الشباب مخبوءة في أعصابي أو أنها ذهبت بها جميعا متاعب الحياة وكثرة التجوال في أطراف الدنيا.» وجن جنون القوم لما قال أوديسيوس هذا، وعجبوا كيف يجسر شحاذ فقير مثله أن يطلب أن يشارك السادات في مباراتهم، ومن يدري؟ لعلهم ذعروا أن ينجح هذا الفقير فيما فشلوا هم فيه! قال أنطونيوس: «اخزن عليك لسانك أيها السليط الوقح، ألا يكفيك أن يسمح لك بوجودك بين هؤلاء السادة الأخيار من أقيال البلاد حتى تطلب أن تباريهم؟» وكانت بنلوب تطلع فلم تحتمل أن يؤذى ضيف ولدها هكذا، فقالت: «أنطونيوس، أنى لك أن يؤذى تليماك في ضيفه؟ بل ينبغي أن يحاول الرجل كما حاولتم، فإما أنك تخشى أن يظفر فيما فشلتم فيه، فلا ضير! إنه لا جرم، ليس يحلم مثلكم بأن أكون زوجة له، فليفرخ روعك إذن ولتطمئنوا جميعا.» وقال يوريماخوس: «يا ابنة إيكاريوس، ما دار بخلدنا قط أن تكوني زوجة له إذا ظفر، ولكنا خشينا أن يفضحنا في الناس فيقول: «عجبا لسادات إيثاكا وما حولها، يطمعون أن يتزوج أحدهم امرأة البطل العظيم أوديسيوس، ثم لا يستطيعون رمي سهم عن قوسه، ويأتي رجل شحاذ فقير، فيثني القوس ويرمي السهم، وهم مع هذا لا يستحيون.» هذا ما خفنا أن يكون يا ابنة إيكاريوس، أو هذا ما خشينا أن يذهب بشرفنا.» فقالت بنلوب: «لتطمئن يا يوريماخوس؛ فليس في مثل هذا يضيع شرفكم، ولكن الرجل ذو جسم طويل ومظهر جبار، وقد ذكر آباءه فعلم كريم العنصر طيب الأرومة عريق المحتد، فلم لا يعطى القوس لنرى ما يكون؟ وإنه إذا ظفر فسأخلع عليه وأدفع له سلاحا وأرسله أنى شاء.» ثم نهض تليماك فقال: «أماه، إن القوس قوسي وإني لصاحبها، أعطيها لمن أشاء، وأصونها عمن أشاء، ولن ينازعني حقي أحد من العالمين، ولو شئت لأعطيتها الرجل فتكون حقا خالصا له، وما سمحت لأحد أن يمنعني. تفضلي أنت فغلقي عليك أبواب الحريم، وانظري في أعمال البيت، وصرفي شئون الخدم، وخذي في غزلك ونسجك، وسننظر - نحن - أمر القوس، وسأرى أنا لمن تكون النوبة؛ فإني هنا سيد لا مسود.» وشدهت بنلوب قليلا إلا أنها عرفت أن ابنها قال حقا، فانسحبت وغلقت عليها أبوابها، وانطرحت في فراشها حيث وافتها مينرفا فسكبت في عينيها غفوة هادئة لذيذة، فاستسلمت لسبات عميق.
وتقدم يومايوس فحمل القوس، وأوشك أن يذهب بها إلى أوديسيوس، لكن الأمراء زأروا غاضبين فخشي الراعي، وألقى القوس ثانية فصاح به تليماك: «هات القوس هنا، أيها الرعديد، لشد ما أود أن أخلص منك ومن هؤلاء السادة الذين ترهبهم!» وسخر الأمراء وضجوا ضاحكين، ولكن الراعي تقدم إلى مولاه، وانطلق بعد هذا إلى الداخل، فنادى المرضع يوريكليا وقال لها: «إن مولاي يأمرك أن تغلقي جميع الأبواب، ويقول لك: إنه إذا سمع النساء ضجة في البهو أو قتالا، فليجلسن حيث هن ولا ينزعجن، وليأخذن في عملهن، أتسمعين؟»
وغلقت المرضع الأبواب وبلغت رسالة مولاها، ثم هم فيلوتيوس فغلق باب البهو وأحكم أقفاله وربطه بسلب
1
طويل كان لسفينة وألقي لدى الباب، وعاد فجلس مكانه وعيناه لا تريمان عن مولاه، وتناول أوديسيوس القوس فجعل يفحصها ويبحث في أجزائها، مخافة أن يكون السوس قد نخرها إذا هو ناء عن بلاده، وزاغت أبصار القوم، وجعلوا يبرقون في الشحاذ الفقير ويقولون: «الهلوف
2
الزنيم! إن له لعينا فاحصة كأن لها عهدا بالرماية، وإنه ليبحث القوس كأنه يقتني أمثالها!» ثم قبض أوديسيوس على القوس، وشد طرفها في سهولة وفي يسر، كما يشد الموسيقي وترا من أوتار قيثارة، ونظر إلى الأهداف المتراصة أمامه، وأرسل سهما اخترقها جميعا، وسمع له صوت كسقسقة العصافير.
يا عجبا! لقد أراش أوديسيوس السهم، وأرسل زيوس العلي زلزلة ورعدا مدويا وثب له فؤاد البطل، وطارت منه ألوان القوم، وانقذف الرعب في قلوبهم.
ثم أخذ أوديسيوس سهما آخر فثبته، ثم أراشه فاخترق الأهداف مرة أخرى.
صفحه نامشخص