وقف أوديسيوس مسبوه اللب مشدوه الفكر، يردد طرفه في هذا المنظر العجب، ثم أفاق فخطر إلى الداخل، حيث اجتمع زعماء المدينة وشيوخها يصبون الخمر باسم هرمز رسول السماء تقدمة وقربانا، وصلاة لخاتم أرباب الأولمب قبل أن يأووا إلى مضاجعهم. ولم يتلبث عندهم بل تقدم في خطى حثيثة برغم إعيائه، وكانت مينرفا تحجبه في ظلال كثيفة عن أعين الملأ حتى وصل إلى حيث الملك والملكة، فكشف عنه غطاءه، وجثا عند قدمي الملكة يبث شكاته بين دهش الملكين الكريمين وشدة تحيرهما: «أريتا يا ابنة ركسنور صفي الآلهة، أتوسل إليك وإلى المليك العظيم وأضيافكم النبلاء، من الله عليهم وضاعف لهم آلاءه، وأنعم على ذراريهم وألف بين قلوبهم وقلوب رعاياهم، أتوسل إليك يا سليلة المجد ضارعا أن تعطفي علي وأن تكرمي مثواي، وأن تعينيني على الرحلة من فوري إلى بلادي التي أتحرق إليها شوقا، والتي فصلتني عنها أهوال وأهوال.»
وساد سكون عميق وصمت، وظل البطل المسكين جاثيا عند حافة الموقد المتأجج حتى تفجرت شآبيب الرحمة والحنان في قلب أخنيوس ابن الملك البكر، فراحت الكلمة الطيبة تتدفق من فمه الجميل العذب في فصاحة وتبيان، وحكمة تقليدية وخير؛ حيث قال: «حاشا لمجدك أيها الملك أن تدع هذا الغريب جاثيا هكذا في غبار الموقد وفي وهج النار، وأن تترك أضيافك ينتظرون أمرك، وما تكلم منهم أحدا، ألا فخذ بيد الغريب وأقعده مقعد الندى، ومر الندمان يسقه من كأس جوف كبير الآلهة،
24
وحبيب الغرباء وذوي الحاجات والنادل يهيئ له عشاء مما تبقى من وليمة الليلة.»
وما كاد الأمير يفرغ من قوله حتى أنهض الملك أوديسيوس وأجلسه على كرسي فخم جانب ولده الحبيب الحكيم لأوداماس، ثم أقبلت إحدى وصيفات القصر فصبت الماء على يديه من إبريق فضي، ثم أحضرت مائدة حافلة بأشهى الأكل وأطيب اللذائذ والأشربات، فأكل أوديسيوس وارتوى، وأمر الملك كبير السقاة بونتونوس، فمزح الراح وقدمها إلى الجميع حيث صبوها تقدمة لجوف رب الصواعق وكبير الآلهة وحبيب الغرباء وحامي ذوي الحاجات، ثم شربوا بعد ذلك حتى رووا.
وقال الملك: «أيها الرؤساء والشيوخ الفياشيون كلمة: عفو الخاطر فاسمعوا وعوا؛ لقد طعمتم جميعا وستتفرقون إلى مضاجعكم ثم نجتمع عند مطلع الفجر، نحن ومن لم يحضر من نواب الأمة الأجلاء، فننظر في شأن هذا اللاجئ الغريب بعد أن نضحي للآلهة. إنه يطلب أن يعود في حمايتنا إلى وطنه كيما يصل سالما غانما من غير أن يمسه أذى، إلا أن تكون ربات الأقدار قد قضت عليه أمرا، وإلا أن يكون من أرباب السماء الخالدين. لقد وصلت بيننا وبين الآلهة وشائج القربى، وطالما غشيت مجالسنا وشاركت في ولائمنا، وهي تبقى على محبتنا فلا تمس بأذى رجلا منا يضرب في الأرض، وليس ما بيننا وبينها أقل مما بينها وبين سيكلوبس أو المردة الجبابرة، وفي ذلك فخارنا وهو آية مجدنا.»
ونهض أوديسيوس الحكيم فقال: «غفرا غفرا أيها الملك، ما أنا في الآلهة؟! أين لي خلقها السوي وكيانها السماوي؟! بل أنا شقي من أبناء هذه الغبراء، وأثقلت كاهله حمولة هائلة من الكوارث والآلام حتى لا يعرف الناس من شقي شقاءه، ولا من تحمل مصائبه وأرزاءه؛ بلايا صبتها على رأسه الآلهة فصبر وأناب ... أوه! أبدا لا أنتهي إذا سردت لكم طرفا يسيرا منها، ولكن لا داعي الآن، أرجوكم، أتوسل إليكم، دعوني أتبلغ بهذه اللقيمات في هذه الملحمة الحالمة من الراحة التي لم أنعم بمثلها منذ بعيد. لشد ما يصرخ الجوع في أذن الجوعان، ولشد ما يعذبه الطوى، إنه يلح عليه بكل صنوف الألم حين ينسيه آلامه وأشجانه، إن له لشهية عالية الصخب تطلب العون في جؤار وجنون، حتى ليضيع في ضجيجها هتاف جميع الآلام إلى أن تكتفي، عفوا أيها السادة إني أتضرع إليكم أن تيسروا لي عودا أحمد وأوبة سالمة، بعد طول العناء والشقاء الذي ليس بعده شقاء، إنه لا أحب إلي من أن أودع الحياة بعد نظرة واحدة أتزودها من أهلي ووطني.»
وتأثر القوم من أجله، فأثنوا عليه، واتفقت آراؤهم على معاونته حتى يعود إلى بلاده ويلقى ذويه، ثم نهضوا فصبوا خمر الصلاة باسم الآلهة، وشربوا نخب رب الدار، ثم تفرقوا إلى منازلهم إلا أوديسيوس، فقد ظل جالسا ساهما واجما، كما ظل الملكان إلى جانبه ساهمين واجمين، والندل فيما بين ذلك يحملون أطباق المائدة وأكوابها، حتى إذا فرغوا أخذت الملكة تتحدث إلى أوديسيوس، وقد لفت نظرها هذا الثوب الفضفاض الذي كان يلتفع به.
والآن جاءت نوبتي في التحدث إليك أيها الغريب الكريم، من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأنى لك هذا الصدار وذاك الدثار؟ ألست قد قلت: إنك غريب نازح أفلتتك المنايا في لحجج البحار؟
وقال أوديسيوس يجيب أريتا: «أيتها الملكة، قد لا أفرغ من الحديث إذا حاولت أن أسرد قصتي بحذافيرها، بل ليس أشق علي ذلك؛ فقد كرثتني الآلهة بكل أنواع الهموم وصنوف الآلام، بيد أنني ألم بمأساتي المحزنة في كلمات فأقول: في أوجيجيا - إحدى الجزر القاصية التي لم تطأها قبلي قدم بشر ولم يخطر بها إله - تقيم عروس الماء المفتان «كليبسو» البارعة الرائعة الصناع، ابنة أطلس الجبار التي قدر علي أن أكون أول لاجئ إلى جزيرتها بعد أن سقط جوف صواعقه على سفينتي فشطرها وأغرق كل رجالي، وظللت أنا متشبثا بالسارية ليالي وأياما حتى دفعتني المقادير في الليلة العاشرة إلى ساحل الجزيرة حيث أوتني كليبسو الجميلة الريانة، وأنقذتني من موتة أكيدة، وأطعمتني وأكرمت مثواي، ثم عرضت أن تهبني الحياة الخالدة والشباب الأبدي لولا أني تأبيت، ثم أقمت عندها سبع سنوات لم يرقأ طوالها دمعي الذي نضحت به أثوابي وما خلعت علي من دثار، وفي الثامنة أرسل إليها جوف كبير الآلهة من يأمرها بإطلاق سراحي، فأبحرت على رمث زودته بالأطايب والأذخار، والأشربات والآكال، ثم أرسلت بين يدي ريحا رخاء ما انفكت تجري بي في عباب من بعده عباب طيلة سبعة عشر يوما. وفي الثامن عشر لاحت قمم جبالكم الشم فخفق قلبي فرحا، بيد أنه كان أملا خلبا لم يطل أمده؛ فقد أبى نبتيون الجبار إلا أن يقف بسبيلي، وإلا أن يرسل ريحا معاكسة تثير الموج وتهيج اللج، وتمزق ما التأم مني ومن فلكي الصغير الذي كان أملي، ولم يعد بد من أن أكافح الماء وأذرع اليم بالسباحة، حتى تضافرت الريح والموج، فقذفاني إلى ساحلكم ذي النؤى، ولم أحتمل صدمة الصخور فنضحني السيل الرابي إلى الأعماق كرة ثانية، وشرعت أكافح مرة أخرى حتى نثرتني موجة مزبدة في نهر وديع متطامن، فسبحت إلى إحدى عدوتيه، واستلقيت على الشاطئ خفق الأحشاء منهوك القوى، وأقبل الليل فتهالكت على نفسي إلى دغيلة مهدتها بعساليج وشيء من القش وفروع الشجر، ونمت ليلا طويلا وضحوة متعبة وظهيرة كلها نصب وإعياء، ثم أيقظتني صيحات قريبة مرنة، فإذا ابنتكم الأميرة الحبيبة الحسان في ربرب من أترابها يتلاعبن كربات الأولمب على رمال الشاطئ، وجثوت تحت قدميها، وما زلت بها أتملق شبابها الغض بدعوات معسولات، وأثير نخوة صباها الفينان حتى أمرت لي بطعام شهي وخمر معتقة، وأشارت إلى منعطف فتوجهت إليه فغسلت ما على جسمي من خبث، ثم منحتني هذا الصدار وذاك الدثار، تلك قصتي أسردها عن قلب محزون، وما فيها من أثارة من مين.»
صفحه نامشخص