ادبای عرب در عصر عباسی
أدباء العرب في الأعصر العباسية
ژانرها
مقدمة
العصر العباسي الأول
1 - لمحة تاريخية
2 - الشعراء المولدون1
3 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثاني
4 - لمحة تاريخية
5 - الشعراء المولدون
6 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثالث
صفحه نامشخص
7 - لمحة تاريخية
8 - الشعراء المولدون
9 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الرابع
10 - لمحة تاريخية
11 - الشعراء المولدون
12 - الكتاب المولدون
مقدمة
العصر العباسي الأول
1 - لمحة تاريخية
صفحه نامشخص
2 - الشعراء المولدون1
3 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثاني
4 - لمحة تاريخية
5 - الشعراء المولدون
6 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثالث
7 - لمحة تاريخية
8 - الشعراء المولدون
9 - الكتاب المولدون
صفحه نامشخص
العصر العباسي الرابع
10 - لمحة تاريخية
11 - الشعراء المولدون
12 - الكتاب المولدون
أدباء العرب في الأعصر العباسية
أدباء العرب في الأعصر العباسية
حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم
تأليف
بطرس البستاني
مقدمة
صفحه نامشخص
هذا الكتاب الثاني من «أدباء العرب» يشتمل على خصائص آداب العباسيين وعلومهم، وميزات شعرائهم وكتابهم، مع استفاضة في النقد والتحليل؛ لأن هذا العصر - عصر حضارة العرب - لما يتح له بعد بحث شامل يجلو حقائقه، ويكشف عن كنوزه.
واضطرارنا إلى الإمعان في البحث جعلنا نجتزئ بطائفة معدودة من الشعراء والكتاب، وهم - وإن كانوا فحول الشعر والنثر - لا يستقرون في المنزلة العليا وحدهم، بل يشركهم فيها جماعة آخرون لم نجد بدا من إغفالهم.
ورأينا ألا نخلط الأدب الأندلسي بالأدب الشرقي، فعل من تقدمنا من مؤرخي الآداب؛ لأن العوامل التي أثرت فيه غير العوامل التي أثرت في ذاك، وأن له ميزات خاصة تجعله مستقلا منفصلا عن أدب العباسيين؛ فآثرنا أن نرجئه إلى الكتاب الثالث ونخصه ببحث منفرد، ونضم إليه عصر الانبعاث، وكلاهما يفتقر إلى درس صحيح؛ لأنهما لا يزالان في عزلة تامة عن أقلام النقاد. وأما عصر الانحطاط فسنلم به إلماما، ونبين ميزته السياسية والأدبية؛ ليطرد لنا الحديث إلى عصر الانبعاث، والله ولي التوفيق.
بطرس البستاني
العصر العباسي الأول
750-846م/132-232ه
يبتدئ بقيام الدولة العباسية، وينتهي بخلافة المتوكل على الله.
الفصل الأول
لمحة تاريخية
أسباب سقوط الأمويين (1) الأحزاب السياسية
صفحه نامشخص
عرفنا في كلامنا على صدر الإسلام أن الدولة الأموية قامت على كره من الأنصار ومن القرشيين أنسبائها؛ فناوءوها جميعا، وخصوصا بعد أن نبذت الشورى في الخلافة، وجعلتها ملكا عضوضا.
ثم نشأت الأحزاب السياسية، فكانت بعض الأسباب القوية التي أودت بملك بني أمية فتركته أثرا بعد عين؛ فإن قيام الزبيريين في الحجاز، والخوارج في الجزيرة، والشيعيين في العراق، فت في ساعد الأمويين، وجعل مملكتهم دريئة للثورات والدسائس، حتى إذا تبين الضعف عليها طمع فيها الخصوم، فقاموا يكيدون لها في السر والعلانية.
ولم يكن زوال الحزب الزبيري ليرد الراحة على بني أمية، والشيعيون والخوارج أيقاظ لا تنام لهم عين، والشعوبية يدسون للعرش، ويتحينون الفرص لدكه من أساسه. (2) الشعوبية
حمل الفتح الإسلامي للعرب شعوبا كثيرة دانت لهم فبسطوا سلطانهم عليها، وأثقلوا كواهلها جزية وخراجا، واستاقوا منها الأسرى والسبايا؛ فاستعبدوهم وأذلوهم، ثم أطلقوا على من أعتق منهم لقب الموالي.
1
على أن هذه الشعوب الموتورة لم تكن لتنام على الضيم طويلا، وفيها أمم عريقة في حضارتها، عادية في استقلالها، تأبى الخنوع لقوم غزاة خرجوا من صدر البادية حفاة عراة، فكسحوا الشرق والغرب بسنابك خيولهم، وأفادوا من فتوحاتهم مالا وافرا؛ فأيسروا بعد فقر، وأترفوا بعد شظف وخشونة.
فأسلم كثير من هذه الشعوب المغلوبة رجاء أن يجدوا في إسلامهم نصفا ومساواة، ولكن العرب الفاتحين أسكرتهم نشوة النصر، وأخذتهم عزة السلطان بعد أن أخضعوا مملكة فارس، واقتطعوا جزءا كبيرا من بلاد الروم، فباتوا ينظرون إلى كل عجمي نظرة ازدراء واحتقار، وحق لهم أن يعتزوا ببطشهم؛ فقد كان العالم يومئذ مشطورا بين كسرى وقيصر، فجمعوا إليهم شطريه؛ فزلزل الإيوان، وتقلص ظل الروم.
فلذلك لم يجد الذين أسلموا من الأعاجم ما كانوا يرجون من كرامة وإنصاف، مع أن فيهم من حسن إسلامهم، وفيهم من أتقنوا اللغة العربية وبرعوا فيها فخرج منهم الكتاب والشعراء، وتبحروا في العلوم الدينية فكان منهم الفقهاء والمحدثون، وتولى بعضهم الخطط العالية كالقضاء والحجابة،
2
فأمضهم أن يهونوا على العربي، فيأنف أن يزوجهم بناته، وهو لا يتورع من التسري والاستمتاع بنسائهم، وساءهم أن يروا من خلفاء بني أمية إيثارا للعرب، وتعصبا على العجم؛ فقد كان المولى يساق إلى الحرب ماشيا، لا يعطى غنيمة ولا فيئا، فلا غرو أن يتولد في نفسه كره شديد للعربي ، ويتمنى زوال ملكه، ويكيد للعرش الأموي تخلصا من جوره واستبداده.
صفحه نامشخص
فمن هنا نشأ حزب الشعوبية يضم إليه أبناء الأمم المقهورة، متحدين على بغض العرب والتنقص منهم، وذكر مثالبهم، وتفضيل العجم عليهم، ولكنهم كانوا ضعافا في شباب الدولة الأموية؛ فلم يرتفع لهم صوت حتى آنسوا الضعف في جسمها، والانحلال في أعضائها؛ فعضدوا العباسيين على أمل أن يكونوا لهم خيرا من الأمويين وأبقى. (3) ترف الأمويين وإهمالهم
كان العهد الأموي عهد ثورات وحروب، فلم يبت خلفاؤه ليلة إلا على عصيان يتأهبون لقمعه، أو على مكيدة يحاولون ردها، وكان لهم في بدء أمرهم من القوة والسلطان ما مكنهم من نحور أعدائهم، ولكن لم يلبثوا أن تسلل الضعف إليهم؛ لتفاقم الثورات من جهة، ثم لانغماسهم في الترف من جهة أخرى؛ فإنهم انصرفوا إلى اللهو والخمر والمجون، وأصبحوا لا يهتمون بتأييد سلطانهم، ولا يعنون بانتقاء عمالهم؛ فإن هشام بن عبد الملك ولى نصر بن سيار أعمال خراسان، وهو يعلم أن عصبيته فيها ضعيفة، وأن خراسان لا يضطلع بأمرها إلا من كان قوي العشيرة؛ فكانت ولايته عليها شؤما ووبالا، فقد اجتمعت عليه أفناء اليمن وربيعة، وحاربته لانحيازه إلى المضرية.
وربما ولي العامل عملا بإشارة جارية، أو مكافأة على هدية، فعل هشام بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى لامرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشاما؛ فأهدى إليه الجنيد قلادة أخرى فولاه هشام خراسان.
ورأى العمال من الخلفاء غفلة وإهمالا، فأصبحوا لا هم لهم إلا حشد الأموال، والاستكثار من الصنائع
3
والموالي، ورأى الناس الانحلال يدب في هيكل الدولة؛ فأخذوا يشقون عليها عصا الطاعة، وهم إنما كانوا خاضعين كرها لا رغبة. (4) شقاق البيت المالك
قيل لبعض الأمويين: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: «اختلاف فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا.» ومن يتتبع الحوادث التي تقدمت سقوط بني أمية يتبين له صحة هذا القول؛ فإن الأحزاب السياسية على اختلافها في المذاهب والعقائد كانت تسعى جميعا لقلب العرش الأموي، فاجتمع على ذلك الخارجي والزبيري والعلوي والعباسي والشعوبي ، فشرع كل واحد منهم يرمي إلى هدفه من الناحية التي ينتمي إليها، فتكاثر وقع السهام على هيكل الدولة، حتى انهد بناؤه فانهار انهيارا.
وساعد أعداء الأمويين على نيل مأربهم انشقاق أمية على نفسها، فإن أمراءها أخذ بعضهم يكيد لبعض، فأضعفوا شأنهم وأطمعوا الناس فيهم، ويعود سبب هذا الانشقاق إلى نظام ولاية العهد؛ فإنه كان يثير الضغائن بين الأخ وأخيه، فضلا عن القريب وقريبه، وحسبنا أن نلقي نظرة عجلى على طلاب ولاية العهد في صدر الإسلام وفي العصر العباسي؛ لنعلم مبلغ ما جرت من الويلات على الخلفاء وأبنائهم.
وفساد النظام في ولاية العهد قائم على تعددها، فإن الخليفة كان يعقد الولاية في حياته لاثنين أو ثلاثة من أولاده، أو لولده وأخيه، فإذا استخلف ولي العهد الأول استبد بالأمر، وحاول خلع الثاني لينقل الولاية إلى بنيه؛ فهشام بن عبد الملك لم يشنع على ابن أخيه الوليد بن يزيد، ويرمه بالكفر والفسوق، وينفر الناس عنه إلا لأن ولاية العهد كانت له، وهشام يريدها لابنه من بعده.
ومات هشام ولم يستطع خلع الوليد، ولكنه استطاع أن يسيء إلى سمعته، فجعله في عيون الناس كافرا زنديقا لا يشبع من الخمر والفسق والمجون.
صفحه نامشخص
ولسنا نحاول أن ندفع هذه التهمة عن الوليد؛ فإنه لم يكن بريئا من التهتك والشك، ولكننا نعتقد أنه لم يكن شر بني قومه، ولولا ولاية العهد واضطهاد هشام له، ثم انتقامه من ابني هشام بضربه أحدهما وحبسه الآخر؛ لما كره الناس حكمه وثاروا به وقتلوه، ولكن السياسة صورته لهم جبارا عنيدا، يمزق القرآن، ويستهتر بالفجور، ويغتسل بالخمر، وصورت ابني هشام ضحيتين بريئتين، يطغى عليهما الفاسق بالحبس والتعذيب.
وليس من غرضنا أن نتبسط في الكلام على الوليد وقتله، وإنما نريد أن نظهر ما جر نظام ولاية العهد من النكبات على بني أمية؛ فإنه رمى بينهم الشقاق فتفرقت كلمتهم، وكان مقتل الوليد شؤما عليهم، وسببا قويا لسقوطهم؛ لأن الناس طمعوا فيهم واجترأوا عليهم، فأخذوا يثيرون بعضهم على بعض ليزيدوهم ضغينة واختلافا، فلم يقم خليفة بعد الوليد إلا خرج عليه بعض أبناء عمه، وحاربوه ونازعوه الإمامة؛ فأصبحت البلاد في أواخر العصر الأموي ميدانا للحروب والثورات.
فيتضح مما تقدم أن عدة أسباب تواطأت على إضعاف سلطان أمية؛ فمن إمعان في اللهو والترف، إلى غفلة وإهمال في أولي الأمر، إلى شقاق واختلاف في الأسرة الأموية، إلى اتفاق الأحزاب المختلفة على إزالة هذا الملك الضخم؛ فالخوارج يرون أن الحكم لله لا للناس، والشعوبية يطلبون الخلاص من بني أمية لعل في تغير السلطان راحة لهم وفرجا، والعلويون يبثون الدعوة لأنفسهم، والعباسيون يسايرونهم في بثها ليستغلوها منهم بعد حين.
وقد رأيت أن قول الأموي في زوال ملكهم - اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا - يكاد يختصر أسباب الضعف كلها في البيت المالك. (5) الدعوة العلوية
ذكرنا في الكتاب الأول أن الحسن بن علي نزل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ نفورا من الحرب، وابتغاء لحقن الدماء، غير أن هذا النزول لم يرق الشيعة العلوية فقابلته بالسخط، ولكن لم يكن لها قبل بمعاوية، فصبرت كارهة على أمل أن يعود الأمر من بعده إلى أهل البيت، وشد ما كانت خيبتها لما أوصى معاوية بالملك إلى ابنه يزيد، جاعلا الخلافة وراثة بعد أن كانت شورى.
وما استخلف يزيد حتى نشط العلويون في الكوفة وبايعوا الحسين بن علي، فحاربه يزيد وقتل في كربلاء، فاستفظع الناس مقتل ابن بنت الرسول، ونشأ على إثره الحزب الزبيري يريد نزع السلطان من يد الأمويين، وازداد الشيعيون حماسة وتعصبا لعلي وأبنائه، ونقمة على بني أمية، ولكنهم انقسموا فرقا؛ فبايعت الشيعة الكيسانية
4
محمد بن الحنفية
5
وجعلته إمامها، ثم توفي محمد بن الحنفية، فانتقلت الإمامة إلى ابنه عبد الله أبي هاشم وكان عالما جليلا، فوفد يوما على سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، فرأى منه سليمان فصاحة وقوة وعلما وعقلا فخافه؛ لعلمه بطمعه في الخلافة، فأرسل إليه من يدس له السم في أثناء رجوعه إلى المدينة، فلما شعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق عرج على الحميمة،
صفحه نامشخص
6
وفيها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس،
7
فنزل عنده وأوصى إليه بالخلافة من بعده؛ خوفا من أن تضيع البيعة وهو بعيد عن أهله.
فلما مات أبو هاشم هب محمد بن علي ينشر دعوته، واثقا بالنجاح لاكتسابه الشيعة الكيسانية، ولكن المنية عجلت عليه، فأوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام، فأرسل إبراهيم دعاته إلى خراسان؛ لأن الفرس أشد الشعوبيين نقمة على بني أمية، ولأن أكثر الشيعة الكيسانية في خراسان والعراق.
وكان الحزب الأعظم من الشيعة يناصر عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي؛ فتخوف العباسيون منه وحسبوا له حسابا، فرأوا أن يعقدوا مؤتمرا يجمع بني هاشم علويهم وعباسيهم؛ للاتفاق على من يخلف الأمويين من أهل البيت، فعقد المؤتمر في مكة، وحضره من العباسيين أخوا إبراهيم الإمام: أبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، وغيرهما، وحضره من العلويين عبد الله بن الحسن وولداه محمد وإبراهيم وغيرهم، فتشاوروا في الأمر فتشبث العلويون بحقهم في الإمامة، فلم يجد العباسيون بدا من مسايرتهم إلى أن تتهيأ لهم الأسباب فيستقلوا بالأمر دونهم، فوافقوهم على مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب ب «النفس الزكية».
ويرجح أن هذه البيعة جرت سرا؛ لأن العباسيين أنكروها بعد أن قوي ساعدهم، وحاول محمد بن عبد الله إعلانها فلم يصدقه أحد إلا الذين عرفوا دخيلة الأمر، وعددهم قليل.
وجملة القول أن الدعوة العلوية كانت ضعيفة ضئيلة بالنسبة إلى الدعوة العباسية، وتعود أسباب هذا الضعف إلى انقسام الشيعة وتعدد فرقهم، ثم إلى مبايعة أبي هاشم لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والتفاف الشيعة الكيسانية عليه وعلى ابنه إبراهيم الإمام من بعده. ثم إلى مبايعة بعض العباسيين لمحمد بن عبد الله بن الحسن؛ فإن العلويين غرتهم هذه الظاهرة من أبناء عمهم فركنوا إليهم، ومن أسباب الضعف أن العلويين بالغوا في الخروج على بني أمية، فكثر فيهم التقتيل؛ فقلوا فضعفوا. أما العباسيون فلم يعمدوا إلى العصيان، ولم يقتل واحد منهم إلا بعد أن أظهروا دعوتهم، فكثروا وقووا. (6) الدعوة العباسية
ابتدأت الدعوة العباسية بالظهور سنة «100ه/718م» في خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بعد أن أخذ الوصاية من أبي هاشم أنشأ يؤلف الجماعات السرية، فاختار اثني عشر نقيبا لبث الدعوة، وجعل تحت أيديهم سبعين رجلا يأتمرون أمرهم، وأوصاهم أن يولوا وجوههم شطر خراسان؛ لأنها أصلح من غيرها لنشر الدعوة، ومما قاله في كتابه لهم: عليكم بخراسان؛ فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.
8
صفحه نامشخص
وقد أحسن محمد باختيار خراسان؛ لأن الأمصار العربية كانت تشغلها الأحزاب، وكل حزب يسعى لنفسه. أما خراسان فإن الفرس فيها يكرهون العرب وبني أمية، ولكنهم لا يطمعون في الخلافة، وهم شيعيون في كثرتهم، ولكنهم لا ينفرون من بني العباس؛ لأنهم هاشميون من أهل البيت.
فراح دعاة العباسيين يتنقلون في الأمصار الإسلامية، ويبثون الدعوة سرا متظاهرين بالتجارة وطلب الرزق، وبقوا على هذه الحال حتى توفي محمد بن علي، وصار الأمر إلى ولده إبراهيم الإمام، فكاتب إبراهيم مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، ثم أرسل أبا مسلم الخراساني،
9
وكان كثير الدهاء، شجاعا مقداما، شديد الإخلاص للعباسيين، فجاء خراسان سنة «129ه/746م»، وأقام في مرو يدعو الناس إلى مبايعة آل محمد من غير تعيين؛ لتكون الدعوة مبهمة مشتركة بين العباسيين والعلويين، وقد لجأ إلى هذه الحيلة ليأمن معارضة الشيعيين في بلاد فارس، فتبعه خلق كثير.
وكان على خراسان نصر بن سيار من قبل الأمويين فخاف عاقبة الأمر، فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد يخبره بحال أبي مسلم وكثرة من معه، وفي ذلك يقول:
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى
صفحه نامشخص
وإن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب: ليت شعري!
أأيقاظ أمية أم نيام؟
10
فتخاذل مروان عن إنجاد نصر وكتب إليه يقول: إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك.
واشتدت شوكة أبي مسلم فهرب نصر بن سيار، فقصد العراق فمات في الطريق.
وكان مروان قد تنبه في تلك الأثناء من غفلته، فأرسل إلى الحميمة بعثا واعتقل إبراهيم الإمام، فلما قبض عليه أوصى بالخلافة إلى أخيه أبي العباس السفاح، وأمر أهله وأنصاره بالمسير إلى الكوفة؛ لأن فيها أنصاره من الشيعة الكيسانية.
وحبس إبراهيم في حران
11
حتى مات، واختلف في سبب موته؛ فزعم بعضهم أنه سقي سما، وقال آخرون: بل هدم عليه بيت فمات.
صفحه نامشخص
فلما علم أبو مسلم بموته دعا أهل خراسان إلى مبايعة أبي العباس السفاح فأجابوه، ثم سير العساكر لقتال مروان، وكان السفاح قد ذهب بأهله وأنصاره إلى الكوفة، فأظهر دعوته هناك فبايعه أهلها في «12 ربيع الثاني سنة 132ه/28 تشرين الثاني سنة 749م».
وتجهزت العساكر الخراسانية وغيرها من جهة السفاح لقتال مروان، ومقدمها عبد الله بن علي عم السفاح، وتقدم مروان بجيشه إلى الزاب الأعلى؛
12
فالتقته جيوش العباسيين وقاتلته فاندحر مكسورا، واشتفت نفوس الفرس من العرب في ذاك اليوم بعد أن قهرها وأذلها يوم القادسية.
وتعقب جيش السفاح مروان في هزيمته، حتى أدركه في مصر صالح أخو عبد الله بن علي، فقتله واحتز رأسه، وأرسله إلى السفاح.
وبايع أهل مصر العباسيين فاستتب لهم الأمر، وزالت الخلافة الأموية من الشرق بعد مقتل مروان. (7) ميزة العصر
فقد رأيت أن الفضل في بنيان العرش العباسي للفرس عموما، ولأبي مسلم خصوصا؛ فلا غرو أن تصطبغ المملكة العباسية باللون الفارسي، ويكون للفرس صوت بعيد فيها، فيستأثروا بالخطط العالية، ويتولوا شئون الدولة، ويديروا سياستها، ويتمتعوا بجميع الحقوق التي كان العرب يتمتعون بها دونهم؛ فقد أعادت لهم موقعة الزاب سابق عزهم، فغلب عنصرهم على العنصر العربي، وطبعوا العصر العباسي الأول بطابعهم الخاص.
على أننا لا نرى إطلاق الكلام دون احتياط؛ فإن بني العباس في عصرهم الأول كانوا أصحاب حزم وقوة وتدبير، وقد علموا أن الفرس أهل سيادة وبطش، ورأوا منهم إخلاصا ومناصرة؛ فقربوهم وقلدوهم أعمال الدولة، ولكنهم لم يحجموا عن الفتك بكل من يخشى شره منهم، فأبو جعفر المنصور قتل أبا مسلم الخراساني لما داخلته الريبة في إخلاصه، مع أن أبا مسلم هو الذي حمل أعباء الدعوة العباسية على عاتقه، والرشيد نكب البرامكة
13
على بكرة أبيهم؛ لما استفحل أمرهم وقويت شوكتهم، وأحس منهم خطرا على سلطانه.
صفحه نامشخص
فخلفاء هذا العصر كانوا شديدي الحرص على ملكهم، يستحلون كل شيء في سبيل تأييده، فقد تجدهم أعدل خلق الله وأعظمه تسامحا، ثم تجدهم أكثره جورا وتشددا، وهذه الصفات - على تناقضها - تجتمع فيهم محافظة على العرش، وذودا عن حياضه، فإذا نظرت إلى تساهلهم الديني، وإطلاقهم حرية الفكر؛ فلا ينبغي أن تغفل عما كان يعانيه الأفراد والجماعات من ضغط وتنكيل، فالحرية عندهم مكفولة ما دامت بعيدة من سياسة الأحزاب، والتساهل عندهم مباح ما دام لا يؤثر في الملك.
ويجمل بنا أن نوضح هذه المسألة فنقول: إن الشعب العباسي لم يكن عربيا خالصا بل خليط شعوب متعددة؛ فإن المنصور لما بنى بغداد
14
سنة «145ه/762م» وجعلها مقر الخلافة، جمع بين العرب والفرس وأمم أخرى عجمية كانت تسكن العراق، وتدين بالنصرانية وغير النصرانية، ورأى الخلفاء أن العناصر التي تدين بغير الإسلام لم تبرح قوية، وأن عددا غير قليل من الفرس المسلمين لم يكن لهم نصيب وافر من الإيمان؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولتأثير الدين القديم في نفوسهم، فقضت عليهم مصلحة الدولة بإطلاق حرية الدين؛ فأطلقوها محافظة على الأمن، واسترضاء للعناصر الغريبة.
وكان أكثر هذه الشعوب التي اختلطت بالعرب على جانب عظيم من العلم والحضارة، فرأى الخلفاء أن يستغلوا معارفهم، ويستفيدوا منها؛ فأطلقوا لهم حرية الفكر والقلم؛ فأكبوا على النقل والتأليف، وأتحفوا العربية بكنوز ثمينة كانت العون الأكبر في نهضة العلوم والآداب.
ولئن أفادت حرية الدين والفكر من ناحية لقد أضرت من ناحية أخرى؛ فإنها نشرت الخلاعة والسكر والمجون، وولدت البدع في الإسلام، وأورثت الهزء بالأديان؛ فكثر الشك وكثرت الزندقة.
وأما الحرية السياسية فإن الخلفاء رأوا من الحزم أن يخنقوها؛ لئلا يعرضوا ملكهم للثورات والفتن، فأصبح لا يجرؤ امرؤ على الجهر برأيه ومذهبه إلا ألقى بنفسه إلى التهلكة، وكثرت الجواسيس والوشايات، وكثر الحبس والاغتيال؛ فرب وزير استمتع في يومه بعطف الخليفة وثقته فإذا هو في غده مرذول أو مقتول، ورب شاعر كانت منه فلتة فلاقى في جزائها حبسا أو ضربا أو قتلا إن لم يعاقب بها جميعا.
وحسبك أن تنظر إلى فتك الخلفاء بالوزراء والقواد والعمال وسواهم، وفتك هؤلاء بمن دونهم؛ لتتبين ما كان في هذا العصر من عسف واضطهاد ووشايات ودسائس.
وجماع القول أن العصر العباسي الأول يمتاز بالنفوذ الفارسي، وحرية الفكر، والتساهل الديني، ولكن ينبغي أن نضع دون هذه الميزات مصلحة المملكة؛ فعندها يقف كل نفوذ، وكل حرية وتساهل.
هوامش
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
الشعراء المولدون1
العصر الأول (1) ميزة الشعر
لم يكن انتقال الشعر من البداوة إلى الحضارة مرهونا بانتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، بل أخذ الشعر يتحضر في صدر الإسلام على أثر الفتوح الكثيرة، وملابسة العرب للأعاجم، وانتقال الخلافة إلى دمشق، وفيها القصور والجنائن والأنهار، وفيها أثر كبير من حضارة البيزنطيين، ولكن العصر الأموي كان عصر حروب وفتن، فلم يهدأ هادئه، ولم يطل عهده، فيبلغ أهلوه غايتهم من الترف والعمران، أضف إلى ذلك أن خلفاء بني أمية كانوا على تحضرهم ينزعون إلى الحياة البدوية، ويؤثرون العرب الخلص على غيرهم من الشعوب، ويرتاحون إلى أساليب الجاهليين وطرقهم، فما أتيح للشعر أن يبلغ الطور الذي بلغه بعد أن أديل العباسيون من الأمويين، وبنيت بغداد وجعلت عاصمة الخلافة، واشتد اختلاط العرب بالأعاجم، وساد النفوذ الفارسي، وامتلأت خزائن الدولة بما أفاء الله على المسلمين من أموال الفرس والروم، فانهل من فيضها على الناس؛ فوفرت لهم أسباب الرزق، فانبسطت حياتهم فأترفوا وأمعنوا في الترف.
وكان للشعراء القسط الأوفر من هذا العيش الخضيل، فإن الخلفاء بعد أن استتب لهم الأمر، ودانت لهم الأعداء، وخضدوا شوكة الأحزاب، انصرفوا إلى الحياة يتذوقون نعيمها، والشعر من نعيم الحياة؛ فقربوا الشعراء وجعلوهم ندماءهم ، فأيسر الشعراء واتسعت ذات يدهم، فرفهوا وأسرفوا في اللذة؛ فرقت طباعهم، ولانت نفوسهم ، ورق شعرهم، ولانت ألفاظه، وقل استعمال الغريب فيه، والشعر مرآة النفس؛ فإذا كانت النفس قاسية خشنة خرجت الألفاظ وحشية صلبة، وإذا كانت لطيفة ناعمة خرجت الألفاظ سهلة لينة.
ولم يكن للشعراء الموالي حظ في صدر الإسلام، فلم يرتفع شأنهم، ولم يكثر عددهم. وأما في هذا العصر فقد تكاثروا ونموا، واشتد خطرهم ونبغت منهم طائفة تقلدت زعامة الشعر، واعترف لهم الشعراء.
وقد علمنا أنهم يكرهون العرب؛ فأنفوا أن يتشبهوا بهم ويقلدوهم في أساليبهم، وكان لهم من حضارتهم ومن عنصرهم العجمي ما يبعدهم من وحشي اللفظ وبدوي المعنى، فكان لهم الفضل في تجدد الألفاظ، وفي تجدد المعاني. (2) التجدد اللفظي
فأما التجدد اللفظي فلم يقتصر على تسهيل الألفاظ وتليينها، بل تعداهما إلى تزيينها وتنميقها، فقد عني الشاعر العباسي بتوشيتها كما عني بتوشية ثوبه وداره وماعونه؛ فأكثر من الاستعارات والتشابيه والتزمها التزاما. وافتن في أنواع البديع وتعمده تعمدا، وأول من تكلفه وخرج به عن عفو الخاطر بشار بن برد، فمسلم بن الوليد، فأبو نواس، فأبو تمام.
والحياة العباسية كانت تدعو إلى هذا الوشي والتنميق من جميع نواحيها، فمن انغماس في الرخاء والترف إلى تخلق بأخلاق فارسية يلائمها الافتنان والتصنع لبعدها من السذاجة والفطرة.
ودخل على لغة الشعر ألفاظ غريبة دعت إليها الحاجة، كالألفاظ العلمية والفلسفية وغيرها؛ مما يدل على أشياء حديثة العهد عند العرب، ودخل عليها أيضا ألفاظ استعيرت من صلب اللغة لمعان مستحدثة خلقتها الحضارة الجديدة.
صفحه نامشخص
وأما أوزان الشعر وقوافيه فلم تتجدد تجددا يذكر، ولكن الشعراء أخذوا يعنون بالنظم على الأوزان الرشيقة التي تصلح للغناء، وأكثر ما كانوا يصطنعونها في الغزل والمجون والخمريات.
وأصبحوا يتحامون أو يتحامى أكثرهم ما كان يستهدف إليه الأقدمون من إشباع
2
وخرم
3
وإقواء
4
وإكفاء،
5
وغير ذلك من عيوب الوزن والقافية.
صفحه نامشخص
وعلى الجملة فإن التجدد اللفظي ظهر ظهورا جليا في شعر العباسيين، ولم يكن دونه التجدد المعنوي. (3) التجدد المعنوي
كان من أثر اختلاط العرب بالأعاجم في السكنى والزواج أن نشأ جيل عباسي له ثقافة وتفكير جديد، وله حضارة فارسية تميل به عن بداوة الأعراب؛ لذلك أخذ الشعراء يبتعدون عن المواضيع الجاهلية إلى معان طريفة يستمدونها من روح العصر ومشاهد البيئة، وقد تصرفوا في هذه المعاني تصرفا لم يبلغه المتقدمون، وأبدعوا في التوليد
6
والاختراع.
واتسع عليهم باب الخيال لاتساع سبل اللهو ووسائل العمران، فمن قصور شواهق وحدائق نواضر إلى نهور دوافق وسفائن مواخر، فأصبحوا إذا عمدوا إلى التشبيه استمدوا أكثره من البساتين والحلى والرياش والطيوب، فذاع عندهم تشبيه الخد بالتفاح والورد والياسمين، والبنان بالعناب، والعيون بالنرجس، والخمر بالياقوت والذهب، والكأس باللؤلؤ، وقوس السحاب بأذيال مصبغة، والهلال بين الغيوم بزورق من فضة عليه حمولة من عنبر، وغير ذلك من ألوان الحضارة الجديدة.
على أن هذا الخيال كان يرافقه العقل، فما يدعه ينطلق على هواه، كما كان ينطلق خيال الشاعر الجاهلي والإسلامي، بل عني بتهذيبه وتنظيمه؛ فنشأ عن ذلك اتساق في الأفكار، فأصبح الشاعر إذا تغزل وأراد الانتقال إلى المدح لا يثب إليه وثبا بل يمد جسرا يعبر عليه، وهذا ما يسمونه حسن التخلص.
ولا ريب في أن نقل الفلسفة والمنطق كان أثره بليغا في تثقيف أفكار الشعراء وتنسيق خيالاتهم، وأثر فيهم نقل العلوم؛ فاستعملوا الأغراض العلمية في شعرهم ولم تكن معروفة من قبل، كقصيدة صفوان الأنصاري التي يصف بها معادن الأرض رادا على بشار بعد أن مدح بشار إبليس، وزعم أن النار خير من الأرض، وحسبك أن تقرأ منها هذين البيتين لتعلم مبلغ تأثير العلوم الدخيلة في الشعر العباسي، قال:
وفيها ضروب القار والشب والنهي
وأصناف كبريت مطاولة الوقد
7
صفحه نامشخص
ومن إثمد جون وكلس وفضة
ومن توتياء في معادنه هندي
8
ولكن هذا التجدد في اللفظ والمعنى لم يشمل أبناء العصر كلهم، بل كان هناك جماعة المحافظين على القديم، يدافعون عنه دفاع المستميت، ويناهضون الجديد بجميع قواهم، حتى إن الشعراء المجددين كانوا يتكلفون الأساليب القديمة بعض الأحيان إرضاء لهؤلاء. (4) الدفاع عن القديم
وغير طبيعي أن يحدث شيء جديد مكان شيء قديم دون أن يدافع هذا القديم عن نفسه؛ سنة تنازع البقاء، ويستوي في ذلك الممالك والقبائل والأديان والمعايش والأخلاق والعادات والأزياء والعلم والأدب «شعره ونثره»، فقد أغار الأدب الجديد على الأدب القديم في العصر العباسي الأول؛ فثبت له هذا، وأعد ما لديه من قوى الدفاع ليرد عنه غائلة غازيه.
ومن المعقول أن يكون للأدب القديم أنصار وأتباع يقاومون دعاة المذهب الجديد؛ فإن جماعة العلماء والرواة وذوي السلطان كانوا يستغربون هذا الجديد، وينعونه على أصحابه، وربما أنف الرواة من روايته والاستشهاد به، ولو جاء آية في الإبداع.
وقد أخذ يظهر كره الجديد والدفاع عن القديم في الصدر الثاني للإسلام، فإن بعض الرواة كانوا يعدون شعراء بني أمية مولدين، بالإضافة إلى شعراء الجاهلية والصدر الأول، ويرفضون الاحتجاج بأقوالهم، وأقدم أصحاب هذا المذهب أبو عمرو بن العلاء، وكان لا يرى خيرا إلا في الشعر الجاهلي والمخضرم، فإذا سئل عن المولدين قال: «ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم.» وربما أعجبه شعر جرير والفرزدق فيقول: «لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته.»
فيستدل من ذلك أن العلماء كانوا لا ينكرون الجمال على الشعر المولد، ولكن يعتقدون أنه مستمد من الشعر القديم، ويأبون الاستشهاد به؛ لقلة ثقتهم بلغة المولدين من أهل عصرهم.
وقد يستشهد بعضهم مكرها بشعر مولد كما فعل سيبويه والأخفش، فإنهما لم يحتجا بشعر بشار إلا بعد أن هددهما بالهجاء.
ولأبي نواس مداعبات كثيرة مع أنصار القديم، فقد كان يستهزئ منهم وهم ينكرون عليه شذوذه عن مذهبهم.
صفحه نامشخص
ولطالما تعرض الشعراء المجددون للضرب والطرد والحبس؛ لأن الخلفاء العباسيين كانوا يؤثرون مسايرة المحافظين على القديم؛ لما يتعلق بهذا القديم من تقاليد دينية وروابط عصبية، وربما اتهم الشاعر المجدد بالزندقة فلا ينجو من العقاب؛ لذلك كان يعتصم بالتقية بعض الأحيان، فيتحدى مذهب الأقدمين ولا سيما في المدح والرثاء، فيقف على الطلول ويبكي الدمن، ويصف ناقته، ويكثر من الغريب؛ ليرضي ممدوحه أو أهل مرثيه، وليظهر لأصحاب اللغة أنه خالط العرب الصرحاء وأخذ عنهم لغاتهم واصطلاحاتهم، حتى استوى لسانه وسلم من العثار .
فإذا أنت درست شعر هذا العصر رأيته يختلف في تجدده ومحافظته باختلاف فنونه وأغراضه، وأكثر ما يظهر لك الجديد من الشعر في الغزل والمجون، والخمر واللهو، ووصف القصور والحدائق، والطبيعة والرياض؛ لأن الشعراء كانوا يصورون في هذه الفنون عواطفهم وأخلاقهم، ويصورون عادات عصرهم وأخلاق أبنائه، وما فيه من ترف وخلاعة، وما تقع عليه عيونهم من جمال مطبوع وجمال مصنوع. وأما في وصفهم القفار والطلول والإبل فيصورون عصرا يختلف كثيرا عن عصرهم، فهم في تجددهم صادقون ينطقون بما يرون ويحسون، وهم في تقليدهم كاذبون مسيرون. (5) أغراض الشعر وفنونه
تعددت أغراض الشعر في هذا العصر وتنوعت بتنوع أسباب الحضارة، ولكنها لم تكن كلها في مستوى واحد؛ فمنها ما كان قويا فضعف، ومنها ما كان ضعيفا فقوي، وأهمل بعض الفنون، وبقي بعضها على حاله، واستحدثت فنون أخرى لم تكن معروفة في الشعر القديم، ولضعف هذه الأغراض وقوتها وإهمالها واستنباطها أسباب نأتي على ذكرها: (5-1) الشعر السياسي
شاع هذا الفن في الصدر الأول للإسلام بين شعراء النبي وشعراء المشركين، ثم ازدهر في الصدر الثاني يوم كانت الأحزاب السياسية تتطاحن، وبنو أمية يصطنعون الشعراء للدفاع عن حقوقهم، ولكنه لم يلبث أن أخذ يتضاءل بعد قيام الدولة العباسية، واعتمادها على السيف في قهر أعدائها؛ فتفككت عرى الأحزاب، فتلاشى بعضها وضعف خطر الآخر منها، كالعلويين والخوارج؛ لانقسامهم وكثرة ما نالهم من التقتيل.
وكان أكثر الشعراء النابهين من الموالي، وهؤلاء لا عصبية لهم في القبائل العربية؛ فيكون لشعرهم السياسي تأثير بليغ كتأثير شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأن أولئك كان لهم منزلة رفيعة في نفوس القبائل التي ينتسبون إليها، وفي نفوس القبائل التي تناصبهم العداء، فبنو أمية لم يصطنعوا الأخطل شاعرا سياسيا إلا لأن بني تغلب كانت تقوم وتقعد لشعره، ولأن القبائل المعادية كانت تتضور من هجائه المقذع الأليم، فهيهات أن يكون لشاعر من الموالي مثل هذا التأثير مهما علا قدره في دولة القريض.
ولولا ملاحيات الشعوبية والعرب ، وبقية نضال بين العباسيين والطالبيين،
9
لاضمحل الشعر السياسي، ولكنه على ضعف خطره لم يخل من شر وإقذاع، وخصوصا ما كان من الشعراء الموالي بعد أن قويت شوكة الشعوبيين، فإنهم أخذوا يعيرون العرب وينشرون مثالبهم، وفي شعر أبي نواس أبلغ شاهد على ذلك، ثم ما كان من شعراء الشيعة، فإن بعضهم أسرف في هجاء بني العباس، وأفحش القول في خلفائهم؛ على حين أن شعراء العباسيين كانوا يتورعون من هجاء العلويين؛ ذلك بأنهم أبناء بنت الرسول.
وأشهر شعراء القصر العباسي: مروان بن أبي حفصة، وأبو العتاهية، وأبو نواس، وأبو تمام. وأشهر شعراء الشيعة: السيد الحميري، ودعبل، وديك الجن. (5-2) الغزل والمجون
رأينا في الكتاب الأول كيف نهض الغزل في صدر الإسلام بنوعيه «البدوي العفيف، والحضري المتهتك».
صفحه نامشخص
فأما الأول فلم يبق له حظ كبير في هذا العصر؛ لشيوع الخلاعة والفسق في جميع الحواضر والأمصار، ولأن شعراء البادية كانوا يتهافتون على بغداد متكسبين؛ فتستهويهم حضارتها، ورخاء عيشها، فتطيب لهم السكنى فيها؛ فما يلبثون أن يدب فيهم الفساد، فيتخلقوا بأخلاق أهلها.
وأما الثاني فقد ازداد شيوعا وكثر أتباعه، وولدوا منه نوعا جديدا صوروا به مبلغ ما انتهى إليه الفساد عندهم، وهذا النوع هو الذي يسمونه غزل المذكر، وكان سبب ظهوره اختلاط العرب بالأعاجم المترفين، وكثرة الرقيق من غلمان الترك والديلم والروم، وربما اصطنع الشعراء غزل المذكر في الإناث تلطفا، وتكنية أو مجاراة للوزن والقافية.
وكان للمرأة العجمية البيضاء نصيب من الرق، وكانت على جانب من العلم والأدب، تقرض الشعر وتحسن الغناء، ولا تتحرج من مجالسة الرجال ومنادمتهم؛ فتحول الغزل إليها بعد أن كان محصورا في المرأة العربية، وكثرت مجالس اللهو، فكانت تعقد في دور الخلفاء والأمراء، كما تعقد في الحوانيت والمنازل الخاصة.
وأفرط الشعراء في المجون لاتساع رزقهم، ووفرة أسباب لهوهم؛ فخلعوا رداء الحياء، وأرادوا التغزل فتعهروا، وأسرفوا في تعهرهم؛ فكان شعرهم صورة لتلك البيئة المريضة الأخلاق.
وكان الغزل في الجاهلية والإسلام تمازجه الأنفة والرصانة، فاكتسى في العباسيين ثوب العبودية والمذلة؛ فصار الشاعر لا يطيب له إلا أن يفرش خديه موطئا لقدمي حبيبه، وإلا أن يدعوه مولاه وسيده ومالك رقه، والإسراف في اللذة يولد الذل والعبودية في نفس طالبها؛ لأن النزول بالحب من الدرج الأعلى إلى الدرك الأسفل يميت الأنفة ويبعث الخنوع، ولا نرى حاجة إلى التبسط في الكلام على الغزل الذي كانوا يوطئون به قصائد المدح؛ فالتكلف ظاهر على أكثره؛ لأن أصحابه كانوا ينظمونه ترسما للأقدمين، لا اندفاعا مع الشعور الصادق. (5-3) الشعر الخمري
ولا غرو أن يكون للخمرة سهم وافر من هذه الحياة الأثيمة، وهي آلة الإثم؛ فتذيع بين الناس ويذيع معها الشعر الخمري بعد أن كاد يتلاشى في صدر الإسلام، ولولا الأخطل والوليد بن يزيد وبعض الشعراء المغمورين لما كان له شأن.
وزاد الناس إقبالا عليها إقدام بعض الخلفاء على شربها، فقد كانوا يقيمون مجالس اللهو في قصورهم؛ فتغني القيان لهم، ويدور الغلمان عليهم بالكئوس، فيشربون ويلهون ويعبثون، وكانت بغداد وما جاورها من القرى حافلة بالحوانيت والدساكر، فكان الشعراء يقصدونها للسكر واللهو، فافتنوا في وصف الخمرة وكئوسها، وتأثيرها في نفس شاربها، ووصف السكارى وعربدتهم، والساقي والساقية والقينة والنديم؛ فأبدعوا في هذا الفن أيما إبداع، وأحدثوا فيه أشياء جديدة لم يسبقوا إليها، ونستطيع القول إن الشعر الخمري بلغ غاية الجمال في هذا العصر لو لم يشبه شيء كثير من التعهر والمجون. (5-4) المدح
كانت بغداد موردا عذبا لطوائف الشعراء، فأقبلوا عليها ينهلون من فيضها، فما ينضب معينه ولا يرتوون؛ فتكاثر عددهم، وأخذوا يتنافسون في مدح الخلفاء والأمراء، مستدرين أكفهم، مبالغين في مدحهم والزلفى إليهم، فأصبح الغلو ميزة خاصة لهذا النوع من الشعر؛ لأنه جعل آلة للتكسب، ولأن أولي الأمر تبدلت أذواقهم بتبدل البيئة؛ فخرجوا عن السذاجة الفطرية التي كان يتحلى بها الأوائل، واستهوتهم أبهة الملك وعزة السلطان، وهزتهم الحضارة الفارسية بما فيها من صور وألوان، فأصبحوا وفي نفوسهم من الكبر والعتو ما يحبب إليهم مغالاة الشعراء في مديحهم، وصاروا يرتاحون إلى كاذب الأقوال، كما كان أسلافهم يطمئنون إلى صادقها.
ولم يربأ الشعراء بأنفسهم عن الكذب والتملق ؛ فماتت أنفتهم، وأراقوا ماء وجوههم، وعفروا جباههم على الأعتاب، وقل من صان نفسه عن الزلفى والتذلل. (5-5) الهجاء
ظل الهجاء على ما كان عليه في صدر الإسلام من فحش وإقذاع، وكثرت مهاجاة الشعراء بعضهم لبعض، ولم يتنكبوا عن هجاء الخلفاء فعل بشار ودعبل، وجعلوا الهجو كالمدح آلة للتكسب، يهددون به من يمدحونه إذا أخلفهم غيثه أو أقل دره؛ فعرضوا أنفسهم للحبس والضرب والنفي، وللموت أحيانا. (5-6) الرثاء
صفحه نامشخص
اكتسب الرثاء العاطفي رقة وسهولة؛ فزاد تأثيره في النفوس. وأما الرثاء المتكلف فكان كالمدح مشحونا بالغلو والكذب، ومما ينبغي ذكره أن الشعراء أكثروا من توطئة مراثيهم بالزهد والمواعظ، وذم الدنيا والتذمر على الدهر. (5-7) الفخر والحماسة
من المعقول أن يضعف هذا النوع بعد أن انصرف الشاعر إلى اللهو والمجون والتزلف، وبعد أن فقد عصبيته وسيادته ونخوته وفروسيته، وخصوصا أن أكثر الشعراء من الموالي، وهم في جملتهم فرسان قصف لا فرسان حروب. (5-8) الزهد
لم يعرف الزهد على حقيقته إلا في هذا العصر بعد أن ترجمت الحكمة الفارسية الهندية، واطلع عليها الكتاب والشعراء، وكان أبو العتاهية أول شاعر تأثر بها فأظهرها في شعره، وافتن في الزهد فأبدع بعد حياة قضاها بالعبث والمجون، وجاراه كثير من الشعراء فأجادوا، ولكنهم لم يبلغوا غايته. (5-9) الحكم
والحكم أيضا كان لها شأن يذكر، وارتفعت بعد نقل الفلسفة اليونانية، فاصطنعها الشعراء ومنهم من أكثر منها، وطبع بها شعره كأبي تمام.
وتختلف الحكم في هذا العصر عنها في الجاهلية والإسلام أنها أصبحت قائمة على مذاهب فلسفية، وأدلة عقلية، وتفكير صحيح، ولم تبق محصورة فيما توحيه للشعراء تجارب الأيام وحوادثها.
وإليك مطلع قصيدة أنشدها محمد بن عبد الملك في حضرة المأمون، يحرضه على قتل إبراهيم بن المهدي
10
حين ظفر به؛ فتجد الفلسفة اليونانية ظاهرة كل الظهور:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
يكون له كالنار تقدح بالزند؟ (5-10) الطرديات
صفحه نامشخص