واللغة التي يرفضها العصر حتى ولو كانت لغة قديمة لا يمكن استعمالها من جديد، فمهما أمكن إبراز معنى الخلافة أو الإمامة من شورى، وبيعة، واختيار إلا أن اللفظ لا يستعمل نظرا للشحنات التاريخية، والخلافات المذهبية التي تشع منه، فلو حاول أحد الآن عمل نظرية في الخلافة لوجد آذانا صماء، كما لو حاول أحد أن يعمل نظرية في التجسيم أو في التشبيه لوجد عداء وتكفيرا، كما لو استعمل أحد لفظ الإلحاد «والكفر» لكان أشبه بمن يرطم رأسه بصخر، ويقف الهدف من «التراث والتجديد» وهو عمل ثقافة وطنية يمكن التعبير عنها بلغة يقبلها الشعور العامي، فالألفاظ التي يتقبلها العصر هي التي يمكن استعمالها، بل إن في العصر ألفاظا تجري مجرى النار في الهشيم مثل: الأيديولوجية، التقدم، الحركة، التغير، التحرر، الجماهير، العدالة، وهي الألفاظ التي لها رصيد نفسي عند الجماهير، والتي يمكن أن تعبر عن ثقافة وطنية يمكن تكوينها، لا يعني ذلك تملق الجماهير أو اللعب على أوتارها الحساسة، بل تعني أخذ العرف في الاعتبار، والمعنى العرفي جزء من معنى اللفظ عند علماء اللغة القدماء، كما جرت العادة على نقل العرف من المعنى إلى اللفظ، ويعني أيضا تطويع اللغة في نشأتها واختيار ألفاظها إلى متطلبات الواقع حتى لا تقع في انعزالية الثقافة بصورية اللغة.
اللغة التقليدية إذن قاصرة عن أداء وظيفتها في إيصال المعاني التي يمكن للباحث أن يعبر عنها للآخرين، فإذا بدأ الباحث برؤية الشيء، وفهمه لمعناه ثم وضعه في اللفظ المناسب للتعبير فإن السامع يبدأ بسماع اللفظ ثم يتحدد معناه ثم يرى الشيء الذي رآه الباحث أولا، فإذا كان تجديد اللغة مهما بالنسبة للباحث بإعطائه المعنى وإشارته إلى الشيء، فإنه مهم أيضا بالنسبة للآخر باستقباله المعنى ورؤيته للشيء . (1-2) مميزات اللغة الجديدة
واللغة الجديدة تحاول أن تتلافى عيوب اللغة التقليدية التي تعوق التعبير والإيصال وتحاول أن تستبدل بخصائصها خصائص أخرى يمكن بواسطتها سهولة التعبير عن المضمون ودقة إيصال المعنى المطلوب، وأهم هذه الخصائص هي: (1)
أن تكون اللغة الجديدة عامة، بل وأكثر درجات اللغة عموما حتى يمكن بها مخاطبة كافة الأذهان؛ فمثلا لفظا عام وخاص في أصول الفقه لفظان عامان يمكن لكافة الأذهان فهم المراد منهما، بل ومناقشة المضمون واقتراح تغيير أحدهما أو تغييرهما تغييرا كاملا. وكل مصطلحات أصول الفقه - خاصة فيما يتعلق بمناهج الرواية أو بمناهج اللغة ألفاظ عامة - يمكن أن تنطبق على أي تراث وعلى أي نص ديني.
6
وفي أصول الدين، النظر والعمل لفظان عامان يمكن لكل الأفهام أن تحصل على المراد منها، وكذلك ألفاظ الحرية والاختيار، العقل والنقل، كلها ألفاظ عامة لا تخص حضارة بعينها، وتعبر عن أكبر قدر من العمومية لأكبر عدد ممكن من الناس، بل إن من خصائص لغة العلم المحكم هي أنها تكون عامة، حيث يمكن العلماء في أي مكان وفي أي عصر التعامل بها، بذلك يفضل العلم اللغة الرياضية والرموز. أما مصطلحات الصوفية فإنها تحتوي من قبل على درجة كبيرة من العمومية نظرا لأنها تعبير مباشر عن الوجدان، والوجدان واحد عند كل الناس، ومن ثم تصبح عملية «التراث والتجديد» عملية جماهيرية وثقافية وطنية يقرؤها الجميع وتسد فيهم النقص النظري في فكرنا المعاصر، كما تستطيع أن تصوغ لغة واحدة يستعملها المثقفون بصرف النظر عن تخصصاتهم ومواقفهم الفكرية، وتكون اللغة المشتركة، وكثيرا ما ضاع الفكر من أجل خصوصية اللغة كما هو الحال في الفكر المسيحي الذي يصر على استخدام لغته الخاصة في العقائد، وكثيرا ما ثبت الفكر بفضل عمومية اللغة كما هو الحال في بعض جوانب تراثنا القديم. (2)
أن تكون اللغة الجديدة مفتوحة، تقبل التغيير والتبديل إما في مفاهيمها أو في معانيها أو حتى في وجودها، وإما بإبقائه أو بإلغائه كلية. اللغة المفتوحة ليست جامدة محددة، بل تقبل إضافات وتغييرات كل خبرة إنسانية فردية أو مشتركة، فيمكن النقاش مثلا في العام والخاص هل هما الكلي والجزئي المنطقيان أم هما الكلي والجزئي في الفلسفة أم هما مقولتان سلوكيتان. فالخاص خطاب للفرد والعام خطاب للناس جميعا، ويمكن النقاش أيضا في علم أصول الدين إذا كان النظر والعمل وجهين لشيء واحد أم شيئين مستقلين وإذا كانا يوازيان اليقيني والظني أم لا؟ أو التساؤل عن النقل والعقل هل هما شيء واحد أم شيئان مختلفان، وإلى أي حد هناك اختلاف، وما هي وظيفة كل منهما؟ وكذلك يمكن التساؤل في الفلسفة عن قسمة الوجود إلى واجب وممكن، أو إلى جوهر وعرض، أو إلى موجود بذاته وموجود بغيره، وإلى أي حد يمكن قبول هذه القسمة أو رفضها؟ وفي التصوف يمكن أيضا الاستفسار عن معنى الأنس، والوجد، والقرب، والبعد، والهجر، والوصال ... إلخ، ومناقشة التجارب النفسية التي وراءها، ومن ثم يمحى خطر التعقيد اللغوي السائد في فكرنا المعاصر، والتشدق بالألفاظ والمفاهيم الصعبة، وكلما ازدادت اللغة صعوبة عظم الفكر عمقا، وصرخ الباحث أن اللغة العربية غير طيعة للتعبير عن هذه المفاهيم الحديثة والتصورات العصرية والعلوم اللسنية كما يحدث أحيانا عند إخواننا الباحثين الشوام والمفكرين المغاربة لزيادة في تغربهم ونقص في تعربهم. (3)
أن تكون اللغة عقلية حتى يمكن التعامل بها في إيصال المعنى، وأية لغة قطعية لن تعبر عن شيء لأنها مغلقة على نفسها، ولا تكون لغة اصطلاحية لأن هذه هي ما اصطلح عليه الناس. واللغة القطعية لغة توقيفية خالصة، إما أن تقبل أو ترفض، ولكن لا يمكن تغييرها أو إعطاؤها معاني جديدة. اللغة العقلية هي التي يفهمها كل الناس بلا شرح أو تعليق أو سؤال أو استفسار، بل يفهمها العقل بطبيعته، ويتعامل معها كأنها منه؛ فالعمل، والحرية، والشورى، والطبيعة، والعقل، كلها ألفاظ عقلية في علم التوحيد لا يمكن للعقل أن يرفضها، أما ألفاظ الله، والجنة، والنار، والآخرة، والحساب، العقاب، والصراط، والميزان، والحوض، فهي ألفاظ قطعية صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل؛ لذلك سماها تراثنا القديم السمعيات وأخرجها من العقليات، لذلك لا يمكن استعمالها استعمالا شائعا عاديا مثل لغة الخطيئة، والتجسد، والخلاص، والفداء، والسر، والشخص، والأقنوم. صحيح أن تراثنا الإسلامي أقل إيغالا بكثير من أي تراث آخر مسيحي أو يهودي أو بوذي، وأن كثيرا من الألفاظ السياسية المعاصرة لترقى إلى الكهنوت، ومن ثم استحال أيضا استعمالها مثل: تحالف قوى الشعب العامل، الاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي، والرأسمالية الوطنية منذ عشر سنوات، والإيمان، وسيادة القانون، وأخلاق القرية هذه الأيام، وكما هو الحال أيضا عند بعض الماركسيين المحدثين الذين لا يعبرون عن فكرهم إلا بمقولات الجدل، والكيف، والكم، والتناقض، والسلب، والنفي، والمادية، والتاريخية، والصراع، والطبقات، وملكية وسائل الإنتاج، ونمط الإنتاج، والقيمة، وفائض القيمة ... إلخ، والنتيجة هي نفور الشعب من قاموس السياسة؛ فمصطلحاته القديمة بالرغم مما فيها من عيوب يدركها المستنيرون، أكثر تعبيرا عن أشواقه وتطلعاته. (4)
أن تكون اللغة لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكما للمعاني ومراجعا إذا تضاربت وتعارضت؛ فألفاظ الجن والملائكة والشياطين، بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدي دور الإيصال، وكذلك ألفاظ العقل الفعال، والعقل المنفعل، والعقول العشرة، وأرواح الأفلاك، والروح؛ كلها ألفاظ لا تشير إلى أشياء في الواقع وتجسيمات لمعاني إنسانية خالصة يمكن التعبير فيها بلغة عقلية تشير إلى شيء موجود بالفعل في الحس والمشاهدة. وكذلك ألفاظ عين الله، ويد الله، وقلب الله ووجه الله، وصعود الله، ونزوله، وجلوسه، وقيامه؛ كلها ألفاظ لا يمكن استعمالها لأنها أقرب إلى الصور الفنية منها إلى ألفاظ إخبارية. وكذلك الميزان والصراط والأعراف والحوض ومنكر ونكير وكل ما أطلق عليه العلماء القدماء السمعيات لا تشير إلى حس ومشاهدة إلا عن طريق تأويل معاني الألفاظ واستعارة الألفاظ الحسية للدلالة بها على معان إنسانية. وإن اللغة بطبيعتها من خلال المعاني الاشتقاقية للألفاظ تنشأ من الحس وتخرج من الواقع، ولا يوجد معنى للفظ إلا وقد نشأ أولا من التربة والطين والأرض ، ويظل هذا المعنى هو أساس المعنى الاصطلاحي، وقد بدأ الأصوليون تجديد معاني مصطلحاتهم بالبحث عن المعنى الاشتقاقي للفظ؛ فهو المعنى الأول والأصيل والذي يكون ركيزة المعنى الاصطلاحي، ولا يكون المعنى الاصطلاحي في الحقيقة إلا تصحيحا للمعنى الاشتقاقي ونقله من التربة والأرض إلى العلاقات الإنسانية؛ فالزكاة في أصلها النماء، والصلاة في أصلها العلو، والشهادة أصلها الحس والواقع والرؤية، وبالتالي يمكن حماية فكرنا المعاصر من جعبة ألفاظه التي تدل على شيء كما يمكن بذلك القضاء على انعزالية الفكر وعزلة المفكرين. (5)
أن تكون اللغة إنسانية لا تعبر عن مقولة إنسانية كالنظر، والعمل، والظن، واليقين، والقصد، والفعل، والزمان، والباعث، فهي كلها ألفاظ تشير إلى جوانب من السلوك الإنساني لواقع في الحياة اليومية، يقابلها كل إنسان ويستعملها مهما كانت عقيدته أو مذهبه أو تياره الفكري، أما ألفاظ القديم، والحادث، والجوهر، والعرض، والوجود، والماهية، والجهة، والإضافة، فكلها ألفاظ وإن كانت عقلية عامة إلا أنها لا تستعمل لوصف سلوكنا اليومي بالإضافة إلى أن طابعها المجرد قضى على الموضوع ذاته، واللغة هي تعبير وإيصال للمعنى وليست قضاء عليه ومحو الشيء المشار إليه، أما اللغة التي لا تعبر عن مقولات إنسانية مثل «الله» والجواهر المفارقة، والشيطان، والملاك، فهي لغة اصطلاحية عقائدية تشير إلى مقولات غير إنسانية إلا إذا أولناها وفسرناها وأعطيناها مدلولات إنسانية، فالله يصبح هدف الإنسان وغايته ورسالته ودعوته في الحياة، والشيطان يصبح هو المعارض الذي يمثل الغواية والخطأ والحافز، والملاك يصبح هو ما يرجوه الإنسان من طمأنينة وخير ورحمة وأمن واستقرار ودعة، وبالتالي يمكن نقل عصرنا من مرحلة التمركز حول الله وهي المرحلة القديمة إلى مرحلة التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية، كما يمكن اكتشاف الإنسان الغائب في تراثنا القديم والممحو في وجداننا المعاصر، والإنسان كامن في تراثنا القديم ولكنه مغطى ومستور، وعصرنا الحالي هو عصر الإنسان، وبالتالي تكون مهمة عصرنا إبراز المستور، والكشف عن الإنسان، وتلك هي مهمة «التراث والتجديد» في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين على أنه «علم الإنسان». (6)
صفحه نامشخص