وقد كان الحدس قصير المدى لضعف في التكوين الثقافي لصاحب الحدس، فلو أنه استمر فيه وطوره، وبرهن عليه، وأعطى له تطبيقات أكثر، وأدخله ضمن العلوم الإنسانية لقدر له البقاء والاستمرار، ولتحول إلى نظرية عامة بل وإلى أساس نظري لسلوك الناس، وربما أيضا غاب النفس الطويل عن الكاتب، وأسرع في التعبير عن حدسه ولم يصبر حتى يتحول إلى بناء نظري عام في مجتمع يريد الشهرة ويفرح بالأبطال الذين يلوحون بالفكر، وكيف يسقط الزمان من الحساب وهو الحامل للاختمار؟ وقد يكون السبب أيضا عدم تكوين مدرسة فكرية تتبنى الحدس الأول وتطوره حتى يمكن أن يظهر من خلالها مفكرون يحولون الحدس إلى تيار فلسفي وبالتالي إلى حركة في الواقع وإلى مسار تاريخي، وربما لأن صاحب الحدس ما زال فردا، وما زال يسري عليه ما يسري على الآخرين من اعتزاز بالشخص وبالعبقرية الفردية لنقص في المعرفة بدور المفكر في التاريخ، وبطريقة سري الأفكار وتحقيقها وانتشارها، وربما لعدم إنشاء حزب يكون مهدا للفكر، ومحققا للحدس في التاريخ يتربى من خلاله الناس، وينشأ فيه المفكرون والكتاب، وربما لتخوف المفكرين وتنصل الكتاب من تبعة المسئولية، فتطوير الحدوس يلزم المفكر بالواقع وهو لا يريد إلا أن يكون عارض نظريات؛ لذلك يؤثر المفكرون السلامة وحسن العاقبة.
وكما أن دراسات المستشرقين ليست «دراسات موضوعات» بل «موضوعات دراسة»، فكذلك دراسات الباحثين المعاصرين الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة ليست دراسات لموضوعات بل موضوعات لدراسة، وكما أن دراسات المستشرقين تكشف عن التكوين الثقافي والنفسي للباحث أكثر مما تكشف عن واقع مدروس فكذلك دراسات الباحثين المسلمين تكشف عن ثقافتهم وتكوينهم وواقعهم النفسي والاجتماعي أكثر مما تكشف عن واقع مدروس، وكما أننا لم نستعمل دراسات المستشرقين كمصادر للتراث والتجديد لأنها تحتاج إلى فحص سابق، والجهد المبذول في ذلك أكثر بكثير من النتائج المرجو الحصول عليها، فكذلك لم تستعمل دراسات الباحثين المسلمين لأن الجهد المبذول في إعادة تحقيقها أكبر بكثير من النتائج المرجوة منها؛ وذلك لأنها تكرار وترديد أو مسخ وتشويه للقديم، ولأننا نريد إعادة بناء القديم الخام وتطويره دون المرور بالدراسات الثانوية، والأسهل مضغ اللقمة مباشرة ثم ابتلاعها بدلا من ابتلاع لقمة من مضغ الغير، ومع ذلك فالدراسات الثانوية يمكن أخذها كمؤشر على عقليتنا المعاصرة وكنموذج لما وصلت إليه دراساتنا حول التراث، فهي تكشف عن واقعنا أكثر مما تكشف عن القديم.
وإذا كان خطأ النعرة العلمية أنها تعرف «كيف تقول» دون أن تعرف «ماذا تقول»، «فإن خطأ النزعة الخطابية» أنها تعرف «ماذا تقول» دون أن تعرف «كيف تقول»، والتراث والتجديد محاولة لتفادي الخطأين معا؛ إذ يحاول أن يعرف «ماذا يقول» وهو التراث، و «كيف يقول» وهو التجديد.
رابعا: طرق التجديد
يحدث التجديد بعدة طرق، بعضها خاص باللغة، والبعض الآخر خاص بالمعاني والبعض الثالث خاص بالأشياء ذاتها طبقا لأبعاد الفكر الثلاث: اللفظ، والمعنى، والشيء. (1) منطق التجديد اللغوي
إن اكتشاف لغة جديدة هو اكتشاف للعلم، وطالما تأسس العلم بتأسيس لغته أولا، بل إن تطور العلوم وانفراج أزمتها يحدث باكتشاف اللفظ أو المفهوم، ومن ثم يصبح التجديد عن طريق اللغة هو بداية العلم الجديد.
واللغة وسيلة للتعبير، ويمكن لفكرة صحيحة أن يعبر عنها بلغة غير محكمة ثم تضيع الفكرة، كما يمكن لفكرة غير صحيحة أن يعبر عنها بلغة محكمة فتثبت الفكرة وتنتشر ويعتنقها الناس؛ ومن ثم كانت أهمية اللغة كوسيلة للتعبير والإيصال. وقد فرض كل فكر جديد لغته، وبدأت كل حركة جديدة بتجديد اللغة أولا، إذ يحدث أحيانا عندما تطور الحضارة وتمتد وتتسع معانيها أن تضيق بلغتها القديمة الخاصة التي لم تعد قادرة على إيصال أكبر قدر ممكن من المعاني لأكبر عدد ممكن من الناس، فتنشأ حركة تجديد لغوية، وتسقط فيها الحضارة لغتها القديمة الخاصة وتضع لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير.
1
إن العلوم الأساسية في تراثنا القديم ما زالت تعبر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هذه العلوم، والتي تقضي في الوقت نفسه على مضمونها ودلالتها المستقلة، والتي تمنع أيضا إعادة فهمها وتطويرها، يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، كما هو الحال في علم أصول الدين، أو القانونية مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه، كما هو الحال في علم أصول الفقه، أو التاريخية الملتصقة ببيئة ثقافية معينة مثل: الجوهر، العرض، الممكن، الواجب، الضروري، الحادث، العقل الفعال، العقل المنفعل كما هو الحال في الفلسفة، أو الرضا، التوكل، والورع، الصبر، الخشية، الخوف، الحزن، البكاء كما هو الحال في التصوف. هذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقا لمتطلبات العصر نظرا لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومهما أعطيناها معاني جديدة فإنها لا تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء بمهمتيها في التعبير والإيصال.
ولا يتم التجديد بطريقة آلية، بإسقاط لفظ ووضع أي لفظ آخر محله، مرادفا أو شبيها، بل بطريقة تلقائية صرفة يرجع فيها الشعور من اللفظ التقليدي إلى المعنى الأصلي الذي يفيده ثم يحاول التعبير من جديد عن هذا المعنى الأصلي بلفظ ينشأ من اللغة المتداولة كما كان اللفظ التقليدي متداولا شائعا في العصر القديم. وهذه عملية طبيعية تحدث في أوقات تجديد الحضارات ومرورها بمراحل جديدة في تطورها؛ إذ يقبض الشعور على المعاني الأولية وهي جوهر الحضارة، ويخشى عليها من الضياع والجرف إبان التغير اللغوي، ثم يعبر عن هذه المعاني بلغة من واقعه الذي يعيش فيه؛ فالمعاني هي معان التراث، واللغة لغة التجديد. إن تجديد اللغة ليس عملا إداريا يتم والباحث على مكتبه يغير اللغة التقليدية كيف يشاء، بل هو عمل تلقائي يتم في شعور الباحث الذي يجد نفسه غير قادر على التعبير عن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية نظرا لثقافته الحديثة ولبيئته الثقافية الجديدة؛ وعلى هذا يتم التجديد اللغوي وكأن اللغة تنشأ من جديد، ولكنها تكون لغة ثانية لها طراز في اللغة التقليدية؛ ولذلك أمكن تسمية هذا التغيير تجديدا لغويا باعتبار النشأة الأولى التي تمت في المرحلة التقليدية، وذلك لأن المعاني الكامنة والتي لا يتم التعبير عنها بسهولة في اللغة التقليدية قد تأتي لحظة إما تتفجر فيها، وتصبح ثورة فكرية بلا قيود لغوية وبلا استمرار حضاري، أو تلفظ كلية وتصبح انقطاعا وتحولا عن التراث التقليدي كله. إن اللغة الجديدة من شأنها السماح لهذه المعاني بالتعبير، وتكشف عن أشياء كانت خافية في بطن اللغة التقليدية، والتجديد اللغوي لا يتلخص فقط من ركود اللغة التقليدية وقصورها في التعبير عن المعاني، ولكنه يتخلص أيضا من بعض القلق وعدم الوضوح في الاستعمال لبعض ألفاظ اللغة الجديدة؛ فألفاظ الشعور، والزمان والفعل والقصد كلها ألفاظ عائمة لا تفيد معنى محددا، بل تفيد عدة معان وربما متعارضة بل ومتضادة، فنظرا للمذاهب الفكرية التي نشأت فيها هذه اللغة وبيئاتها الثقافية، ونظرا لأن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية لها من الاستقرار والأصالة، لأنها خارجة من الوحي، مما يؤهلها لتكون عاملا للاستقرار اللغوي للغة الجديدة؛ فإن التجديد اللغوي يصبح ضرورة طبيعية تستبدل فيها اللغة القديمة بلغة جديدة من أجل التعبير عن المعاني المتجددة طبقا لمقتضيات الواقع.
صفحه نامشخص