ويرجع منهج الأثر والتأثر إلى نشأة المستشرق في بيئة ثقافية خاصة، هي البيئة الأوروبية التي تخضع ثقافتها للأثر والتأثر ، فقد نشأت الحضارة الأوروبية ابتداء بالبعث اليوناني في أوائل عصر النهضة وإحياء التراث العقلي القديم لإنقاذها من قطعية اللاهوت وسلطان الكنيسة، فكل مذهب فكري حديث له ما يقابله في الفكر اليوناني القديم، ولا يتضح ذلك في الفكر فحسب، بل يتضح أيضا في الأدب والفن والشعر والنثر والخطابة والعمارة والمسرح، فظن المستشرق بانطباعاته الثقافية وتكوينه الفكري أن اليونان هم مصدر كل حضارة، وأن الحضارة اليونانية هي السحر الذي يسري في كل حضارة تتصل به في حين أن علاقتها بالحضارة الإسلامية كانت علاقة رفض أكثر منها علاقة قبول، وإذا قبلت الحضارة الإسلامية منها شيئا فإنما تفعل ذلك بعد عرضه على العقل وإثبات اتفاقه معه، والعقل أساس النقل، ومن ثم فهي تقبل ما يمليه العقل أولا، وكذلك لما توالدت المذاهب الفلسفية في الغرب بعضها من البعض الآخر، وتأثر الفلاسفة بعضهم بالبعض ظن المستشرق أن كل حضارة إنما تنسج على المنوال الغربي وغالبا ما يكون الأثر الغربي هو الأثر الغربي الجيد من منطق وعقلانية وفكر منهجي أو تقوى باطنية وتحليل للأخلاق أو تصور علمي للعالم يقوم على إثبات قوانين الطبيعة واستقلال العقل، كل ذلك أتى من الخارج، ولم ينتج من الداخل إلا الأفكار التقليدية الشائعة التي تعبر عن التخلف الفكري والركود العقلي، وكأن الثقافة لشعب ما وما تنتجه من جديد لا تكون إلا عميلة للغرب وتابعة له وامتدادا لسلطانه، خطأ هذا المنهج إذن هو تفريغ الثقافة المدروسة من مضمونها، وإرجاع الداخل إلى الخارج، والقضاء على جدتها وإبداعها، وهو خطأ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها أحادية الطرف، الأولى معطية منتجة مبدعة وهي الثقافة الأوروبية والثانية مستقبلة مجدية فارغة خاوية وهي الثقافة غير الأوروبية، وتعبر هذه العلاقة أحادية الطرف عن عقلية عنصرية، وشعور متمركز على الذات، ورغبة في السيطرة والهيمنة على ثقافات الشعوب وأقدارها.
كما يقوم منهج الأثر والتأثر على خطأ في فهم التأثر نفسه والحكم به بمجرد وجوه تشابه بين ظاهرتين في بيئتين مختلفتين بينهما اتصال تاريخي، وهذا غير صحيح على الإطلاق ، فالأثر والتأثر عملية حضارية معقدة تتم على مستويات عدة: اللغة والمعنى، والشيء، فلو كان هناك اتصال تاريخي بين حضارتين، وظهر تشابه بين ظاهرتين، فإن التشابه قد يكون في اللغة، وفي هذه الحالة لا يكون أثرا بل هي استعارة، ولا يكون في المعنى أو في الشيء بل يكون في الشكل أو في الصورة، واللغة هي صورة الفكر وشكله ووسيلة التعبير عنه، إذ إنه يحدث بنشأة حضارة ما وتطورها أنها تمتد حتى تصل إلى حدود حضارات أخرى سابقة عليها في الزمان، أي أنها أسبق منها نشأة وأكثر منها تطورا فيحدث أن تسقط الحضارة الناشئة ألفاظها القديمة وتستعير ألفاظ الحضارة المجاورة وتستخدمها للتعبير بها عن المضمون القديم، وهذا هو ما يسمى بالتجديد، وهذه هي إحدى طرقه بالاستعارة اللغوية، خاصة إذا كانت اللغة المستعارة عقلية وعامة ومفتوحة، فهي استعارة للشكل دون المضمون، وتجديد للصورة دون الفحوى، قد يحدث تجديد داخلي للمضمون والفحوى بفعل اللغة الجديدة ولكنه تجديد داخلي بتفاعل المعنى القديم مع اللفظ الجديد الذي يبرز جوانب من المعاني كانت خافية تحت اللفظ القديم أو يركز على جوانب أخرى كانت مهملة باللفظ القديم، وهذه الاستعارة اللغوية عملية طبيعية تحدث في كل لحظة تاريخية تتقابل فيها حضارتان معا، الأولى ناشئة والثانية متطورة حتى تنتقل الحضارة من الخاص إلى العام بفعل التطور، والاستعارة اللغوية على هذا النحو ليست أثرا أو تأثرا لأن الألفاظ مشاع بين الجميع يتداولها الناس، فهناك استعارة لغوية من الألفاظ الفارسية في الوحي لأنها كانت مشاعا قبل ذلك في الشعور العربي، كما نشأت ألفاظ العام والخاص والمطلق والمقيد وسائر مصطلحات علم الأصول في الرسالة للشافعي نشأة تلقائية لأنها لغة العقل البسيط.
20
أما إذا حدث تشابه في المضمون بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين فإن ذلك أيضا لا يمكن تسميته أثرا أو تأثرا دون تحديد لمعنى الأثر لأن إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة، أي أن الشيء نفسه موجود ضمنا في الظاهرة اللاحقة، وما كانت الظاهرة السابقة إلا مثيرا أو مقويا ووجود الباعث أو المثير أو المقوي لا يعني وجود الشيء نفسه، بل العامل المساعد الخارجي على إظهاره، فالصلة التاريخية لا تدل على أثر أو تأثر بقدر ما تدل على إظهار إمكانيات جديدة للحضارات الناشئة وتحويلها إلى ظواهر بالفعل بفضل الوسائل الجديدة المتاحة للتعبير، وكثيرا ما تؤثر الحضارة الجديدة الناشئة بمعانيها في الحضارة القديمة، فإذا استعارت الحضارة الناشئة ألفاظ الحضارة القديمة في التعبير بها عن معانيها الخاصة أخذت هذه الألفاظ معاني جديدة لم تكن فيها من قبل، واكتشفت في الحضارة القديمة أبعاد جديدة لم تكن معروفة من قبل ولم تعرف إلا بفعل الحضارة الجديدة الناشئة وبمعانيها الشابة.
21
ويجوز أيضا أن يوجد تشابه بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين، سواء وجد اتصال تاريخي بينهما أم لم يوجد، ويجوز أن يرجع هذا التشابه إلى تشابه في نفس الظروف التي أدت إلى ظهور نفس الأفكار ما دامت واحدة، والذهن الإنساني واحد، والحقائق واحدة، فهناك حقائق إنسانية عامة وثابتة تظهر هنا وهناك دون أن يكون هناك أدنى أثر من هذه الحضارة أو من تلك، فكلاهما راجعان إلى نفس المصدر، حقائق موجودة، وأذهان متفتحة تدركها، فالصلة التاريخية، وجودا وعدما، لا تدل على شيء من أثر أو تأثر، بل تدل على إمكانيات الحقائق الشاملة التي توجد في كل عصر، والتي تظهر في كل حضارة، منهج الأثر والتأثر يقضي على هذه الإمكانيات وينكر وجود معاني مستقلة عن التاريخ.
إن الحضارة الإسلامية قادرة على تمثل ثقافات الشعوب المجاورة ووضعها في قالبها؛ لأنه القالب الأوسع شمولا والأكثر عقلانية، ومن ثم لا يؤثر الجزء على الكل، بل يدخل الجزء ضمن الكل ويصبح متضمنا فيه، ومن ثم كان منهج الأثر والتأثر يهدف أساسا إلى القضاء على أصالة الحضارات وقدرتها على التمثيل والتعبير والخلق، وإلى القضاء على الظواهر المستقلة وقيامها من ذاتها، وإلى إرجاع كل شيء إلى مصادر خارجية، ومن ثم يقضي على فعل الروح وعمل الذهن، وهذا ما يهدف إليه المستشرق الغربي. (2) النزعة الخطابية
وهي النزعة التي تسود معظم الدراسات التي يقوم بها الباحثون الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة، وهو الخطأ المضاد للنعرة العلمية السائدة في معظم دراسات المستشرقين. وبالرغم من أن النزعة الخطابية تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، إلا أن الاتجاه اتجاه ساذج يعبر عن نوع من المراهقة الفكرية، حيث تسود العاطفة والانفعال، ويصدر الفكر مندفعا في حمية دون وضوح نظري؛ فهو ناتج عن أزمة أكثر من صدوره عن موقف فكري، أزمة الحق الضائع، والعجز العقلي، والتخلف الجماهيري، ويأخذ في الأحيان موقف المدافع والمقرظ لما يقول ولما يعبر عنه. قد يكون ذلك موقفا طبيعيا بالنسبة لمواقف الهجوم التي يتخذها إما بعض المستشرقين أو بعض الباحثين الإسلاميين التابعين لهم، ولكنه هجوم مؤقت انفعالي لا يرد على الحجة بالحجة، ومما يساعد النعرة الخطابية على الظهور هو نوع من الشهرة الإعلامية التي يتشوق إليها الباحث الذي في الغالب ما يكون مدعيا للتجديد أو متملقا لعواطف الجمهور رغبة في الانتصار الديني لدرجة أنه ينقلب أحيانا إلى نوع من الاستهلاك المحلي الصرف، خاصة إذا احتاجته السلطات السياسية لتعمية الموقف السياسي وملء الفراغ بالعواطف الدينية. النعرة الخطابية إذن نقص في الجدية بل ونقص في الوعي الإدراكي للمشاكل، يساعد على ذلك نقص في التكوين النظري للباحث فهو يعبر عن المستوى الثقافي الحالي من تطور الحضارة، ولكنه متخلف عن المستوى الثقافي للتراث القديم الذي استطاع دفع المشاكل وإيجاد حلول عقلانية لها، وقد بلغ التعقيل في تراثنا القديم درجة أن التراث كله أصبح نظرية في العقل.
وتظهر النعرة الخطابية في عدة مناهج، هي في الحقيقة تنويعات مختلفة على الخطابة دون أن تكون مناهج محكمة ذات أصول وقواعد وأهمها: التكرار أو تحصيل الحاصل، والتقريظ أو الدفاع، والجدال والمهاترات، والرؤية الحدسية قصيرة المدى. (أ)
التكرار أو تحصيل الحاصل: إن كان الصعب تسمية هذه الخاصية منهجا فإنها على الأقل تسود كثيرا من الدراسات وتغلب على عقلية كثير من الباحثين، وهي تكرار مضمون النصوص المدروسة دون الإدلاء بأي فهم أو تفسير لها، أي أنها تنقل بصورة أخرى مسهبة أو موجزة الموضوعات التقليدية كما هي معروضة في التراث القديم وكما تفعل الشروح القديمة التي لا تتعدى حدود الألفاظ والمصطلحات القديمة وتفسير الماء بالماء، فالعبارة هي نفسها العبارة مكررة في صور عديدة تفقدها تركيزها بل ومضمونها؛ إذ تحمل الفكرة الحواشي والشروح أكثر مما تستطيع لدرجة أنها تفقدها استقلالها ودلالتها. وغالبا ما يكون المنهج التاريخي وتحصيل الحاصل نفس المنهج؛ فالذي يقرر الوقائع التاريخية لم يفعل إلا أنه كرر ما هو معروف، ولكن المنهج التاريخي يستعمله المستشرق والتكرار يقوم به الباحث الذي ينتسب إلى نفس الحضارة. وكثيرا ما يعتمد التكرار على اقتباس النصوص ووضعها في صلب البحث حتى يتضخم، وغالبا ما تذكر المراجع ويضع الباحث المادة القديمة دون ذكر لمصادره، ويتعيش المعاصرون على السابقين، ويأكل الخلف على موائد السلف، ويتسطح الفكر ويمتط. لقد حدث هذا في عصر الموسوعات والشروح والملخصات خشية على التراث من الضياع تحت تأثير هجمات التتار والمغول. حفظ التراث ودون في موسوعات عامة كما يحدث في كل تراث، وكما حدث في التراث اليهودي في القرن السادس قبل الميلاد أثناء الأسر البابلي، ولكننا الآن، والحمد لله، لا نواجه هذا الخطر، فالتراث محفوظ ومدون بل ومنشور منه قسط كبير، ولكننا نواجه الخطر الآخر وهو خطر التكرار بلا فهم، والترديد بلا وعي، وعدم وجود تفسير معاصر لتراث قديم.
صفحه نامشخص