1 - الزيارة
2 - في الموقع
3 - أن تكون هناك
4 - دليل إرشادي بين أيدينا
5 - تحت السطح
6 - نظريات عظمى
7 - فن إعادة البناء
8 - أعظم عرض على الأرض
9 - تخيل هذا
10 - «حتى في أركاديا ها أنا ذا»
استعراض زمني لأهم الأحداث
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - الزيارة
2 - في الموقع
3 - أن تكون هناك
4 - دليل إرشادي بين أيدينا
5 - تحت السطح
6 - نظريات عظمى
7 - فن إعادة البناء
8 - أعظم عرض على الأرض
9 - تخيل هذا
10 - «حتى في أركاديا ها أنا ذا»
استعراض زمني لأهم الأحداث
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
التراث الكلاسيكي
التراث الكلاسيكي
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ماري بيرد وجون جراهام هندرسون
ترجمة
محمد فتحي خضر
شكل 1: العالم الكلاسيكي.
شكل 2: اليونان.
شكل 3: الأكروبول في أثينا.
شكل 4: مدينة روما.
الفصل الأول
الزيارة
داخل المتحف وخارجه
تبدأ مقدمة هذا الكتاب بزيارة قصيرة إلى أحد المتاحف. وقد وقع اختيارنا على المتحف البريطاني في لندن، وعلى حجرة منه تحديدا، توجد بها تحفة أثرية بعينها بقيت من العصر الإغريقي. والمتحف مكان يناسب البحث عن الحضارتين الإغريقية والرومانية، ولكن هذه الزيارة ستكون نقطة الانطلاق لاستكشاف التراث الكلاسيكي، والذي يمتد إلى ما هو أبعد من أي متحف وما به من مقتنيات.
سنتبع في زيارتنا المسار الذي حدده لنا الترقيم الموجود على مخطط المتحف الذي يتلقاها زواره، وهو المسار ذاته الذي تتبعه مختلف الأدلة بالتتابع، عبر صالات العرض (الشكل
1-1 ). فسنصعد الدرج الفخم، ثم نمر بالأعمدة الطويلة الموجودة في الشرفة الكلاسيكية، ثم ندلف إلى قاعة الاستقبال، لنمر بمحل بيع الكتب، ثم نمر من خلال جرار حفظ رماد الموتى، وجرار «علي بابا» الضخمة التي تمثل بلاد اليونان في عصر ما قبل التاريخ البطولي (الحجرتين 1 و2)، ثم نمر بأول الأشكال المنحوتة من الرخام القاسي التي تميز بداية النحت «الكلاسيكي» (الحجرتين 3 و4). ثم نسلك سبيلنا عبر المزهريات الإغريقية اللامعة بلونيها الأحمر والأسود (الحجرة 5)، إلى أن نصل إلى أسفل درج ضيق يقودنا إلى خارج المسار الرئيسي. (لم نصل بعد إلى زبدة المعروضات وأهمها؛ ألا وهي منحوتات البارثينون.) وبمجرد أن ننحرف، نجد مفاجأة في انتظارنا.
شكل 1-1: مخطط المتحف البريطاني : كيفية العثور على حجرة باساي.
شكل 1-2: عرض الغنائم: صورة كوكريل للمعبد الموجود في باساي بعد عملية التنقيب.
نصعد الدرج لنصل إلى الحجرة رقم 6، التي هي عبارة عن طابق أوسط يقع فوق صالات العرض الأخرى. ثم نمر أمام صورة مثيرة للمشاعر لأطلال قديمة رسمها نبيل إنجليزي، حرص على إضفاء علامات طبقته وشخصيته على اللوحة؛ بندقيته وكلبه (الشكل
1-2 ). يتبين لنا أن وجهتنا هي حجرة عرض ذات تصميم خاص، بها أضواء وضعت بعناية لتكون مسلطة على سلسلة من ألواح حجرية منحوتة يبلغ ارتفاعها قرابة نصف متر، وضعت متتالية، طرفا لطرف، لتشكل إفريزا (شريطا يصور أجساد محاربين، ورجالا، ونساء، وخيولا، وقناطير ...) يمتد في جميع أنحاء الحجرة عند مستوى النظر. (ليس هناك سنتيمتر واحد شاغر؛ لقد بنيت هذه الحجرة لتلائم ما بها تماما.) وهناك لوحتا معلومات لمساعدة الزائر. ويخبرنا القائمون على المتحف أن تلك المنحوتات كانت ذات يوم تشكل الإفريز، وأنها قد نحتت في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، داخل معبد للإله أبوللو في مكان يسمى باساي في أركاديا، وهي منطقة نائية تقع في الركن الجنوبي الغربي من اليونان. (جميع الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب موضحة على الخرائط الواردة فيه.)
يعرض الإفريز (كذا تقول اللوحتان) مشهدين من أكثر المشاهد شهرة في الأساطير الإغريقية. ويتبين لنا أن نصف هذا الكم الهائل إنما هو لأجساد محاربين في معركة خاضها الإغريق مع القناطير الخرافية التي يتكون كل فرد من أفرادها من نصف رجل ونصف حصان (التي اقتحمت بوحشية وليمة عرس وأفسدتها محاولة سرقة النساء)، وأما النصف الآخر فهم جنود يخوضون معركة بين الإغريق (كتيبة إغريقية على رأسها هرقل نفسه) ومحاربات الأمازون المتوحشات الغريبات غير المتحضرات. تقول المعلومات إنه من أشهر الإنجازات الاثني عشر لهرقل كانت سرقة حزام ملكة الأمازون.
عرف هذا الإفريز طريقه إلى المتحف البريطاني تحديدا بسبب ذلك النبيل الإنجليزي وأصدقائه، الذين مررنا بصورتهم في طريقنا إلى هنا. في أوائل القرن التاسع عشر اكتشفت بقايا المعبد الموجود في باساي على يد مجموعة من الأثريين والمستكشفين من إنجلترا وألمانيا والدنمارك. وفي غضون أشهر استطاعوا جمع ثروة صغيرة، وذلك عندما باعوا ما وجدوا من منحوتات بالمزاد للحكومة البريطانية. وقد انتهى المطاف بعدد قليل من الشظايا في كوبنهاجن، وهناك عدد قليل منها لا يزال في اليونان، ولكن أغلب تلك المنحوتات أعيد إلى إنجلترا.
مع ذلك، هناك لغز تحكيه لنا لوحة المعلومات؛ فهذه الحجرة من المتحف «بنيت لتكون ملائمة»؛ ولكن لأي شيء ملائمة؟ إن ما نراه اليوم من ثلاثة وعشرين لوحا وضعت بدقة طرفا لطرف وجنبا إلى جنب قد عثر عليها واحدا تلو الآخر متناثرة على نطاق واسع في أنقاض المعبد، في ظل فوضى عارمة؛ ولم يكن أحد يدري على وجه اليقين كيف تتناسق معا لتكون بانوراما حجرية ضخمة، ولم يكن أحد يدري ما الصورة التي من المفترض أن تكونها. لو ألقيت نظرة فاحصة على مخطط الرسومات الموجودة على ألواح الإفريز في نهاية هذا الفصل، فسترى «أحد» حلول مشكلة الشكل الأصلي. إن ما نراه في حجرة باساي بالمتحف لا يعدو كونه تخمينا صدر من أحدهم للصورة التي كان عليها الشكل الأصلي في الماضي.
كيف كان الشكل الأصلي في الماضي؟ لا تشغلنك أحجية تركيب الأجزاء معا؛ فقد نبهتنا لوحتا المعلومات أن تلك المنحوتات، في مكانها القديم، لم تكن تبدو قط كما تبدو الآن؛ فحين كانت في معبدها، كانت تلك المنحوتات على ارتفاع سبعة أمتار فوق جدار الحجرة الداخلية من المعبد؛ حيث تضعف الإضاءة، ولعله كان من الصعب أن يراها الناظر (دعونا نتخيل وجود الكثير من الغبار وخيوط العنكبوت)؛ فلم تكن في مستوى النظر، ولم تكن مسلطة عليها الأضواء للفت أنظارنا إليها كما هو الحال الآن. من البدهي بالطبع أن أقول إننا في متحف، مهمته تقديم هذه «الأعمال الفنية» لنراها (بهدف الإعجاب أو الدراسة)، نظيفة ومرتبة ومشروحة، ومن البدهي أن أقول إن معبد باساي لم يكن متحفا، بل كان مزارا دينيا، وإن هذه المنحوتات كانت جزءا من مكان مقدس عند الإغريق، و(كما سنرى) لم يكن يأتيه الزوار كي يبحثوا عن بطاقات تسمية وتفسيرات لما يرونه فيه. (فالقوم كانوا على علم بقصص صراع هرقل مع الأمازونيات، وصراع الإغريق ضد القناطير، مما كانت تحكيه لهم جداتهم.) بعبارة أخرى، هناك فجوة كبيرة بين السياق التاريخي لتلك المنحوتات والعرض الحديث لها.
إن المتاحف تعمل دائما في ظل وجود تلك الفجوة، ولقد تعلمنا نحن - زوار المتحف - أن نعتبر ذلك أمرا مفروغا منه؛ فنحن لا نستغرب إن رأينا، مثلا، رأس حربة ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ (لعلها يوما ما كانت قد اخترقت جمجمة أحد المحاربين تعسي الحظ واستقرت فيها مودية بحياته) توضع أمامنا في خزانة عرض أنيقة؛ بل إننا لا نتصور أن أيا من تلك المعروضات اللامعة في المتحف لآثار من المطبخ الروماني أعيد بناؤها - مع مكوناتها الكاملة وتماثيل الشمع المبهجة التي تصور الطهاة من الرقيق - تحمل سمات ذلك الواقع (الأشد قتامة) الذي كان يسود العصر الروماني، أو سمات أي طهاة أو خدم كانوا يعيشون في ذلك العصر. هذه هي طريقة عرض المتاحف لمعروضاتها. فنحن لا ننخدع ونصدق أن تلك المعروضات بالفعل تمثل الماضي.
في الوقت نفسه نجد أن الفجوة بين المتحف والماضي، بيننا وبين من عاشوا في تلك الأزمان، تثير عددا من الأسئلة. في حالة باساي، قد نكون على يقين أن المنحوتات كانت في الأصل جزءا من حرم ديني، وليست جزءا من متحف. ولكن ما مفهوم لفظة «الدين» هنا؟ وما تصورنا لذلك «الدين» الذي كان يمارس في المعابد الإغريقية؟ ألم تكن الأغراض «الدينية» أيضا «أعمالا فنية» في أعين الإغريق، كما هي في أعيننا؟ إن هذا المعبد (كما سنكتشف لاحقا) كان موجودا في مكان ناء؛ في الجزء الخلفي لأحد الجبال. ترى ماذا كان الغرض من إنشاء معبد هناك؟ ألم يسبق لأحد أن أتى إليه يوما ليزوره ويتجول في أرجائه باعتباره سائحا لا متعبدا ومتنسكا؟ ألم يرغب يوما أحد الزوار في ذلك العهد البعيد أن يشرح له أحدهم تلك المشاهد التي ترتفع سبعة أمتار وبالكاد ترى؟ وما الفرق بين زيارة هؤلاء لذلك المعبد وزيارتنا نحن للمتحف؟ بعبارة أخرى، ما مدى تأكدنا من الفجوة التي تفصل بيننا وبينهم، ومن الأشياء التي نشترك فيها مع زوار ذلك المعبد في القرن الخامس قبل الميلاد (من حجاج وسياح ومصلين ...) وتلك التي تفرق بيننا وبينهم؟
كما أن هناك تساؤلات حول ما يحكيه لنا التاريخ من أحداث وقعت خلال تلك الحقبة التي تفصلنا عنهم. إن تلك المنحوتات ليست مجرد أغراض ترجع إلى قصة تربط فقط بيننا وبين من بنوا ذلك المعبد أول مرة واستخدموه. ما الذي كانت تعنيه باساي لسكان اليونان خلال العهد الروماني، بعد مضي 300 سنة أو نحو ذلك على تشييد ذلك المعبد، عندما أتت جحافل روما القديمة بجبروتها لتضم بلاد اليونان إلى أكبر إمبراطورية عرفها العالم؟ هل أثر ذلك الغزو الروماني على من كانوا يؤمون ذلك المعبد، وعلى توقعاتهم؟ وماذا عن زمرة المستكشفين الجريئين الذين تحدوا لصوص اليونان (وكانت حينها تحت حكم الأتراك العثمانيين) لإعادة اكتشاف المعبد واستعادة ما به من منحوتات ليعودوا بها إلى إنجلترا؟ وهل كان ذلك فعلا يدل على الإمبريالية، أو الاستغلال الذي نخجل من ذكره الآن؟ وهل كانت تلك الزمرة سياحا كحالنا، أم لم تكن كذلك؟ وما المكانة التي كانت تمثلها باساي في نظرة هؤلاء للعالم القديم؟ وهل هي رؤية تجمع بيننا وبينهم، قائمة (على الأقل جزئيا) على الشغف المشترك بما كان لدى الإغريق والرومان من أدب وفن وفلسفة؟
نحن وهم: التراث الكلاسيكي
إن دراسة التراث الكلاسيكي هي ما يشغل تلك الفجوة التي تفصل بيننا وبين عالم الإغريق والرومان. والأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب هي الأسئلة ذاتها التي تثيرها المسافة التي تفصلنا عن «عالمهم»، وفي نفس الوقت يثيرها قربنا منهم، وتثيرها معرفتنا بعالمهم، وذلك في متاحفنا، في أدبنا، في لغاتنا، في ثقافتنا، وفي طرق تفكيرنا. إن هدف دراسة التراث الكلاسيكي ليس فقط «اكتشاف» العالم القديم أو «كشف النقاب» عنه (رغم أن هذا أحد أهداف هذه الدراسة، كما تبين إعادة اكتشاف باساي، أو التنقيب عن أبعد قواعد الإمبراطورية الرومانية على الحدود الاسكتلندية)؛ فهدف هذه الدراسة أيضا هو تحديد علاقتنا بذلك العالم ومناقشة تلك العلاقة. سوف يستكشف هذا الكتاب تلك العلاقة، وتاريخها، بدءا من مشهد مألوف، ولكنه - في الوقت نفسه، كما سنرى - قد يصبح محيرا وغريبا؛ أجزاء متفرقة من معبد إغريقي معروضة في قلب لندن في العصر الحديث. إن كلمة متحف بالإنجليزية
museum ، هي في الأصل كلمة لاتينية تعني «معبد ربات الفنون»؛ فمن أي وجه يعد المتحف الحديث هو المكان المناسب للحفاظ على كنوز من معبد من العالم القديم؟ هل «يبدو» المتحف مناسبا لهذا الدور وحسب؟
إن القضايا التي أثارتها باساي تقدم نموذجا لفهم التراث الكلاسيكي بأوسع معانيه. وبطبيعة الحال، فإن التراث الكلاسيكي يتجاوز ما يخص الإغريق والرومان من بقايا مادية، وهندسة معمارية، ونحت، وفخار، ولوحات ورسومات. فهو أيضا معني (من بين أمور أخرى شتى) بما كان لديهم من أشعار ومسرحيات وفلسفة وعلوم، وتاريخ كتب في العالم القديم، ولا يزال موضع قراءة ومناقشة باعتباره جزءا من ثقافتنا. ولكن هنا أيضا نجد قضايا مماثلة على المحك؛ فنجد أسئلة تثار حول الكيفية التي ينبغي أن نقرأ بها أدبا عمره يزيد على ألفي عام كتب في مجتمع بعيد كل البعد ومختلف كل الاختلاف عن مجتمعنا.
إن قراءة كتابات أفلاطون حول الموضوعات الفلسفية، على سبيل المثال، ستجعلنا نواجه هذا الاختلاف، ونحاول فهم مجتمع إغريقي كان موجودا في القرن الرابع قبل الميلاد، لم تكن الكتابات فيه على شكل كتب مطبوعة، ولكن على شكل مطويات من ورق البردي، ينسخها يدويا عبيد ذلك الزمان؛ مجتمع كانت «الفلسفة» فيه لا تزال نشاطا يمارسه الناس في حياتهم اليومية، وكانت جزءا من منظومة اجتماعية تحتفي بالشراب وولائم العشاء. وحتى عندما أصبحت الفلسفة إحدى المواد الدراسية التي تتناولها المحاضرات والفصول الدراسية، ظلت في حد ذاتها (كما أصبحت إلى حد ما بحلول القرن الرابع) أمرا يختلف تمام الاختلاف عما عهدناه في جامعاتنا ومعاهدنا الحديثة؛ فقد كانت أكاديمية أفلاطون هي أم الأكاديميات، بل إن كلمة
Academy
مأخوذة من اسم لضاحية من ضواحي أثينا. من ناحية أخرى، وسواء أكانت تلك الفلسفة بعيدة عنا أم لا ، فإننا حين نقرأ ما كتبه أفلاطون، نقرأ فلسفة تخصنا نحن أيضا لا هم وحسب. إن كتابات أفلاطون الفلسفية لا تزال تتربع على عرش أكثر الكتابات الفلسفية شيوعا في العالم؛ وحين نقرأ ما كتبه أفلاطون، فإننا حتما نقرؤه باعتباره جزءا من «تراثنا» الفلسفي، في ضوء كل من أتى بعده من الفلاسفة، الذين هم أنفسهم قرءوا ما كتب أفلاطون ... وهذه المنظومة التفاعلية المعقدة من القراءة والفهم والجدل والنقاش هي في حد ذاتها التحدي الذي تواجهه دراسة التراث الكلاسيكي.
إن المعبد الموجود في باساي نموذج فريد من نوعه لا يتكرر؛ وهو يثير أسئلة تختلف عن تلك التي يثيرها غيره من الآثار أو النصوص القديمة. وفي هذا الكتاب سوف نتتبع كل المسارات التي تركها ذلك المعبد على اختلافها، وما به من منحوتات، وما يتعلق به من تاريخ؛ بدءا من المعارك الأسطورية التي تصورها جدرانه (الرجال الذين يقاتلون النساء، والرجال الذين يقاتلون الوحوش) وكذلك الألغاز التي تحيط بالغرض من إنشائه، والوظيفة التي كان يؤديها، واستخداماته، وصولا إلى عمال السخرة الذين بنوه، والمناظر الطبيعية التي تحيط به، ومن زاره من القدماء وأعجب به، وأخيرا، وليس آخرا، الأجيال التي جاءت بعد ذلك ممن أعادوا اكتشافه وأعادوا شرح معانيه وأسراره.
بطبيعة الحال، كل شيء بقي من العالم الكلاسيكي القديم هو شيء فريد من نوعه. وفي نفس الوقت، وكما سيظهر لنا في هذا الكتاب، هناك مشاكل وقصص وأسئلة ودلالات تجمع بين كل تلك البقايا والآثار؛ فثمة موضع في «قصتنا» الثقافية يجمع هذه الأشياء (يجمعها وحدها دون شريك). وذلك كله، والتأمل فيه، هو محور دراسة التراث الكلاسيكي.
الإفريز الموجود في معبد أبوللو في باساي
في اللوحة التالية رتبنا رسومات تخطيطية للمنحوتات التي تزين الجدران العلوية للقاعة الرئيسية داخل معبد أبوللو في باساي. وسنتبع الترتيب المقدم في حجرة باساي في المتحف البريطاني. تفسر المناقشة التي أوردناها في الفصل السابع أهمية هذا الإفريز بشكل أكبر.
الشريط المبين هنا مأخوذ من كتاب برايان سي ماديجان بعنوان «معبد أبوللو في باساي، الكتاب الثاني» (برينستون ، 1992)، وإن كان هذا الترتيب للألواح الثلاثة والعشرين (الذي ابتكره فريدريك إيه كوبر) مختلفا بدرجة كبيرة. جرب حلهما لأحجية الإفريز في مؤتمر خاص للمتحف البريطاني عقد عام 1991. •••
الألواح التي تصور مشهد «هرقل ضد ملكة الأمازونيات» (1) في المنتصف إلى يسار الشريط، أعلى العمود الحر ذي التاج «الكورنثي الطراز»، تواجه زوار المعبد وهم يدخلونه من جهة اليمين.
الألواح التي تصور مشهد «معركة مع الأمازونيات»، وفق الترتيب المعروض تتواصل إلى يمين هرقل، على اللوح الأول على الجدار الطويل، وإلى يسار هرقل، وهذا يشغل الجدار الطويل بأكمله.
تشغل الألواح التي تصور مشهد «معركة مع اللابيثيين» الجزء المتبقي من الجدار الجانبي إلى يمين هرقل، علاوة على أغلب الجانب القصير إلى يمين الشريط، الذي يمتد أعلى رأس الزوار عند دخولهم المعبد، وكان مرئيا عند خروجهم منه.
الألواح التي تصور مشهد «أبوللو وأرتميس» (2) تظهر للعيان عند الجزء السفلي الأيمن، وكأنها تشير إلينا كي نبدأ النظر على امتداد الجانب الطويل من يمين الجزء السفلي إلى يساره. وهي أيضا تفصل المشهدين، لكن عند الركن العلوي الأيسر المقابل تتلامس ألواح الخرافتين. إذا كان تمثال أبوللو يبدو «محاصرا» في معبده، تذكر أن هذا التمثال العظيم كان يربض في الركن المقابل لقاعته عند الموضع ⊗ ، خلف الإفريز على سلسلة الأعمدة.
الفصل الثاني
في الموقع
الطريق إلى اليونان
قصة اكتشاف المعبد الموجود في باساي هي قصة تتضمن عناصر شتى: الاستكشاف، وحسن الحظ، والصداقة، والمصادفة، والدبلوماسية الدولية، والضغط، وفن البيع، والقتل. وهي أيضا قصة تكشف الكثير عن الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها تعريف التراث الكلاسيكي وفهمه حتى في عصرنا هذا.
شكل 2-1: التشبه بأهل البلاد: بايرون في ثياب شرقية.
تبدأ القصة في أثينا، في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. ولا أعني العاصمة المترامية الأطراف التي نراها الآن، ولكن أعني بلدة صغيرة فوضوية ترزح تحت الحكم التركي، تضم حوالي 1300 منزل، ولا تعدو كثيرا أن تكون مجرد قرية من القرى. هي بالتأكيد ليست مركزا سياحيا، ولم يكن بها مكان يصلح لأن تقيم فيه، اللهم إلا إن وجدت ديرا، أو أرملة كريمة إذا كنت محظوظا. وما كنت لتجد فيها من يمد إليك يد العون، اللهم إلا من كان مثلك من زوارها الغرباء عنها، وعددا قليلا من الغرباء عنها الذين طال بهم المقام هناك. بعبارة أخرى، يجدر بك أن تتشبه بأهل البلاد وتجاري اللورد بايرون، أشهر إنجليزي زار البلاد في ذلك الوقت (انظر الشكل
2-1 ). وأفضل من ذلك أن تتبع لويس سيباستيان فوفيل، الذي عاش معظم حياته في أثينا؛ حيث كان يحوز عدة ألقاب رنانة تخدع أبناء عصرنا، منها لقب «القنصل الفرنسي» (انظر الشكل
2-2 ). كان فوفيل يعرف الجميع، وكان بإمكانه أن يجلب لك بحيله أي شيء تريده، حتى لو كان الإذن بدخول معبد البارثينون العظيم، الذي كان حينها يضم مسجدا في وسط حصن الحاكم التركي (وقد هدم منذ زمن لإخلاء المعبد لليونان، سواء الوثنية أو المسيحية).
شكل 2-2: منزل فوفيل: القنصل الفرنسي في منزله في أثينا.
في عام 1811 حدث أن قدمت إلى هنا زمرة من المستكشفين تجمعوا معا: زوجان ألمانيان يجمعان بين الرسم والهندسة المعمارية، وأثريان دنماركيان (وكانوا قد التقوا جميعا كطلاب في روما)، ثم انضم إليهم مهندسان معماريان إنجليزيان هما سي آر كوكريل (انظر الشكل
2-3 ) وجون فوستر، وكانا قد وصلا مؤخرا من إنجلترا عبر القسطنطينية (إسطنبول الآن). وكانت أول بعثة مشتركة قاموا بها إلى أنقاض أحد المعابد في جزيرة إيجينا، وهي ليست بعيدة عن أثينا. وقد شرعوا في رحلتهم تلك إبان إرسال اللورد إلجين آخر شحناته لمنحوتات البارثينون إلى إنجلترا. وهنا حكاية لطيفة وقعت مصادفة؛ إذ ركبوا البحر في قارب صغير، فمروا بسفينة إلجين الضخمة (والتي كانت أيضا تقل على متنها بايرون عائدا إلى أرض الوطن)، فغنوا لبايرون إحدى أغانيه المفضلة، فدعاهم إلى متن السفينة الكبيرة وشربوا معا نخب وداع أو نخبين. لقد كانت بداية مبشرة لحملة ناجحة. أما منحوتات المعبد التي عثروا عليها من خلال الحفر في الأنقاض، فقد انتهى بها الأمر إلى أن تقبع بفخر في متحف بافاريا الجديد الذي أنشأه الأمير لودفيج الأول في عاصمته مدينة ميونخ ؛ حيث لا تزال تعرض في متحف جليبتوتاك.
شكل 2-3: المهندس المعماري الشاب: تشارلز آر كوكريل.
كانت خطتهم القادمة هي السفر إلى باساي، وهي رحلة أبعد بكثير وأخطر بكثير؛ فقد كانت المنطقة المحيطة بها موبوءة بمرض الملاريا، وأول مسافر قادم من أوروبا الغربية يمر بذلك المعبد عاش بالكاد ليروي ما حدث (وكان رجلا فرنسيا يدعى يواكيم بوشر، وذلك في عام 1765). وعندما حاول أن يعود لزيارته مرة أخرى بعد ذلك بوقت قصير، اغتيل على يد من وصفهم كوكريل ب «قطاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا». ومع ذلك، فإن تلك الزمرة من المستكشفين اعتمدت على الوصف القديم للمعبد الذي كتبه رحالة إغريقي من القرن الثاني قبل الميلاد، والقائل بأن ذلك المعبد قد صممه المهندس المعماري نفسه الذي صمم البارثينون؛ تلك التحفة الخالدة من العمارة القديمة. وكان احتمال العثور على بارثينون آخر يدور في أذهانهم، فتركوا أثينا قاصدين باساي، ووصلوها في أواخر عام 1811.
كان كوكريل هو أول من اكتشف الإفريز. فبعد بضعة أيام من التخييم على جانب التل والبحث في الأنقاض هناك، لاحظ كوكريل ثعلبا يخرج من مخبئه العميق تحت كومة حطام المعبد. وبعد بحث الأمر وجد بين ذلك الركام، عميقا في ذلك المخبأ، لوحا منحوتا من الرخام، فخمن محقا أنه قطعة من إفريز المعبد. غطى فريق المستكشفين بعناية ما عثروا عليه، وذهبوا ليعقدوا اتفاقا مع السلطات التركية، لتسمح لهم بالحفر والعثور على البقية واستخراجها. ثم عادوا بعد عام، هذه المرة بدون كوكريل، الذي كان قد انتقل إلى صقلية، وبدون أحد الدنماركيين، الذي مات بسبب الملاريا. وجمعوا جيشا من العمال المحليين، وصدوا هجمات من قطاع الطرق الذين كانوا على الأرجح جيرانا لعمالهم، إن لم يكونوا أبناء عمومة لهم، وحفروا فوجدوا الإفريز وغيره من المنحوتات الصغيرة (انظر الشكل
2-4 )، وحملوها إلى البحر على مسافة تزيد على ثلاثين كيلومترا من الطرق الوعرة، ومن هناك نقلوها إلى جزيرة قريبة تسمى زاكينثوس (التي كانت آنذاك لحسن حظهم تحتلها البحرية البريطانية). ولم يتبق إلا بيعها.
ولعل من طرق سرد هذه القصة أن نقصها على أنها قصة تنتمي إلى الثقافة والصفوة الأرستقراطية؛ فدراسة التراث الكلاسيكي مثلها مثل «الجولة الكبرى»؛ هواية لطبقة النبلاء الإنجليز وأقرانهم من الأوروبيين (أسماء الألمانيين في حد ذاتها تشي بذلك: البارون فون هالرشتاين، البارون أوتو ماجنوس فون ستاكيلبرج). لقد كانوا فتية من الطبقة العليا تعلموا اللاتينية واليونانية في المدرسة، وأتبعوا ذلك برحلة «ثقافية» إلى اليونان نفسها؛ حيث أكثروا من الشراب والتلذذ بالفتيات هناك بلا شك. كان هذا عالما يخص نخبة ثرية بما يكفي للسفر هنا وهناك، ولك أن تتخيل الثراء الكبير والسريع من جراء بيع الكنوز الأثرية التي كانوا يجدونها.
شكل 2-4: العمل يجري على قدم وساق: التنقيب عن المعبد الموجود في باساي.
لكن الأمر كان أكثر تعقيدا من ذلك. ولنتفكر هنا: ماذا كان هدفهم من استكشاف اليونان؟ كان بعض المشغولين بأمر باساي لهم أهداف عملية تتجاوز بكثير تصورنا لما يوحيه تعبير «الجولة الكبرى». لقد كان كوكريل نفسه بالتأكيد من الأثرياء، ولكن كان لجولته، على الأقل في جانب منها، أهداف مهنية؛ فقد كان مهندسا معماريا، يبحث عن روائع البناء القديمة ليعرف منها ما يفيده في مهنته. وقد كان على وجه الخصوص شغوفا بأن يرى إلى أي مدى كانت بقايا المعابد الإغريقية متطابقة مع توصيات فيتروفيوس، وهو مهندس معماري روماني قديم صاحب دليل إرشادي في مجال الهندسة المعمارية كان ما يزال مستخدما بوصفه دليلا مهنيا. لم يكن هذا مجرد سعي بارد عن الجمال والثقافة؛ فقد كان العالم القديم يقدم نموذجا عمليا للتصميم، يعلم أهل ذلك الفن من المعاصرين «كيف» يصممون تلك الأشياء.
وبالطريقة عينها تقريبا كان شباب الفنانين في ذلك الزمان يتعلمون المهارات عن طريق دراسة المنحوتات القديمة؛ وذلك عن طريق عملية نسخ وإعادة نسخ متواصلة للقوالب الجصية الخاصة بالتماثيل القديمة، أو (أفضل من ذلك) عمل نسخ للأعمال الأصلية نفسها. ولم يكن هذا جزءا من منهج دراسي في «تاريخ» الفن، ولكن كان درسا عمليا يتلقونه - وفق ظنهم - من أفضل أعمال النحت التي عرفها العالم على الإطلاق. أما اليوم فلم يعد التدريب الفني يعتمد على أعمال الإغريق والرومان كوسائل رئيسية للتعلم. في الواقع، في وقت سابق من القرن العشرين كانت كليات الفن الإنجليزية تتخلص من القوالب الجصية للمنحوتات القديمة بالمئات، وكانت تحطم في محاولة مبالغ فيها لتأكيد التحرر مما كان ينظر إليه (بحق أو بغير حق) على أنه قيود فرضها ذلك التعليم «الكلاسيكي». ولكن دور العالم الكلاسيكي كنموذج عملي، سواء للتصميم، أم للسلوك، ما يزال يشكل جزءا من نقاشاتنا اليوم. على سبيل المثال، نجد العديد من خلافات المعماريين الأخيرة يركز على ما إذا كانت الأشكال المعمارية القديمة لا تزال هي الأفضل، والأنسب للمحاكاة.
تصور معي البعثة الدولية المتنافرة التي قصدت باساي: ألمانيين ودنماركيين وإنجليزيين، مع مساعدة لا تقدر بثمن من رجل فرنسي. ثم تذكر أنه في وقت اكتشافاتهم كانت أوروبا في قلب الحروب النابليونية. لم تكن تلك الزمرة مجرد مجموعة من الأرستقراطيين تلاقت عقولهم؛ بل كانوا مجموعة من الأعداء المحتملين، جمعت بينهم دراسة التراث الكلاسيكي، وإعادة اكتشاف هذا التراث الكلاسيكي، ولم يكن السبب الوحيد لذلك أنهم، في تلك البقعة، كانوا بعيدين عن ساحات القتال؛ بل لأنهم كانوا يتشاركون بعض الاهتمامات الأكاديمية والثقافية، ولا يبالون بالحرب الدائرة. كان التراث الكلاسيكي يمثل تحديا أكبر بكثير للمصالح القومية في أوروبا القرن التاسع عشر.
كانت إعادة اكتشاف اليونان، بطريقة ما، بمنزلة إعادة اكتشاف لجذور الثقافة الغربية ككل؛ فقد كانت وسيلة لرؤية أصل الحضارة الأوروبية بأسرها، والتي تسمو فوق الخلافات المحلية والقومية. لا يهمنا أن تلك المشاحنات كانت دائما على استعداد لتطفو على السطح مرة أخرى، فعندما يحين وقت اقتسام كنوز العالم القديم التي اكتشفت، كان المهم في الأمر حقا أن الحضارة الإغريقية منحت الثقافة الغربية جذورها المشتركة التي يستطيع كل المتعلمين على الأقل التشارك فيها. وكما سنرى في الفصل الثامن من هذا الكتاب، فإنه بنفس الروح تقريبا، بعد ما يقرب من 200 سنة، لا يزال الناس ينظرون إلى أثينا القديمة على أنها مهد الديمقراطية في العالم، وأنها الأصل الموحد لنظام سياسي مفضل، حتى لو اختلفنا حول المعنى الحقيقي «للديمقراطية»، وما كان معناها، وأي صورها هي الأفضل. بل إن النزاعات والحروب يمكن أن تبدو، من جميع الجوانب، وكأنها اجترار للمعارك القديمة، وأنها تدور حرفيا على ذات البقاع القديمة. وفي أعين من تلقوا تعليما كلاسيكيا، عبر الحدود الحديثة، تبدو الأحداث وكأنها اكتست بثوب قديم مألوف.
ولكن الحقيقة الأهم حول بعثة باساي هي أنها كانت «رحلة استكشافية». فلقرون ظلت دراسة التراث الكلاسيكي لا تشتمل فقط على الجلوس في مكتبة لمطالعة الأدب الذي بقي من العالم القديم، أو زيارة المتاحف لرؤية المنحوتات المعروضة بأناقة، بل اشتملت كذلك على رحلات اكتشاف للعثور على أعمال الحضارات الكلاسيكية والعالم الكلاسيكي على أرض الواقع، حيثما وجدت.
لذلك كان دارسو التراث الكلاسيكي، وما زالوا، «مستكشفين»؛ فقد ارتحلوا لأشهر على الجبال التركية القاحلة، بحثا عن حصون الغزو الروماني. وقد حفروا وعثروا على قصاصات من ورق البردي القديمة، خطت عليها درر الأدب القديم، وذلك في رمال مصر (التي كانت ذات يوم إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية). لقد سافروا، مثل كوكريل ورفاقه، في الشوارع الجانبية للريف اليوناني يرسمون ويقيسون، والآن يصورون، مواقع للعالم القديم طواها النسيان منذ أمد بعيد. لقد استأجروا الحمير، وقطعوا مفاوز الصحراء السورية، وتنقلوا من دير إلى دير، يجوبون مكتباتها بحثا عن مخطوطات على أمل العثور على بعض نصوص العالم القديم المفقودة، نسخها بأمانة راهب من القرون الوسطى. كان الاهتمام بالعالم القديم يعني غالبا أن ترحل «إلى هناك»، لتشرع في رحلة إلى المجهول.
السعي وراء الحلم
بطبيعة الحال كانت تلك الرحلة أكثر تعقيدا من مجرد «اكتشاف» بسيط (وهو بالتأكيد ما يعرفه أي مستكشف في أي مكان)؛ فقد كانت بلا شك تنطوي على التوتر بين الواقع والمأمول، وفي هذه الحالة، بين صورة أمجاد اليونان القديمة، باعتبارها ذروة الحضارة، وواقع اليونان كبلد يزار. نحن لا نعرف بالضبط ما كان كوكريل يتوقعه عندما انطلق في رحلته من إنجلترا، ولا نعرف ردة فعله عندما حط على أرض أثينا. ولكن من الواضح أن العديد من مسافري القرن التاسع عشر ساءهم أن يكتشفوا (مهما كان جمال المشاهد أو رومانسية الأطلال) القرية الرخيصة التي تقبع محل أثينا القديمة، وما كان ينتشر فيها من قذارة وأمراض، وما وجدوه من الكثير من سكانها من وضاعة وخيانة للأمانة. وقد كتب أحد أوائل الزوار يقول: «دموع تملأ العيون، ولكن ليست دموع فرحة وبهجة.» كما عبر دي كوينسي عن أحوال «اليونان الحديثة» بعبارة شهيرة قال فيها: «ما هي المنغصات التي تتفرد بها اليونان، وتصد السياح عن القدوم إلى تلك البلاد؟ إنها أمور ثلاثة: اللصوص، والبراغيث، والكلاب.» كيف أمكن لهؤلاء أن يروا «المجد الذي كانت اليونان عليه» رغم تدهور أحوالها في العصر الحديث؟
كان هناك العديد من الإجابات لهذا السؤال. وقد حول بعض المسافرين الصعوبات التي واجهوها إلى فرص؛ فالنضال البطولي ضد الأمراض والغش والسرقة على يد قطاع الطريق كل هذا يمكن تصوره على أنه تعزيز لبطولة من يكتشفون اليونان القديمة نفسها، بما فيها من تبجح بحكايات الأكمنة، أو الموت من أجل الشهامة في أقاليم بعيدة، وكل هذا أضاف إلى رومانسية الاستكشاف. حاول آخرون أن يخترقوا بأنظارهم السطح القاتم لطبقة النبلاء في اليونان القديمة، والتي لا تزال موجودة (وإن كانت مخفية إلى حد ما) في اليونان الحديثة، وبوسعك دائما أن تجعل الأتراك هم العدو الحقيقي (كما فعل اللورد بايرون عندما عاد بعد ذلك ليقاتل ويموت من أجل اليونان في حرب الاستقلال). ولكن البعض وصل إلى نتيجة مختلفة تماما؛ وهي أن أفضل زيارة لليونان تكون في عالم الخيال.
بعبارة أخرى، كان هناك تصور آخر لاكتشاف العالم القديم. وبعض أقوى التعبيرات عن اليونان القديمة، تلك التي شكلت رؤيتنا وفهمنا لماضي العالم القديم، كانت إبداعات أناس لم تطأ أقدامهم قط أرض اليونان، فكانت اليونان التي كتبوا عنها، وبوضوح شديد، يونانا «وهمية». على سبيل المثال، جون كيتس الذي احتفى في أشعاره بروعة الفن الإغريقي والثقافة الإغريقية في إنجلترا في مستهل القرن التاسع عشر (لعل أشهرها «قصيدة على جرة إغريقية»)، زار روما، لكنه لم يغامر قط بأن يقصد اليونان. كما أنه لم يقرأ كثيرا من الأدب القديم، أو على الأقل ليس بأسلوب منهجي دراسي. وكان تقريبا لا يدري شيئا عن اللغة اليونانية القديمة، ولكنه كان يعتمد كلية على الترجمات، وعلى ما كان يمكنه رؤيته في المتاحف.
هذه الصور المتباينة لم توجد في تناغم سلس بعضها بجوار بعض. وكيتس نفسه كان موضع سخرية لا هوادة فيها من قبل الكثيرين في زمانه لجهله باليونان واليونانية. بل إن أحدهم انتقد قصائده نقدا لاذعا (لدرجة أن الكثيرين قالوا إنه أدى إلى وفاته) وأطلق عليه اسم «النظام التافه» الذي كانت رؤيته الرومانسية لثقافة العالم القديم لا تقوم إلا على خياله هو. لكن بايرون وقف على حقيقة الأمر:
جون كيتس، الذي قتلته مقالة نقدية؛
بينما كان ينتظره مستقبل عظيم،
حتى إن لم يكن حديثه واضحا، فبدون اليونانية
تمكن من الحديث عن آلهة القدماء،
مثلما يتوقع لها أن تتحدث
يا للمسكين! لقد كان مصيره تعسا.
بل إن رؤية كيتس لجمال اليونان القديمة ورفعتها، سواء أكانت خيالا أم لا، أصبحت المعيار الذي يحكم من خلاله على اليونان المعاصرة وبقايا ماضيها.
ويظهر النزاع جليا فيما جرى عند أخذ رخام إلجين من البارثينون إلى المتحف البريطاني. بعض الناس، حتى في ذلك الوقت (فهذا ليس جدلا مقتصرا على القرن العشرين)، رأوا أن ذلك تشويه فاضح لتلك التحفة الأثرية، وسطو وتدنيس لكنوز اليونان. كان أعلى النقاد صوتا هو اللورد بايرون، وثمة مفارقة أخرى في حكاية حفلة الوداع التي أقيمت في البحر وضمت كوكريل ورفاقه؛ وهي أن بايرون نفسه كان مسافرا عائدا إلى إنجلترا على متن السفينة التي تحمل بعض رخام إلجين وكان قد كتب للتو قصيدة لاذعة تندد بتدنيس إلجين للبارثينون. وصور بايرون نظيره الاسكتلندي إلجين على أنه الأسوأ في سلسلة طويلة من المخربين الذين نهبوا ذلك الضريح للإلهة بالاس أثينا:
لكن من، من بين جميع لصوص ذلك المعبد،
في ذلك المكان العلي، حيث ترقد بالاس؛ يجرؤ على تهريب
الأثر الأخير لحكمها العتيق،
آخر المفسدين وأسوؤهم وأغباهم، من هو؟
فلتخسئي يا كاليدونيا! أن يكون لك ابن مثل هذا!
ولكن الأمر الأكثر إثارة للانتباه هو حقيقة أن الكثيرين في إنجلترا، نظرا لتمسكهم برؤية خاصة لكمال العالم القديم، لم يرقهم ما رأوا عندما عرضت منحوتات البارثينون في نهاية المطاف في المتاحف؛ فقد وجدوا أنها كانت مختلفة تماما عما كانوا يتوقعونه، لقد كانوا يتوقعون أن يروا أعظم تحفة أثرية عرفها العالم القديم، فحين رأوا قطع الرخام المهشمة تلك كانوا على يقين أن هناك خطأ فادحا قد وقع، وأن تلك التماثيل ليست أعمالا فنية أصلية، بل هي بدائل تشبهها نحتت بعد ذلك بقرون في عهد الإمبراطورية الرومانية.
الحقيقة المهمة الأخرى هي أن بعثة باساي كانت رحلة استكشافية إلى اليونان لا إلى إيطاليا. صحيح أن بعض أفراد البعثة زاروا روما. وفعل كوكريل ذلك عندما جعلت نهاية الحرب النابليونية الزيارة ممكنة؛ لأنه في عام 1811 كانت كل من روما ونابولي، في الواقع، مغلقتين رسميا أمام الإنجليز. ومع ذلك، فكون اختيارهم وقع على اليونان دون إيطاليا لتكون موضع رحلتهم الاستكشافية يمثل تغييرا كبيرا في الاتجاه في أواخر القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر؛ فلم يعد الهدف من زيارة العالم القديم في الخارج روما فحسب، ولكن شواطئ أثينا الأبعد وما وراءها.
إن فكرة دراسة التراث الكلاسيكي بوصفها عملية اكتشاف تفسر هذا التغيير جزئيا. فإذا كان ينظر إلى استكشاف أراضي العالم القديم على أنه رحلة بطولية إلى أماكن غريبة ونائية، فإن روما تصير غير مناسبة بعض الشيء. لعل استكشاف إيطاليا كان فيما مضى صعبا وغريبا. ولكن بحلول عام 1800 كان هناك بالفعل الكثير من الفنادق في روما على الأقل، وصار أمر السفر سهلا نسبيا، وكذلك الأدلة والكتيبات الإرشادية؛ باختصار كانت هناك بنية تحتية لصناعة سياحية مزدهرة في مرحلة مبكرة. وبالنسبة لمن كانوا يبحثون عن الإثارة وخوض المجهول، ولا يرضون ب «عطلة» تلائم أفراد الطبقة الوسطى، كانت الخطوة التالية هي اليونان بتحفها الأثرية التي لم يستكشفها أحد ومخابئها الجبلية وأمراضها الغريبة.
صنع في اليونان، مطلوب في روما
ولكن كان هناك أيضا نوع آخر من المنطق في الانتقال من إيطاليا إلى اليونان، وهو منطق أتى من العالم القديم نفسه. كانت روما هي المدينة التي غزت العالم؛ بلدة صغيرة في وسط إيطاليا حققت سلسلة غير عادية من الانتصارات العسكرية على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، فأخضعت معظم دول العالم المعروف تحت سيطرتها. ولكن، في الوقت نفسه، ظل ذهن الثقافة الرومانية مشغولا بفكرة أنها مدينة لثقافات البلاد التي غزتها الجيوش الرومانية، وعلى رأسها اليونان. وقد رأى الشاعر الروماني هوراس المفارقة الكبرى عندما كتب في «رسالته» إلى الإمبراطور الروماني أغسطس أن غزو اليونان كان أيضا غزوا لروما؛ ذلك لأن الحضارة الرومانية، والفن والأدب الرومانيين، كانت تعود إلى اليونان. وورد في رسالته العبارة التالية:
Graecia capta ferum uictorem cepit ؛ بمعنى: «روما القوية استولت عليها اليونان الأسيرة.»
من الصعب معرفة إلى أي مدى تطفلت روما حقا على الثقافة الإغريقية، أو إلى أي مدى كان الرومان حقا مجرد برابرة متوحشين إلى أن غزوا الإغريق فصاروا متمدنين. ومن الصعب، بنفس المقدار تقريبا، معرفة ما يعنيه أن يقال عن روما، أو أي مجتمع آخر، إنه ليس لديه «ثقافة» تخصه بذاته، وإن حضارته لم تكن إلا شيئا استعاروه من غيرهم. ولكن بالتأكيد كان الرومان أنفسهم في كثير من الأحيان يضعون أنفسهم في هذا الإطار حين يتحدثون عن علاقتهم باليونان؛ إذ نجدهم يرجعون ما لديهم من فن وهندسة معمارية، وكذلك العديد من ألوان أدبهم وشعرهم، يرجعونها جميعا ومباشرة إلى اليونان.
فهوراس، على سبيل المثال، قدم شعره على أنه يتبع تقاليد من سبقوه من شعراء اليونان، بل كان يقول إن أعماله هي تقليد مقصود لموضوعات الشعر الإغريقي وأشكاله. فلكي يطالب هذا الرجل بمكانته بوصفه شاعرا «رومانيا» قديما، ها هو يعلن أنه مدين للشعر الذي نظمه الإغريق قبل أكثر من 500 عام قبل ولادته، وكان يدرس ويدرس منذ زمن بعيد في عالم الإغريق على أنه أدب إغريقي. كما نجد المعابد الرومانية هي الأخرى (والتي كانت أشبه بالمتاحف) تكتظ بالأعمال الفنية الإغريقية، وبأعمال فنية رومانية لم تكن إلا نسخا لأعمال إغريقية، أو نسخ وتنويعات على نفس الموضوعات.
لذلك فإن اكتشاف روما، سواء على أرض الواقع، من بين الأنقاض، أم عن طريق قراءة الأدب اللاتيني في إحدى المكتبات، كان دائما يعني أن يقاد المرء إلى اليونان، وكذلك لاكتشاف عالم الإغريق من خلال الرومان. هذا صحيح بالنسبة لنا، أو لرحالة القرن التاسع عشر، كما كان الحال بالنسبة للرومان أنفسهم. كانت الرحلة إلى باساي جزءا من تلك الرحلة «الثقافية» من روما إلى اليونان بقدر ما كانت جزءا من البحث عما هو جديد وعن مناطق جديدة كانت من المجهول.
في الواقع، اتضح أن باساي كانت موقع شيء متميز للغاية في تاريخ الثقافة الرومانية وأصولها. إن الطراز الروماني المفضل لتزيين رءوس الأعمدة (التيجان) يعرف باسم «الطراز الكورنثي». وهذا اللقب يعود إلى العالم القديم نفسه؛ وقد أوضح المهندس المعماري الروماني فيتروفيوس ذلك بقصة مفادها أن ذلك الطراز ورثوه عن اليونان، وكان قد اخترعه رجل كان يعيش في مدينة كورنث اليونانية. كان هذا أرقى طراز لتيجان الأعمدة عرفته اليونان أو روما، يتميز بلفائف معقدة وأشكال أوراق شجر، وصار رمزا لعظمة الرومان؛ فكان يزين واجهات جميع مبانيهم التي يفخرون بها. وأيا كان أساس قصة فيتروفيوس تلك فإن أقدم مثال معروف للتاج الكورنثي عثر عليه في معبد باساي (وهو معروض بفخر في الشكل
1-2 ). لقد اكتشفه كوكريل ورفاقه، ولكن لم يبق منه سوى عدد قليل من الشظايا. وتقول إحدى الروايات إنه قد جرى تحطيمه عن عمد بدافع الحقد من قبل السلطات التركية، وذلك عندما اكتشفوا حقيقة المنحوتات العظيمة التي سمحوا للزوار أن يأخذوها. لكن فرقة مستكشفينا رسموا ذلك وسجلوه باعتباره السلف «الإغريقي» لأكثر النماذج المعمارية الرومانية تميزا.
أما بالنسبة للنحت نفسه؛ فهذا الجزء من الرواية ينتهي بسباق وتنافس على المستوى الدولي؛ فقد تمكن وكلاء الأمير لودفيج من الحصول على جميع التماثيل التي أخذت من إيجينا، وعاونهم في ذلك شيء من التخبط اليائس من جانب البريطانيين الذين كانوا أبرز منافس في عملية الشراء. كان الأمر يسيرا للغاية، حتى إن بعضهم ظن أن في الأمر خدعة ما ؛ إذ توجه الوكيل البريطاني إلى مالطا (حيث نقلت الأغراض إلى مكان آمن خارج منطقة الحرب المباشرة)، وكان على ما يبدو لا يدرك أن المزاد لا يزال مستمرا في زاكينثوس. وهذا جعل الحكومة البريطانية أشد تصميما على الفوز برخام باساي لصالح بريطانيا. وقد عقد مزاد في عام 1814، في زاكينثوس مرة أخرى. بالنسبة للودفيج، الذي كان قد اكتفى بما حصل عليه من كنوز إيجينا، فقد خرج الآن من السباق. أما فوفيل فقد قدم عرضا نيابة عن الفرنسيين، ولكن فاقه بسهولة عرض الإنجليز، الذين قدموا 19 ألف جنيه إسترليني.
قد حملت المنحوتات على زورق حربي، وأعيدت إلى «الوطن» إلى المتحف البريطاني. وهناك لم يتوقف قط الجدل حولها، ليس فقط حول جودتها الفنية وتاريخها، ولكن أيضا حول السياسات المتعلقة باستكشاف اليونان.
الفصل الثالث
أن تكون هناك
نحن جميعا ذاهبون لقضاء عطلة صيفية
لقد قمنا جميعا بزيارة رومانسية لباساي. ربما لم نذهب قط إلى اليونان؛ ولكننا جميعا فتحنا كتيبات سياحية ونظرنا إلى ملصقات وصور، وفي مخيلتنا قمنا برحلة إلى المعبد في الجبال.
تحمل كلمة «اليونان» الآن معاني كثيرة، ولا شك أنها تحمل من المعاني أكثر مما كان عليه الحال قبل قرنين من الزمان؛ فهي بلاد الشمس والشواطئ، وملذات شاطئ البحر؛ هي بلاد لا تلقي للوقت بالا؛ حيث تجد كبار السن من الرجال يجلسون لساعات على المقاهي يشربون الأوزو ويلعبون الطاولة، وهي بلاد لا تزال تنتشر فيها تقاليد الضيافة في أوساط الفلاحين. ولكن جزءا أساسيا من تصورنا لليونان هو مزيج خاص من أنقاض العالم القديم والمناظر الطبيعية الجبلية الوعرة التي تكاد تطغى على كل صورة لباساي. قد يكون هناك بالفعل العديد من البقاع الأخرى من العالم يمكننا أن نجد فيها مشهدا مماثلا؛ فهناك مثلا مواقع في جبال تركيا تشبهها كثيرا. ولكن، بالنسبة لنا، فإن صورة باساي تلك ترمز إلى «اليونان». ولسنا بحاجة إلى شرح على الصورة ليبين لنا أين هي.
في الوقت نفسه، ذلك المشهد اليوناني يمثل التراث الكلاسيكي؛ ففي أوروبا كلها، وكذلك في أجزاء من أفريقيا وغرب آسيا، تنتشر بقايا الماضي الكلاسيكي. وفي كل منطقة كانت يوما جزءا من الإمبراطورية الرومانية، من اسكتلندا إلى صحراء أفريقيا، لا تزال هناك آثار مادية لتاريخها القديم. يقع بعض أفضل ما بقي من المدن الرومانية في صحراء تونس؛ حيث توجد منازل ومعابد ومدرجات، وفسيفساء تفوق ما تبقى من بومبي، ولا يزال أثر مثل سور هادريان يعطي انطباعا قويا؛ إذ يقطع بوضوح شمال إنجلترا، في الموضع الذي كان يوما ما يمثل الحد الروماني بين العالم المتحضر والأراضي البربرية. ورغم كل ذلك، فإن تصورنا للعالم القديم لا يزال محصورا في تلك الصورة للمعبد اليوناني في بيئته الجبلية البرية.
كل صيف يقوم الآلاف من الناس بزيارة لباساي (وتنطق أيضا باسيه أو فاساي)، فيحيلوا تلك الرحلة الرومانسية التي في مخيلتهم إلى جولة واقعية ملموسة. باساي هي أحد أكثر الأماكن جذبا لأي مسافرين في رحلة عبر شبه جزيرة بيلوبونيز. في السنوات الأولى من القرن العشرين، عندما كان المرء يضطر إلى ركوب البغال في رحلته، فتن أكاديمي من أكسفورد (هو إل آر فارنيل، مؤلف الدراسة الكلاسيكية عن الدين في مختلف المدن اليونانية) بجمال كل شيء فيها، لدرجة أنه قال إن زيارته تلك جعلته يشعر بأنه «أشبع معظم تطلعاته الدنيوية». ومن بعده جاء إتش دي إف كيتو، المعتنق لمبدأ وحدة الوجود، الذي عمل أستاذا لليونانية في بريستول لمدة طويلة في منتصف القرن العشرين، ليروي مقدار ما شعر به من مرارة وخيبة أمل لأنه لم يأته وحي من أبوللو في منامه في ليلة تمام البدر خارج معبد باساي. أما اليوم فباساي هي نقطة توقف للرحلات البحرية التي تطوف الجزر اليونانية (وتقضي النهار في الميناء)، أو طريق فرعي مريح للرحال الذين يكتشفون اليونان «البكر». وقلما تجد دليلا حديثا يتوقع واضعوه أنك ستغفل زيارة باساي، بل تجدهم يشرحون لك كيفية القيام بتلك الزيارة وما سوف تجده هناك.
يوجد الآن طريق معبد جيدا يأخذك إلى المعبد، ولا تفصل بينك وبين المعبد سوى مسافة قصيرة بالسيارة عبر الجبال، إن كنت في قرية أندريتسينا القريبة؛ حيث توجد محلات تجارية سياحية وفنادق ومقاهي. ليس هناك حافلة تقلك إلى هناك؛ ولكن، إذا لم يكن لديك سيارة، فيمكنك بسهولة أن تعثر على سيارة أجرة لتأخذك إلى هناك. لم يعد الوصول إلى هناك مشكلة. إنها نزهة سياحية عادية، وفر لها طريق خاص سريع ومريح، تكلف إنشاؤه الكثير، وله هدف وحيد هو إتاحة الفرصة أمام زوار الموقع للذهاب إليه ثم العودة منه. ومع ذلك نجد الأدلة السياحية تؤكد على بعد المكان ووعورة الطريق المؤدية إليه. تلك الأدلة تعد الزائر بمشهد «مذهل»؛ فموقع المعبد «مهيب وموحش»، ومسار الطريق «متعرج» و«يتلوى على طول المنحدرات». بعبارة أخرى، فإن زيارة باساي لا تزال تقدم لنا باعتبارها رحلة استكشاف للبرية ولأراض مجهولة (انظر الشكل
3-1 ).
شكل 3-1: الصورة الكلاسيكية للمعبد الموجود في باساي.
هذه تحديدا هي الكيفية التي قدمت بها باساي في رواية سايمون ريفن المكتوبة في مستهل سبعينيات القرن العشرين بعنوان «تعال مثل الظلال»، التي فيها يصل الميجور فيلدينج جراي، والذي يعيد كتابة سيناريو لفيلم يتناول ملحمة أوديسا لهوميروس، إلى «فاساي» على ما يبدو في حالة انهيار، فكان «يجاهد من أجل فهم بحور الشعر سداسي التفعيلة وما يكافئها من نثر مختصر، وكم كان هوميروس يستحق هذا الجهد ...» لكنه في الواقع تعرض للاحتجاز والتخدير والاستجواب على يد عميل أمريكي، يدعى ألويسيوس شيث يعمل في موقع «الكلية الأمريكية للدراسات الإغريقية». وبينما كان ساشا وجول يحتسيان عصير الليمون وإلجين في مكان آخر، أخذ شيث فيلدينج «في جولة في معبد أبوللو المخلص في فاساي ... «والشيء الغريب في هذا المعبد ... أنه كان قد شيد في أبعد بقعة نائية في البلاد ... كانت الأعمدة الرمادية تنبثق من الصخور الرمادية» ... سماء رمادية، شجيرات رمادية، وصخور رمادية. ولا يوجد على مرمى البصر أثر لرجل ولا لحيوان. ولا أثر لبيت ... إلا بيت أبوللو المخلص. «على ارتفاع أربعة آلاف قدم، فإننا ...»»
مفاجأة بعيدا عن الطريق
ومع ذلك عند وصولك إلى الموقع، هناك نوع آخر من المفاجآت ينتظرك. فلا يمكنك بالفعل «رؤية» المعبد على الإطلاق . إنه لا يزال هناك، بطبيعة الحال. وفي الواقع، هو قائم الآن بطريقة أكثر فخرا مما كان عليه في أيام كوكريل ورفاقه؛ لأن العديد من الكتل المتناثرة قد جمعت وأعيد بناؤها لتكون أعمدة منتصبة. لكن المبنى كله مغطى بالكامل بما وصف بأنه «خيمة سيرك هائلة»، «سرادق كبير عالي التقنية» (انظر الشكل
3-2 ). وقد صار على هذا الحال منذ عام 1987، ومن المتوقع أن يظل هكذا في المستقبل المنظور. وهنا يذوب التصور الرومانسي للأنقاض القديمة للمنظر الطبيعي الوعر، وتبرز صورة أخرى مختلفة تماما، سرادق رمادي ضخم، مفرود على عوارض معدنية، ومثبت إلى خرسانة قوية في الأرض.
الكتيبات الإرشادية تحذر الزائر اليقظ من وجود مفاجأة تنتظره. ولكنها لا تفعل شيئا يذكر لمواجهة ما سيشعر به أي شخص من خيبة أمل عندما يزور طللا رومانسيا شهيرا وإذا به يفاجأ بشيء مختلف تماما؛ إذ يجد ذلك الطلل محاطا بقماش حديث يفتقر إلى الرومانسية. قليلة هي الكتب التي تقترح عليك إلغاء رحلتك بالكلية: «لابد أن يقال إن الزوار على الراجح سيمنون بخيبة أمل، إذا لم يثنيك هذا ...» وتجد معظم تلك الكتب تحاول أن تبرر الحاجة إلى وضع هذه الخيمة لحماية بقايا المعبد: لحمايتها من المطر الحمضي، أو لتوفير مأوى للعمال الذين يعملون في برنامج الترميم الطويل، أو (وهذا هو السبب المعلن رسميا) للحفاظ على الأسس الحساسة من التآكل بسبب المياه. بل إن بعض الكتب تحاول جعل ذلك كله يصب في مصلحة السائح، وذلك بأن تدعي أن الخيمة في حد ذاتها مثيرة للإعجاب: «إنها في حد ذاتها لها شكل رائع ومتميز، وهي تضيف جوا خاصا حين يصير المرء في الداخل.» وكأن القوم يصيحون: زوروا عوارض اليونان!
شكل 3-2: المعبد الموجود في باساي اليوم.
عند هذه النقطة ربما تكون «الاختلافات» بين أي زيارة حديثة إلى باساي واستكشافات القرن التاسع عشر هي التي تبدو الأكثر لفتا للأنظار. كان كوكريل ورفاقه يرونها رحلة خطرة، جابوا فيها بلادا تفتقر إلى الكرم والترحاب والرعاية الصحية، بل إنهم بالفعل خاطروا بحياتهم في مواجهة قطاع الطرق والحمى . أما نحن فنجد سيارات الأجرة والفنادق، ونشتري البطاقات البريدية في القرية المجاورة. لقد أصبحت باساي اليوم مكانا يمكنك فيه قضاء نزهة لطيفة، وهي تنال دعما وتشجيعا من جميع موارد أكبر صناعة في اليونان؛ ألا وهي السياحة.
كان الرحال القدامى لا يبحثون فقط عن اكتشافات جديدة من الماضي الكلاسيكي القديم، ولكن كانوا يبحثون عن فرصة لسلب ما عساهم يجدونه، سواء من أجل أنفسهم أو بلادهم. كانت آثار الماضي تنتظر من يستولي عليها وينسب ملكيتها لنفسه. على النقيض من ذلك، تعلم السائحون الذين يقصدون آثار العالم القديم في وقتنا الحاضر أن يقصروا طموحاتهم الاستحواذية على شراء بعض البطاقات البريدية والهدايا التذكارية. واليوم قد يلقى القبض عليك إن حاولت إخراج أي آثار حقيقية من اليونان، ولو كان وعاء صغيرا في قاع حقيبة سفرك، ناهيك عن ثلاثة وعشرين لوح رخام منحوتا. توجه الكتيبات الإرشادية السائح توجيها صريحا نحو قضايا الحفظ، وكذلك المشاكل الصعبة والنفقات المتعلقة بالمحافظة على بقاء التراث الإغريقي في نفس المكان الذي ينتمي إليه. يقولون لنا هناك إن فقدان رومانسية باساي كان في سبيل حماية الموقع الأثري. ومن ثم فإن تلك الخيمة تذكرنا بقوة بالتغير الذي طرأ على أولوياتنا في مواقفنا من الماضي الكلاسيكي: من ثقافة القرن التاسع عشر التي كان محورها الحيازة والملكية، إلى ثقافة القرن العشرين التي محورها الرعاية والحفظ.
لكن سياح وقتنا الحاضر تربطهم قواسم مشتركة بالرحال الأوائل أكثر مما يبدو عليه الأمر؛ فيجمع بينهم الشعور المستمر بإثارة الاستكشاف، والتي يشعرون بها في معظم الطرق السياحية المطروقة. كما رأينا، فإن الكتب الإرشادية لا تزال تكتب عما نجده الآن من سهولة التوجه بحافلة أو سيارة أجرة إلى باساي بطريقة تشبه كثيرا طريقة وصف كوكريل نفسه لرحلته إلى هناك. ونفس الكتب، وهي تقدم للسائح المزيد من النصائح العامة، لا تزال تميل إلى تناول قضاء العطلة في اليونان على أنه رحلة إلى أرض غريبة ويحتمل أن تكون خطرة، حتى مع حلول تحذيرات خفيفة بشأن «اضطرابات المعدة» محل الحكايات المأساوية عن الموت بسبب الملاريا، وتجد بها الآن نصائح حول سائقي سيارات الأجرة المحتالين والنشالين بدلا من قصص القتل على أيدي «قطاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا».
تذكارك المتميز للغاية
أيضا تتشارك الكتيبات الإرشادية في ثقافة الاستحواذ والتملك والعرض. قد يكون صحيحا أن مسافري عصرنا لا يجلبون معهم حين يعودون إلى أوطانهم سوى البطاقات البريدية، والصور، والبلاستيك الرخيص، أو قطع الفخار غالية الثمن، والنماذج المقلدة كهدايا تذكارية، لكن لا يزال جزءا أساسيا من صناعة السياحة (في اليونان أو في أي مكان آخر) أن السياح ينبغي «أن يجلبوا معهم شيئا حين يعودون إلى الوطن». إن النتيجة المباشرة لقضائنا عطلات الصيف أن كثر في بريطانيا القرن العشرين انتشار صور العالم الكلاسيكي القديم بقدر يفوق ما كان عليه الأمر في القرن التاسع عشر من نماذج بلاستيكية مصغرة من البارثينون، أو جرار «إغريقية» نزين بها أرفف المواقد، إلى البطاقات البريدية التي نعلقها على الجدران لتذكرنا بما قمنا به من زيارات لمعالم العالم القديم.
كما أننا نسعد كثيرا حين نذهب لزيارة تلك الأعمال الفنية والإعجاب بها؛ تلك الأعمال التي تجشم جوالتنا العظام عناء جلبها إلى الوطن من أراضي اليونان التي استكشفوها، بصرف النظر عن هواجسنا حول مدى نزاهة طريقة اقتنائنا لها. وإنها لمفارقة غريبة أن أيديولوجية القرن العشرين القائمة على الحفظ والتأمين يمكن أن تستخدم هي نفسها لتبرير إصرارنا على الاحتفاظ بهذه الآثار الحقيقية للعالم القديم، في حين أن أسلافنا في القرن التاسع عشر قد استحوذوا عليها بطريقة لا تخلو من طعن. ومن أشهر ما تسمع من تبريرات نقدمها للإبقاء على رخام البارثينون في المتحف البريطاني، بدلا من إعادته إلى اليونان، قولنا: «إننا» اعتنينا به عناية تفوق ما كان سيلقاه من عناية من اليونانيين أنفسهم.
بطبيعة الحال يمكن ترجمة هذا الاحتفاء الزائد بالنفس إلى إسعافات أولية سخية للمواقع اليونانية حالما تتأثر سلبا بعمليات التنقيب عن الآثار وجمعها وبالسياحة. في روايته عن «فاساي» يسخر ريفين من الأثري الأمريكي المحتال - «ذي الأنف الذي يشبه عصا الهوكي» - على هذا النحو : «قال ألويسيوس شيث: «بالطبع على مستوى اليونان لا يوجد خارج أثينا معبد مصان أكثر منه. لقد ساهمنا كثيرا في ذلك. إنهم في غاية الامتنان. ثم الآن ... ستلاحظ أن به ستة أعمدة في الأمام وفي الخلف، وخمسة عشر عمودا على كلا الجانبين بدلا من الرقم المعتاد اثني عشر عمودا. فلا تزال سبعة وثلاثون عمودا قائمة هنا، ولكن هناك ثلاثة وعشرين لوح إفريز رحل بهم ... خمن، من؟ ... البريطانيون ...»»
ولكن أكثر ما يربطنا ربطا وثيقا بجميع الأجيال السابقة من مستكشفي اليونان هو ذلك التوتر الذي توارثناه منهم بين توقعاتنا لما تكون عليه اليونان وما هي عليه في الواقع، الذي قد يكون مخيبا للآمال. لقد صدم كوكريل ومعاصروه حين رأوا الفرق بين الصورة المثالية التي كانت في أذهانهم عن العالم القديم وما وجدوه على أرض الواقع من حياة ريفية وضيعة. ومن صور تعاملهم مع تلك الفجوة تبنيهم لفكرة الرحلة الاستكشافية البطولية والبراقة. ونحن، بالطبع، لم نرث فقط المثل العليا القديمة عن كمال العالم القديم، ولكننا ورثنا أيضا تلك الرؤية الرومانسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. إن اليونان «الحقيقية» ستكون حتما مفاجأة بالنسبة لنا أيضا.
وأيا كان التزامنا بترميم الآثار، فلا مناص من أن نشعر بخيبة الأمل إن زرنا باساي متوقعين أن نرى أثرا رومانسيا، فإذا بنا نقف أمام معبد يرى بالكاد من تحت غطاء رمادي يغطيه. مثل الرحال الأوائل، نحن أيضا مضطرون لإيجاد وسيلة للتعامل مع ذلك الصدام بين رؤيتنا الوهمية لليونان وما نراه في الواقع عندما نصل إلى هناك. وأيا كان مصدر أفكارنا المسبقة، سواء كنا جوالين عظاما أو ممن يعدون برامج العطلات، فإن زيارة اليونان تنطوي دائما على التوفيق بين تلك الأفكار المسبقة وما نجده على أرض الواقع. إننا لا نتصور في خيالنا عادة «أجواء» معبد مغطى بغطاء، ومع هذا تظل زيارة اليونان تنطوي دائما على رؤى مختلفة ومتضاربة للعالم القديم وحضارته.
بعبارة أخرى، إننا - معشر السياح المعاصرين - نشبه الرحال الأوائل في جوانب ونخالفهم من جوانب أخرى. بالقطع تغيرت أولوياتنا ، ومما لا شك فيه أن محور اهتمامنا بالمعبد والحفاظ عليه اختلف تماما، وتغيرت الظروف المادية لرحلتنا بشكل تام. ومع ذلك فإننا لا نتشارك مع أسلافنا فقط في خبرة رؤية ما تبقى من نفس الأثر (بخيمة أو بغيرها)؛ بل نتشارك معهم أيضا في الكيفية التي علينا أن نفهم بها زيارتنا، وكيفية التعامل مع الصدام المحرج في بعض الأحيان بين الصورة التي نحملها في أذهاننا لليونان واليونان الموجودة على أرض الواقع. وما هو أكثر أهمية، على الأرجح، أن خبرتنا باليونان ليست شيئا نكتشفه بأنفسنا، على نحو جديد تماما، بل هي شيء، على الأقل في جزء منه، نرثه من أولئك الرحال الذين خبروا اليونان قبلنا.
تشابه واختلاف
هذا الخليط من التشابه والاختلاف يقدم نموذجا قويا لفهم دراسة التراث الكلاسيكي ككل. وهو يقترح إجابة للسؤال الرئيسي الذي تطرحه هذه الدراسة دائما: إلى أي مدى يتغير التراث الكلاسيكي؟ إلى أي مدى ظل التراث الكلاسيكي اليوم كما كان منذ 100 أو 200 أو 300 سنة مضت؟ إلى أي مدى يمكن أن يكون هناك أي شيء جديد يمكن أن يقال أو نفكر فيه في موضوع أشبع كلاما وحديثا على مدار ألفي عام أو أكثر؟
والجواب، في ضوء زيارتنا إلى باساي، هو أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافا كبيرا عما كان عليه؛ فعندما نجلس لنقرأ الشعر الملحمي الذي نظمه هوميروس أو فرجيل، أو فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو شيشرون، أو مسرحيات سوفوكليس أو أريستوفانيس أو بلوتس، فإننا «نتشارك» في ذلك النشاط مع جميع من قرءوا تلك الأعمال من قبلنا. إنه يربط بيننا وبين رهبان القرون الوسطى الذين نسخوا بتفان مئات من نصوص العالم القديم (ومن ثم حفظوا لنا ذلك التراث)، كما أنه يربط بيننا وبين تلاميذ مدارس القرن التاسع عشر الذين كانت تعج أيامهم بدراسة «أعمال التراث الكلاسيكي»، كما أنه يربط بيننا وبين قرون من المهندسين المعماريين والبنائين في جميع أنحاء أوروبا الذين (مثل كوكريل) قرءوا ما كتب فيتروفيوس ليتعلموا كيف يكون البناء.
وأكثر من ذلك أن «خبرتنا» بالتراث الكلاسيكي تتأثر حتما بخبرة هؤلاء. إن الأمر لا يقتصر على أن اختيار هؤلاء الرهبان من القرون الوسطى لما يجب نسخه هو ما حدد النصوص الكلاسيكية التي عاشت إلى عصرنا؛ فتقريبا كل أدب العالم القديم الذي كتب له أن يعيش إلى عصرنا قد حفظ بفضل ما بذله هؤلاء من جهد في نسخه وإعادة نسخه. إننا أيضا نعيش العالم الكلاسيكي القديم في ضوء ما قالته الأجيال السابقة عن هذا العالم وكتبته وفكرت فيه. ولا يتسم موضوع آخر بكل هذا القدر من الثراء والتنوع.
إننا جميعا مرتبطون بالتراث الكلاسيكي، بصرف النظر عن القدر الذي نظن أننا نعرفه عن الإغريق والرومان، قليلا كان أم كثيرا. ولا يسعنا مطلقا أن نتناول التراث الكلاسيكي كغرباء عنه تماما. ليست هناك ثقافة أجنبية أخرى تمثل كل هذا القدر من تاريخنا. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يخص تقاليد اليونان وروما هو أسمى مرتبة من أي حضارة أخرى؛ كما أنه لا يعني أن حضارتي العالم القديم هاتين لم تتأثرا أنفسهما بالثقافات السامية والأفريقية المجاورة، على سبيل المثال. في الواقع، جزء من انجذاب المعاصرين للعالم القديم يكمن في الطرق التي واجه بها الكتاب القدماء التقاليد الثقافية المتنوعة للغاية لعالمهم، وناقشوا، بلغة عصرنا، التعددية الثقافية لمجتمعاتهم. بالطبع، لعبت العجرفة بل والعنصرية دوريهما في العالم القديم، ولكن، على حد سواء، تطورت الليبرالية والإنسانية وانتشرتا في ظل نفوذ ذلك العالم.
إن كون التراث الكلاسيكي يمثل مركز جميع أشكال ما لدينا من سياسة ثقافية هو العنصر الذي يربط الحضارة الغربية بتراثها. فعندما ننظر، على سبيل المثال، إلى البارثينون لأول مرة، فإننا ننظر إليه ونحن نعلم مسبقا أن أجيالا من المهندسين المعماريين اختارت على وجه التحديد ذلك النمط لبناء المتاحف، وقاعات المدينة، والبنوك في معظم مدننا الكبرى. وعندما نمسك «الإنياذة» لفرجيل للمرة الأولى، فإننا نقرؤها ونحن نعلم أنها قصيدة أعجب بها الناس ودرسوها وقلدوها على مدار مئات بل آلاف السنين؛ باختصار هي عمل «كلاسيكي».
من ناحية أخرى، تعد خبرتنا بالعالم القديم جديدة في كل مرة؛ فقراءتنا الحالية لفرجيل لا يمكن أبدا أن تشبه قراءة راهب من القرون الوسطى أو قراءة تلميذ من القرن التاسع عشر. هذا يحدث جزئيا بسبب الظروف المختلفة التي نقرأ فرجيل فيها، وهي تشبه ظروف السفر المختلفة. إن زيارة إلى باساي في سيارة أجرة تختلف حتما عن زيارة إليها على ظهر بغل سيئ المزاج. وبنفس الطريقة تقريبا نجد قراءة الإنياذة في صورة نسخة ورقية في حجم الجيب تختلف تماما عن قراءتها في صورة كتاب قيم من الجلد منسوخ بخط اليد، وتختلف قراءتها وأنت جالس في كرسي تماما عن قراءتها وأنت في فصل دراسي تحت إشراف مدرس مرعب من العصر الفيكتوري.
ولكن الاختلافات تكمن، بصورة أكثر لفتا للأنظار، في الأسئلة والأولويات والافتراضات المختلفة التي نسبغها على النصوص والثقافة القديمتين. لا يوجد قارئ في أواخر القرن العشرين بوسعه أن يقرأ أي شيء - سواء أكان كلاسيكيا أم لا - بنفس الطريقة، أو بنفس الفهم الذي يخص قارئا من جيل سابق. فالنسوية، على سبيل المثال، لفتت الأنظار إلى أهمية دور المرأة في المجتمع والتعقيدات المحيطة بها، والبحوث التي أجريت مؤخرا في تاريخ الحياة الجنسية عززت أيضا فهما جديدا جذريا لأدب القدماء وثقافتهم.
بلا شك لم يفاجأ كثيرون ممن عاشوا في العصر الفيكتوري من تبعية المرأة في كل من اليونان وروما، وحقيقة أن المرأة لم يكن لديها حقوق سياسية في أي مدينة من مدن العالم القديم، والأقوال الصريحة للعديد من الكتاب القدماء بأن دور المرأة في الحياة هو أن تلد الأطفال، وتنسج الصوف، وتتجنب أن يتحدث الناس عنها. في الوقت نفسه كان الباحثون في العصر الفيكتوري مشغولين بتجاهل (أو حتى بحذف) العديد من المقاطع في مؤلفات القدامى التي كانوا يرون أنها تسرف في الحديث عن الجنس بين الرجال والنساء، أو اللواط بين الرجال والصبيان. أما دارسو التراث الكلاسيكي المعاصرون فنجدهم لا يعيبون وحسب على الإغريق والرومان كراهيتهم الشديدة للنساء، أو يحتفون بعنصر الإثارة الجنسية العلنية لديهم، وإنما يستكشفون كيف أن الأدب القديم أبقى على كراهية النساء تلك أو شكك فيها، ويتساءلون عما حدد الطرق التي نوقش بها موضوع الجنس وصور في الفن والنصوص القديمة. على سبيل المثال، كيف نفهم ما يكمن وراء عبارة فرجيل التي تقول: «النساء» أو «المرأة دائما شيء متلون ومتغير»؟ وهذه الاستكشافات نتيجة مباشرة لمناقشات دارت في القرن العشرين حول حقوق المرأة، ونظريات النوع، والسياسة الجنسية، وتضفي الدراسة الكلاسيكية بدورها عمقا تاريخيا حيويا في مناقشات القرن العشرين تلك.
الحقيقة الأساسية هي أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافا كبيرا عما كان عليه، وهذه ليست قصة بسيطة تدور حول «التقدم» في تفسير التراث الكلاسيكي. فلا شك أن التغييرات في مصالحنا تنطوي على خسائر، وكذلك مكاسب؛ فعلى سبيل المثال، عبر المائتي عام الأخيرة من المفترض أننا فقدنا قدرا كبيرا من التعاطف مع القتال الجسدي القديم، والتدريب العملي على تجربة أهوال السفر عبر البحار المجهولة. ما يهم هو أن هذه التغييرات لها أثرها. وقراءة ما كتبه فرجيل أبعد ما تكون عن خبرة متماثلة لا تختلف على مر القرون، كما سنبين في الفصل التاسع من هذا الكتاب. والأمر عينه ينطبق على كل زيارة إلى باساي.
لقد روينا قصة السياحة الحديثة والاستكشافات التي جرت في القرن التاسع عشر لتوضيح هذه النقطة على وجه التحديد، ولتوضيح مدى تعقيد الاستمرارية وعدم الاستمرارية في تجربتنا مع التراث الكلاسيكي. وأهم ما نقوله أننا سوف نجعل هذا الكتاب ينبع مباشرة من هذه التأملات حول الزيارات المختلفة لباساي. وكما قلنا، إذا كانت دراسة التراث الكلاسيكي توجد في «الفجوة» التي تفصل بين عالمنا وبين العالم القديم، فإن ذلك التراث يتحدد في ضوء تجربتنا، واهتماماتنا ومناقشاتنا مثلما يتحدد في ضوء تجربتهم واهتماماتهم ومناقشاتهم. وزيارة باساي تقدم لنا مثلا لفهم مدى التنوع والتعقيد الذي يمكن أن تكون عليه إسهامات المعاصرين.
تصورنا عن التراث الكلاسيكي
شكل 3-3: لوحة رسمها إدوارد لير لمعبد أبوللو في باساي.
إن أهمية مساهمتنا في التراث الكلاسيكي تبرز أمامنا بطرق غير متوقعة؛ فعلى بعد بضع مئات من الأمتار من موضع كتابة هذا الكتاب، يقع متحف فيتزويليام في كامبريدج، وبه لوحة فنية شهيرة من القرن التاسع عشر تصور باساي (انظر الشكل
3-3 ). رسم اللوحة إدوارد لير، المعروف لنا بقصائده الفكاهية أكثر من لوحاته التي كانت مصدر رزقه، وقد زار الموقع في زيارة له إلى اليونان في عام 1848، وقال عن تلك الزيارة إنها كانت «أمتع ستة أسابيع قضيتها في حياتي.» بعد سنوات، حين مرض لير، وأصبح حبيس منزله، يعاني من ضيق ذات اليد، تجمع عدد من أصدقائه وفاعلي الخير واشتروا تلك اللوحة ليقدموها إلى فيتزويليام. لقد شعروا أنها ستكون هدية مناسبة لذلك المتحف؛ إذ إن قالبا جصيا من الجبس لإفريز باساي كان بالفعل معروضا هناك، وكان كوكريل نفسه قد انخرط بشكل كبير في تصميم مبنى ذلك المتحف. لكن من هذا المنطلق ربما كانت هدية مناسبة لمتحف أشموليان في أكسفورد؛ لأنه في حد ذاته كان أحد الأعمال الرئيسية لكوكريل، وكان يضم أيضا قالبا من الجص لإفريز باساي على درج المتحف الرئيسي.
تلخص اللوحة الصورة الرومانسية لباساي؛ إقفار المشهد، وعزلة المعبد وهو يظهر عبر إطار من الصخور والأشجار الجبلية الملتوية. تلك هي باساي كما يراها كوكريل وتراها الكتيبات الإرشادية التي بين أيدينا. ولكن في انتظارنا مفاجأة أخرى.
في الواقع، إن هذا المشهد «اليوناني» رسم في إنجلترا، من الريف الإنجليزي. لا شك أن لير رسم رسومات كثيرة عندما كان يقوم بجولة في اليونان، وقد ساعده ذلك على الاحتفاظ في ذاكرته بما رآه هناك من مشاهد ومناظر طبيعية. لكن مذكراته توضح جليا أن كل تفاصيل الصخور والأشجار التي تظهر في تلك الصورة أخذت من واقع ملموس، وذلك باستخدام عينات مناسبة تقع في وسط إنجلترا في ريف ليسترشير.
هذا تذكير قوي بمساهمتنا في صورة التراث الكلاسيكي والعالم الكلاسيكي. إن لير (وأمثاله) قد صور لنا «يونانا» من وحي ذكريات أسفاره معتمدا على مشاهد مألوفة لديه في بلده. بل أكثر من ذلك، أن هذا التصور يعيننا على فهم التفاوت بين توقعات من يزور اليونان وبين ما يجده الزائر على أرض الواقع فهما أفضل. إذا كنا نأمل في العثور على نسخة حية للصورة التي رسمها لير لباساي عندما نذهب إلى الموقع نفسه، كيف يمكننا حينها ألا نفاجأ أو نصاب بخيبة أمل؟ إن صورة لير لم تكن نسخة أمينة للمنظر الغريب الذي رآه في اليونان. فحالها كحال كل صور التراث الكلاسيكي، كانت (جزئيا على الأقل) صورة من بلد لير، كانت جزءا من ثقافته؛ لأن التراث الكلاسيكي كان هو الآخر جزءا من تلك الثقافة.
الفصل الرابع
دليل إرشادي بين أيدينا
السفر إلى الماضي
تقع السياحة في قلب دراسة التراث الكلاسيكي. وليس هذا مقصورا وحسب على السياحة التي نقوم نحن بها في عصرنا الحديث إلى اليونان، سواء أكانت في العالم الخيالي لكتيبات وملصقات السفر أم في العالم الواقعي لعطلات منطقة البحر المتوسط. بل إن الأمر يتجاوز كونه عملية إعادة اكتشاف لليونان الكلاسيكية قام بها كوكريل ورفاقه من الرحال العظام؛ فقد كان الإغريق والرومان سياحا هم أيضا، وجابوا هم أيضا المواقع السياحية، حاملين أدلة إرشادية في أيديهم، محاربين قطاع الطرق، ومعرضين للسلب على أيدي السكان المحليين، وساعين إلى اكتشاف ما قيل لهم إنه أمر يستحق الرؤية، كانوا متشوقين إلى الدخول في «أجواء» ذلك التراث القديم.
لا يزال أحد الأدلة الإرشادية العتيقة باقيا إلى اليوم؛ وهو بعنوان «الدليل الإرشادي إلى اليونان» كتبه باوسانياس في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي. وعلى امتداد عشرة مجلدات يرشد باوسانياس المسافر المثابر إلى ما رأى باوسانياس أنها أهم مواقع اليونان، وذلك في رحلة تبدأ من أثينا في المجلد الأول، ثم تمتد عبر جنوبي اليونان، ثم تعود مجددا إلى دلفي في الشمال، وذلك في المجلد العاشر. وفي المجلد الثامن يصف باوسانياس منطقة أركاديا في شبه جزيرة بيلوبونيز. وإحدى نقاط التوقف في أركاديا كانت معبد أبوللو في باساي.
وكما لك أن تتوقع من أي كتيب إرشادي معاصر، بدأ باوسانياس - متخذا من بلدة فيجاليا القريبة نقطة بدء له - بتحديد المسافة إلى باساي، وبعد ذلك وصف باختصار المعبد وتاريخه:
عليه [جبل كوتيليوس] يوجد مكان يسمى باساي، وفيه معبد أبوللو المغيث، مبني من الحجر، حتى سقفه وكل ما به. ومن بين كل المعابد الموجودة في شبه جزيرة بيلوبونيز، تاليا على المعبد الموجود في تيجيا، ربما يعد هذا المعبد الأول من حيث جمال أحجاره وتناسق أبعاده.
ثم يعمد باوسانياس إلى تفسير اللقب الخاص الذي يحمله الإله أبوللو في باساي: أبوللو إبيكوريوس؛ بمعنى أبوللو «المغيث» أو «المعين». يبدو أن هذا اللقب منح إقرارا بمعاونة أبوللو لشعب فيجاليا «في وقت الطاعون، مثلما منح في أثينا لقب «الحامي من الشر» [«ألكسيكاكوس»]؛ وذلك لتخليصه أثينا من شرور الطاعون.»
الطاعون الذي يشير إليه باوسانياس هو ذلك الطاعون الشهير الذي ضرب الأثينيين في بداية حربهم المريرة ضد أسبرطة، تلك الحرب التي تسمى «الحرب البيلوبونيزية»، في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد وصفت أعراض ذلك الطاعون المريعة، من حمى وقيء وتقرحات، تفصيلا على لسان ثوسيديديس، الذي أصيب هو نفسه بالمرض ثم برئ منه. وقد قدم ثوسيديديس المرض بوصفه رمزا سياسيا للكارثة التي حلت بأثينا الديمقراطية في مؤلفه الشامل «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» إذ يقول: «الملمح الأشد ترويعا للمرض بأسره ليس فقط فقدان الهمة؛ ففي اللحظة التي يدرك فيها الشخص أنه أصيب به ترى عقله وقد تملكه القنوط على الفور، ويستسلم للموت دون مقاومة، ولكن أيضا في الطريقة التي يلتقط بها المرء عدوى المرض من شخص كان يعتني به؛ ومن ثم كان الناس يموتون كالأغنام.» وصف الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس الطاعون نفسه، ورأى فيه صورة قوية لكارثة كونية حلت بالمجتمع البشري.
يقودنا باوسانياس إلى الاعتقاد بأن هذا الوباء قد ضرب تلك المنطقة من جنوب اليونان أيضا، وأن معابدنا شيدت في ذلك الوقت فيما يبدو بوصفها سبيلا للتعبير عن العرفان للإله الذي أزال المرض. ويقترح باوسانياس أن هوية المعماري تؤكد هذه الرابطة؛ إذ إن معبد باساي صمم بواسطة إكتينوس، وهو المعماري الذي صمم البارثينون في أثينا أيضا، ذلك المعبد الذي اكتمل بناؤه قبيل انتشار الطاعون مباشرة.
تعد الرواية الموجزة لباوسانياس أساس السواد الأعظم من التاريخ المقتضب الموجود في الكتب الإرشادية عن هذه الفترة. وحتى حين لا تذكر هذه الكتب باوسانياس بالاسم، فإنها تقدم لقارئها المعاصر الكثير من المعلومات التي نقلها هو إلينا؛ كالطاعون الذي يكمن خلف تأسيس المعبد، والرابطة مع الحرب البيلوبونيزية البشعة ومع معماري البارثينون. وكذلك بطبيعة الحال كانت رواية باوسانياس (وتحديدا ذكره لإكتينوس) هي ما حفز كوكريل وأصدقاءه على الذهاب في رحلة بحثا عن معبد أملوا أن يكون بارثينون آخر. وقد كتب كوكريل نفسه يقول: «الحقائق المثيرة للاهتمام التي سجلها باوسانياس ... كانت سببا كافيا يثبت [له وللمسافرين السابقين] أهمية هذا البحث.»
كان تبين الأسباب التي دعت باوسانياس لزيارة باساي عملية أكثر صعوبة بكثير؛ فهو لا يقول صراحة ما الذي دفعه للسير في هذا الطريق الجبلي الطويل المسدود، فقط كي يرى هذا المكان المقدس، الذي كان يصعب الوصول إليه في القرن الثاني الميلادي مثلما كان يصعب الوصول إليه حين ذهب كوكريل إليه. فأثناء رحلته إلى المدينة الرئيسية، أركاديا (التي تعني حرفيا «المدينة الكبيرة»)، كان قد شاهد بالفعل تمثالا من البرونز لأبوللو كان قد أزيل في وقت سابق من المعبد الموجود في باساي، ووضع في مكان مفتوح كي يراه العامة. ربما شجعته رؤية هذا التمثال على الذهاب وتقصي أمر المعبد الذي جاء التمثال منه أصلا. أو ربما كان يتتبع المباني التي صممها معماري البارثينون العظيم.
لكن بصورة إجمالية توافقت زيارته إلى باساي وتوصيفاته للمعبد على نحو وثيق مع الأولويات والاهتمامات التي أبداها عبر دليله الإرشادي. كان باوسانياس ابنا من أبناء مدينة يونانية توجد حاليا في تركيا (لا يخبرنا تحديدا أي مدينة هي). وقد كان يكتب باليونانية، من أجل جمهور متحدث باليونانية، عن جغرافيا اليونان وتاريخها والمعالم الموجودة بها. لكنه كان أيضا يكتب بعد انقضاء أكثر من مائتي عام على الغزو الروماني للعالم الإغريقي. ومن ثم، يكون من الصحيح على حد سواء أن نعتبره مواطنا من مواطني الدولة الرومانية، يصف لنا جولة في أرجاء أحد الأقاليم المستقرة تحت حكم الدولة الرومانية منذ وقت طويل ، وذلك لجمهور متحدث باليونانية يتكون من مواطنين أو رعايا للدولة الرومانية. لقد ترتب على الغزو الروماني لليونان أمور كثيرة، لا تنحصر فقط في تبعية اليونان لروما. فبحلول وقت باوسانياس كانت أبرز المعالم الجديرة بالمشاهدة بالبلاد تتضمن مباني تذكارية شيدتها السلطة الحاكمة ودفعت تكاليف إقامتها ورعتها: المعابد المبنية بالأموال الرومانية تكريما للأباطرة الرومانيين، والنافورات والتماثيل والأسواق والحمامات التي مولها فاعلو الخير الرومانيون. ذكر باوسانياس عددا قليلا من هذه المعالم ذكرا عابرا، وأغلبها كان إنجازات حديثة، لكن تركيزه، كما في باساي، كان في موضع مختلف تماما.
ركز باوسانياس على المعالم الأثرية الخاصة ب «اليونان القديمة» وعلى تاريخها وعلى ثقافتها، تلك اليونان التي كانت موجودة قبل الغزو الروماني بوقت طويل. إن جولته السياحية هي في واقع الأمر جولة تاريخية تمر بالمدن القديمة والأماكن المقدسة التي تعود لزمن يسبق الحكم الروماني بكثير. والقصص التي يرويها باوسانياس عن الآثار التي يزورها تعود كلها تقريبا إلى تلك الحقبة المبكرة من تاريخ اليونان، بعاداتها وخرافاتها واحتفالاتها وطقوسها التقليدية. إن وصفه لباساي وصف تقليدي، يعود بالقارئ إلى زمن الطاعون الشهير الذي وقع منذ أكثر من 600 عام على وقته، وذلك من دون أي ذكر لأي من الأحداث القريبة في تاريخ المعبد. إن باوسانياس يجعل اليونان «الرومانية» المعاصرة له يستحيل التفرقة بينها وبين يونان القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يفعل هذا عن عمد.
إن «الدليل الإرشادي إلى اليونان» إذن يتجاوز كونه محض كتيب سياحي يحمله المسافر؛ أي محض تقرير محايد عن كل ما يمكن رؤيته وكيفية الوصول إليه. فباوسانياس، شأنه في ذلك شأن أي مؤلف لدليل إرشادي، قديم أو معاصر، يتخذ اختيارات بشأن ما يمكن تضمينه وما يمكن حذفه، وبشأن «الكيفية» التي يصف بها الآثار التي يختار وصفها. وهذه الاختيارات تؤدي لا محالة إلى وجود ما هو أكثر (وأقل) من محض «توصيف» بسيط لليونان. يقدم باوسانياس للقارئ رؤية خاصة لليونان والهوية اليونانية، ويقدم له طريقة خاصة للإحساس باليونان تحت الحكم الروماني. هذه الهوية تضرب بجذورها في الماضي السابق على مقدم الرومانيين، والرؤية التي يقدمها باوسانياس تتضمن إنكارا، أو على الأقل إخفاء، للغزو الروماني. بعبارة أخرى، يمنح دليله الإرشادي درسا في الكيفية التي يمكن بها فهم اليونان. وهذا الدرس لم يعتمد على التواجد حرفيا هناك، أو على اتباع باوسانياس في جولة في أرجاء المدن والمقدسات اليونانية. إن قراءة ما كتبه باوسانياس يمكن أن تعلمنا الكثير عن اليونان، حتى لو لم يسبق لنا أن وطئت أقدامنا تلك البلاد. وإلى اليوم تستطيع كتاباته أن تعلمنا الكثير.
أيضا تمنحنا رواية باوسانياس عن معبد باساي درسا مهما بشأن مدى الزعزعة التي تتسم بها معرفتنا بالعالم القديم. إن باساي اليوم أحد أشهر المواقع الأثرية الكلاسيكية وأكثرها رسوخا في الأذهان، ومعبد أبوللو الموجود فيها أحد أكثر المباني رسما وتصويرا ودراسة في اليونان. لكن عبارات باوسانياس المقتضبة القليلة تعد بمنزلة الإشارة الوحيدة للمعبد في كل الأدب الذي ظل باقيا من العالم القديم. ولو كان دليل باوسانياس قد فقد، لو لم يختر ناسخو القرون الوسطى (لسبب أو لآخر) أن ينسخوا هذا العمل تحديدا ويحفظوه لنا، لما كنا لنعلم شيئا عن المعبد باستثناء ما قد توحي به الأحجار والمنحوتات نفسها، ما إن يعثر عليها أحدهم مصادفة. بعبارة أخرى، لم نكن لنملك أي فكرة واضحة عن أن هذا المعبد بني من أجل أبوللو (رغم أن وجود أبوللو وشقيقته الإلهة أرتميس بين الشخصيات المجسدة على الإفريز، كما سنناقش في الفصل السابع، قد يكون دليلا). وبالتأكيد ما كنا لنعرف أي شيء عن اللقب «المغيث»، أو علاقة المعبد بالطاعون، أو مشاركة المعماري الشهير إكتينوس في الأمر.
كيف وصلت الأعمال إلينا؟
تحفل دراسة التراث الكلاسيكي بمثل هذه المواقف السعيدة التي كدنا فيها نفقد أحد الأعمال المهمة. وفي الواقع، بعض من الكتب التي تحظى اليوم بانتشار واسع من بين صنوف الأدب القديم أفلتت بالكاد من أن يطويها النسيان. فشعر كاتولوس على سبيل المثال، بما في ذلك سلسلة قصائد الحب الشهيرة الموجهة إلى امرأة يسميها «ليزبيا»، تدين ببقائها إلى نسخة واحدة خطت باليد في العصور الوسطى. وبالمثل ، نجد أن قصيدة لوكريتيوس بعنوان «عن طبيعة الأشياء»، والتي تسرد بالشعر اللاتيني نظريات الفيلسوف الإغريقي إبيقور (بما في ذلك نسخة مبكرة من النظرية الذرية للمادة)، حفظت هي الأخرى عن طريق نسخة وحيدة. وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى لم تكتب لها النجاة على الإطلاق؛ فأغلب ما كتبه المؤرخ ليفيوس عن روما، مثلا، ضاع تماما، وكذلك معظم المسرحيات التراجيدية لكتاب أثينا العظام: إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس.
لكن هذه الصورة آخذة في التغير طوال الوقت. فمنذ عشرين عاما خلت لم نكن نملك سوى سطر وحيد (مقتبس في كتابات كاتب قديم آخر) لواحد من أشهر الشعراء الرومان؛ كورنيليوس جالوس، الذي عاصر في شبابه كاتولوس وكان صديقا لفرجيل، كما تولى لاحقا حكم مصر إبان حكم الإمبراطور أغسطس. لكن في سبعينيات القرن العشرين، وأثناء عمليات تنقيب جرت في مكب نفايات تابع لحصن روماني قديم في جنوب مصر، اكتشفت قصاصة من بردية صغيرة يمكننا أن نقرأ عليها ثمانية سطور من الشعر لا شك في أن جالوس هو من كتبها. ربما كان أحد جنود جالوس هو من تخلص منها، وربما يكون جالوس نفسه هو من فعل هذا (انظر الشكل
4-1 ).
شكل 4-1: من مكب نفايات روماني: قصاصة من بردية تحمل شعرا لكورنيليوس جالوس.
أيضا من واقع عمليات التنقيب التي جرت في مصر على مدار الأعوام المائة الأخيرة، ظهرت إلى النور مسرحية كاملة للكاتب الهزلي ميناندير، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، علاوة على جزء طيب مما لا يقل عن أربع مسرحيات أخرى. كانت كل أعمال هذا الكاتب قد فقدت في العصور الوسطى، ولا يوجد أي مخطوطات بخط اليد لمسرحياته. إلا أن ميناندير كان واحدا من أكثر الكتاب الإغريق انتشارا، وبسبب الدروس الأخلاقية الواردة في مسرحياته كانت أعماله جزءا أساسيا من دراسة كل طالب في العالم المتحدث باليونانية (والذي امتد من اليونان نفسها إلى مصر، وساحل تركيا وشواطئ البحر الأسود). إن بقايا هذه النصوص المدرسية تحديدا هي التي أنقذت، على نحو درامي، من الأوراق المهملة التي استخدمت في لف أجساد المومياوات المصرية.
إن معرفتنا بالأدب الكلاسيكي معلقة على خيط رفيع للغاية (انظر الشكل
4-2 ). فجزء مما نعرفه اليوم (وما لا نعرفه) يمكن عزوه إلى المصادفة المحضة؛ فقد كان من حسن الحظ، مثلا، أن اختار الأثريون التنقيب في هذا المكب تحديدا في ذلك الحصن الروماني تحديدا في مصر؛ ومن ثم وجدوا المثال الوحيد على شعر جالوس. وبالمثل، ربما تسبب الحظ التعس في جعل أحد رهبان العصور الوسطى يسكب نبيذه على مخطوطة كان ينبغي نسخها؛ وبذا محا كل آثار النسخة الوحيدة المتبقية لأحد الأعمال الكلاسيكية. إن قابلية الكتابات القديمة للتعرض للحوادث، أو الإهمال، كان المحفز وراء الكثير من الأفكار السوداوية، وكذلك وراء كتابة مقدار كبير من الأعمال الأدبية. وهكذا نجد رواية جريفز «أنا، وكلاوديوس وكلاوديوس الإله» تعيد بناء السيرة الذاتية المفقودة للإمبراطور الروماني كلاوديوس. وفي رواية «اسم الوردة» يتخيل أمبرتو إيكو رؤية أكثر سوداوية، يحرق فيها أحد الرهبان مكتبة الدير إضافة إلى النسخة الوحيدة من أطروحة أرسطو «عن الكوميديا».
شكل 4-2: على خيط رفيع: المخطوطة الوحيدة التي نملكها من كتاب تاسيتوس «الحوليات»، 11-16.
بيد أن نمط بقاء الأعمال الكلاسيكية ليس قائما على المصادفة وحسب؛ بل هو يعتمد اعتمادا أساسيا أيضا على التاريخ الكامل للتراث الكلاسيكي واهتماماته وأولوياته المتغيرة، بداية من العالم القديم ذاته، مرورا بالعصور الوسطى، ووصولا إلى الوقت الحاضر. بعبارة أخرى، ليست المصادفة المحضة وحدها وراء العثور على نسخ عدة من مسرحيات ميناندير في مصر؛ فهذا الأمر جاء تبعة مباشرة للمكانة المحورية التي منحها ميناندير في تعليم العالم اليوناني. أيضا ليس من قبيل المصادفة أن نملك عددا كبيرا من نسخ مخطوطات العصور الوسطى ل «قصائد الهجاء» التي كتبها الشاعر الروماني جوفينال؛ ففي كثير من هذه القصائد رسم جوفينال صورة حية يرثي فيها لأخلاقيات المجتمع الروماني في وقته ويحط من قدره (وذلك في بدايات القرن الثاني الميلادي). وقد نسخت هذه القصائد وأعيد نسخها على يد رهبان العصور الوسطى؛ لأنها مثلت إدانات لاذعة للفساد، وكانت مادة مثالية للمواعظ في العصور الوسطى: «أي الشوارع لا يملؤها المتزمتون القذرون ؟ هاه! هل تكبح السلوك الفاسد بينما أنت متخندق وسط عصبة من الفلاسفة المثليين؟ أطراف مشعرة، وربما يغطي الشعر الكثيف أعلى ذراعيك أو أسفلهما، وعد الروح الرواقية، لكن على تلك الاست الملساء يخيط جراح مبتسم بواسيرك المتورمة.» إن حقيقة أننا لا نزال نستطيع قراءة كتابات جوفينال مرتبطة ارتباطا مباشرا باستخدامات التراث الكلاسيكي في كنيسة العصور الوسطى.
جاء علم الآثار نتاجا للقصة عينها؛ فلم يكن أحد الأهداف الأساسية للتنقيب في المواقع الكلاسيكية في مصر هو تحديدا اكتشاف المزيد من النصوص القديمة، غير المعروفة بعد، رغم أن هذا الهدف يكمن بالتأكيد خلف العديد من عمليات استكشاف المواقع المصرية. فعلى مدار جزء كبير من القرن التاسع عشر حدد الأدب أهداف عمليات التنقيب عن الآثار، محددا المواقع التي ينبغي البحث عنها والتنقيب فيها، والمواقع التي صارت مصادر جذب شهيرة. لقد جرى اكتشاف مدينتي طروادة ومايسينيه، على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر على يد هاينريش شليمان، وكان سبب هذا الاكتشاف تحديدا أنه ذهب للبحث عن المدينتين المذكورتين في قصيدة «الإلياذة» الملحمية العظيمة لهوميروس عن «حرب طروادة»؛ وذلك إيمانا منه بأنه يستطيع العثور على مدينة أجاممنون؛ مايسينيه، ومدينة برايام وهكتور وباريس وهيلين؛ مدينة طروادة. وكما رأينا، كان ما حفز على استكشاف باساي هو ربط باوسانياس المعبد بالمعماري الذي بنى البارثينون. ولو لم تكن أعمال باوسانياس ظلت باقية، لما كان كوكريل وأصدقاؤه ليحاولوا القيام بمثل هذه الرحلة الخطيرة إلى ذلك الطلل الجبلي النائي، وما كانت الحكومة البريطانية لتفكر في شراء الإفريز والاحتفاظ به في المتحف البريطاني. فبطرق عدة، تعتمد القصة الكاملة التي حكيناها إلى الآن على باوسانياس وأعماله الباقية.
من المفاجئ إذن أننا بتنا نشك الآن في «المعلومات» التي قدمها لنا باوسانياس بشأن المعبد الموجود في باساي. على سبيل المثال خلصت دراسات حديثة أجريت على معمار المعبد إلى أنه استنادا إلى طراز المعبد وتاريخ بنائه، فمن المحتمل ألا يكون لإكتينوس أي دخل بتصميمه. ويرى البعض أن الرابط الذي أقامه باوسانياس بين لقب أبوللو (المعين) وطاعون أثينا العظيم قد لا يعدو كونه محض تخمين، ومن المرجح بشدة خطؤه. بادئ ذي بدء، يؤكد ثوسيديديس صراحة أن الطاعون لم يضرب هذه المنطقة من اليونان. ربما كان باوسانياس يحاول جاهدا البحث عن تفسير للقب غير المعتاد للإله أبوللو. وقد أدى التفسير الذي وجده، أو منح له، بالتأكيد إلى منح باساي شهرة كبيرة من خلال الربط بين تأسيس المعبد وبين فترة ازدهار أثينا الكلاسيكية، ومؤرخها الرسمي.
الاختلاف معهم
هذا تغير آخر كبير بين دراسة التراث الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ودراسته في وقتنا الحالي. كان كوكريل ومعاصروه يميلون إلى رؤية النصوص القديمة التي قرءوها بوصفها مصادر يستحيل تقريبا الاعتراض عليها للمعلومات بشأن اليونان وروما. أما نحن، على وجه النقيض، فمستعدون للقبول بأننا في بعض الحالات نملك معرفة أفضل من معرفة الكتاب القدماء بشأن الآثار والأحداث والتاريخ التي وصفوها. إننا على استعداد لتحدي باوسانياس في وصفه لباساي، أو ثوسيديديس في آرائه عن مسببات الحرب البيلوبونيزية الكارثية، أو ليفيوس فيما أورده من تاريخ مبكر لمدينة روما. والأكثر من ذلك، أنه من المبادئ المهمة في دراسة التراث الكلاسيكي اليوم أن الأساليب الحديثة للتحليل يمكنها أن تكشف عن العالم القديم ما هو أكثر مما كان القدماء أنفسهم يعرفونه (تماما مثلما نتقبل أنه في يوم من الأيام سيكشف المؤرخون عن مجتمعنا أكثر مما نعرفه بالفعل). فمن مبررات الدراسة المتواصلة للتراث الكلاسيكي أننا نستطيع تحسين معرفتنا باليونان وروما اللتين ورثناهما.
ومن قبيل المفارقة أن هذا يمنح أهمية أكبر، لا أقل، لقراءتنا للنصوص القديمة. فما يجعل ثقافة الحضارتين الكلاسيكيتين (اليونان وروما) في نظرنا أكثر جاذبية وتحديا من أي حضارة قديمة أخرى ليس فقط الجاذبية المستمرة لدراما هاتين الحضارتين أو جمال أعمالهما الفنية، وإنما الأمر متعلق بالأساس بحقيقة أن الكتاب الإغريق والرومان ناقشوا ثقافتهم وتجادلوا بشأنها وعرفوها، وأننا لا نزال نستطيع قراءة النصوص التي فعلوا فيها هذا. وهكذا، على سبيل المثال، فسر هيرودوت، المكنى «أبا التاريخ»، للمدن اليونانية في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد أن انتصارهم الجماعي على غزو ملك الفرس ينبغي عزوه إلى التنوع الذي أسهمت به كل مدينة من تلك المدن؛ إلى اختلافاتها (في السياسة والثقافة) بقدر ما يعزى إلى تشابهها، وأنها وجدت قضيتها المشتركة في رفضها أن تتخلى عن استقلالها لغاز غير يوناني من الشرق. وفي القرن الثاني قبل الميلاد، شرع المؤرخ اليوناني بوليبيوس، الذي أخذ أسير حرب إلى روما، في تفسير الكيفية والأسباب التي وقفت خلف هيمنة روما على منطقة البحر المتوسط بأكملها. بيد أن التأملات الذاتية من هذا النوع تجري خفية بين سطور الكثير من الكتابات اليونانية والرومانية. فمثلا، عندما يتحول الكتاب الرومان إلى وصف ثقافات الأمم التي غزتها روما، فإننا نجدهم منخرطين مرارا وتكرارا في عملية تعريف (ضمنية على الأقل) لطبيعة ثقافتهم هم. فحين حاول يوليوس قيصر أن يصف مدى اختلاف أهل بلاد الغال عن الرومان، كان توصيفه بمنزلة تأمل ضمني في شخصية روما نفسها.
حين نقرأ النصوص القديمة نحن ننخرط لا محالة في «نقاش» مع الكتاب القدماء الذين كانوا هم أنفسهم يتناقشون حول ثقافتهم. من الملائم بالطبع أن «نعجب» ببعض الأدب القديم، ولا محالة أيضا من أن نستخدم النصوص القديمة من أجل استعادة «معلومات» بشأن العالم القديم. وبغض النظر عما قد نرى في هذه الكتابات من انعدام للمصداقية، فلا يمكننا أن نأمل في أن نعرف الكثير عن العالم القديم من دون هذه الكتابات. لكن دراسة التراث الكلاسيكي تتجاوز هذا بكثير؛ فهي انخراط في ثقافة كانت بالفعل منخرطة في عملية من التدبر والنقاش والدراسة سواء لنفسها أو لمسألة ما يجب أن تكون عليه الثقافة. إن خبرتنا بباساي مطمرة داخل تقليد من الملاحظة والتفكير بشأن ذلك الموقع، وهو تقليد يمتد زمنيا بما يتجاوز بكثير «اكتشاف» القرن التاسع عشر وصولا إلى العالم القديم ذاته.
جزء من «النقاش» الوارد في كتابات باوسانياس يتعلق بطبيعة الثقافة الإغريقية في الإمبراطورية الرومانية، وكذلك أيضا بالعلاقة بين اليونان وروما. ناقشنا بالفعل في الفصل الثاني كيف أدرك الكتاب الرومان دينهم الذي يدينون به لليونان، وكيف عرفت الثقافة الرومانية نفسها (وجرى تعريفها كثيرا في العالم الحديث) بوصفها ثقافة طفيلية اقتاتت على أصولها اليونانية. ومن المفترض أن يكون جليا الآن أن العلاقة أكثر تعقيدا بقليل مما تبدو عليه من الوهلة الأولى. بعبارة أخرى، قد تكون الثقافة الرومانية تابعة للثقافة اليونانية، لكن في الوقت نفسه، السواد الأعظم من معرفتنا باليونان جرى توصيله عن طريق روما والتمثيلات الرومانية للثقافة اليونانية. فاليونان تأتينا دوما عبر عيون رومانية.
تتخذ الرؤى الرومانية لليونان أشكالا عدة؛ ففي تاريخ المنحوتات اليونانية، على سبيل المثال، عدد كبير من أشهر الأعمال - تلك الأعمال التي ناقشها الكتاب القدماء أنفسهم وامتدحوها - حفظت فقط من خلال نسخ طبق الأصل أو معدلة صنعها نحاتون رومانيون. لم يحتف كاتب قديم بالمنحوتات الموجودة على إفريز معبد باساي، أو تلك الموجودة على إفريز البارثينون نفسه. لقد كانت التماثيل المنفردة، وليس الزخارف المنحوتة بالمعابد، التي عدت أعمالا يحتفى بها: تمثال «رامي القرص» للنحات ميرون الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أو تمثال «الأمازونية الجريحة» لمعاصره فيدياس، أو تمثال «أفروديت» العاري الذي صنعه النحات براكسيتيليز في القرن الرابع قبل الميلاد من أجل مدينة كنيدوس. والسبب الوحيد الذي جعلنا على معرفة بهذه الأعمال هو أن الرومان رأوها وأعادوا إنتاجها لنا.
يقدم باوسانياس نسخة من اليونان تخفي على نحو منهجي، كما رأينا، آثار الهيمنة الرومانية. لكن ما يجب علينا ألا نغفل عنه هو حقيقة أن باوسانياس كان في الوقت عينه أحد مواطني الإمبراطورية الرومانية. وحتى في محاولته طمس أثر روما فإنه يقدم لنا صورة «رومانية» لليونان، وكذلك، على نحو محتوم، صورة للإمبراطورية الرومانية. فهذا المعبد المنعزل على جانب أحد الجبال في ركن قصي من اليونان هو جزء من رؤية أكبر للكيفية التي بدا بها العالم في نظره، بوصفه أحد مواطني الإمبراطورية.
وفي رؤيتنا لباساي أيضا، يمتزج احترامنا للتاريخ الفردي لهذا المعبد تحديدا (المتفرد ومنعدم النظير) بإحساس بموضعه في التاريخ الأشمل لليونان وروما، وموضعه في خبرتنا الأوسع بالثقافة القديمة؛ فكل جزء صغير من التراث الكلاسيكي يكتب دائما داخل قصة أكبر منه بكثير.
الفصل الخامس
تحت السطح
ماذا عن العمال؟
يدفعنا وصف باوسانياس لمعبد باساي إلى التساؤل عما نريد أن «نعرفه» بشأن العالم الكلاسيكي. في أعين العديد من الأثريين المعاصرين، كان باوسانياس يتخبط دون هدى في رحلته في أرجاء اليونان. وهو ليس مسئولا فقط عن كم كبير من المعلومات المضللة عن المواقع التي اختار زيارتها، بل كان كذلك يتسم بالقصور الشديد فيما كان على استعداد لأن يراه. لقد كانت رؤيته للعالم اليوناني تتكون بالأساس من المدن العظمى، علاوة على القليل من المواقع الدينية الريفية (كهذا الموجود في باساي) المقحمة عرضا. ماذا عن اليونان خارج المراكز الحضرية؟ ماذا عن الريف، الذي عاش فيه أغلب سكان العالم القديم؟ ماذا عن الأسواق الريفية، والمزارع التي كانت تنتج الغذاء الداعم للحياة في المدن؟ وماذا عن المزارعين الذين كانوا يعملون بها؟ لا يحدثنا باوسانياس بشيء تقريبا عن هذه الأمور.
أيضا ليس لدى باوسانياس الكثير ليحكيه عن ذلك التاريخ «الآخر» للمواقع التي يدرجها؛ تاريخ الناس الذين بنوها، والأموال التي دفعت لهم، والرجال والنساء الذين استخدموا هذه المواقع واعتنوا بها. ربما كان من صميم مشروعه أن يغفل تفاصيل من هذا النوع. فعلى أي حال، هل هناك دليل إرشادي حديث يكرس الكثير من الوقت للحديث عن حال المحاجر والعمال الذين بنوا المباني التي يصفها الدليل في إعجاب؟ ومع ذلك، بالنسبة لنا، لا محالة أن تثير لحظة تفكير عابرة في هذا المعبد المنعزل بين التلال أسئلة بشأن الكيفية التي بني بها والغرض من وراء بنائه. من الذي تجشم عناء بنائه في هذا المكان القصي المنعزل؟ وكيف بني؟ وما الغرض من وراء بنائه؟
أغلب مستكشفي العصر الحديث، بداية من كوكريل وأصدقائه فصاعدا، تساءلوا عن الأساليب التي وظفها الحرفيون القدماء في إقامة صفوف الأعمدة غير المدعومة بأساس على هذا النحو الأنيق المستقيم، ومحافظتهم على اصطفاف الجدران على نحو متواز. كيف بحق السماء تم عمل هذا باستخدام الأدوات والمعدات المحدودة التي كانت متاحة في القرن الخامس قبل الميلاد؟ في وصف كوكريل نفسه للمعبد، قدم كوكريل رسوما معقدة تفسر البناء الدقيق لأعمدته وسقفه، علاوة على قسم طويل ختامي يغطي المنظومة المعقدة للنسب الرياضية التي لا بد أن جرى استخدامها في عمليتي التخطيط والبناء.
أيضا تتضمن التوصيفات التي أوردها العضوان الألمانيان في الفريق ذاته تفاصيل عن آثار غير منظمة لحروف وجدوها محفورة على بعض أحجار البناء، ويعتقد أن الغرض منها تذكير العمال بالمواضع المحددة التي ينبغي وضع هذه الأحجار فيها (انظر الشكل
5-1 ). ومؤخرا، درس علماء آثار هذه العلامات مجددا، ناظرين بحرص إلى الشكل الدقيق للأحرف. لم تكن طريقة كتابة أحرف اللغة اليونانية القديمة موحدة بالقدر نفسه الذي عليه الحال اليوم، وكانت تتنوع بشكل ملحوظ بتغير المنطقة الجغرافية. لم تكن الحروف المحفورة على هذه الأحجار مشابهة لتلك المستخدمة في الطبيعي في المنطقة المحيطة بباساي، وكانت مشتركة في الكثير مع الحروف المستخدمة بواسطة الأثينيين. هذه إشارة واضحة إلى أن الحرفيين المهرة الذين اشتركوا في بناء هذا المشروع لم يأتوا من منطقة أركاديا وحدها، التي كان ينظر إليها بوصفها منطقة متخلفة حتى في القرن الخامس قبل الميلاد، وإنما جاءوا من أثينا (هل كان إكتينوس المعماري معهم؟) ونحن نحصل على لمحة عن تاريخ عملية البناء وعن الأشخاص المشتركين بها عبر هذه التفاصيل الدقيقة.
شكل 5-1: حروف يونانية خلفها بناءو معبد باساي.
يستحيل أن يكون مستكشفو القرن التاسع عشر غير واعين بالجوانب الأخرى للعمل المطلوب لبناء المعبد. وحين رتبوا رحلة النقل البطيئة التي تمت على ظهور البغال لألواح الإفريز الثلاثة والعشرين من الجبال إلى البحر، لا بد أنهم بدءوا في التساؤل عن صعوبة جلب كل هذه المواد، وأكثر منها بكثير، إلى الموقع أعلى الجبل في المقام الأول. ورغم أن الحجر الجيري المحلي الرخيص، الذي تشكلت منه الجدران الأساسية، كان يجري استخراجه من منطقة قريبة، فإنه كان لا يزال بحاجة إلى رجال ودواب وعملية تنظيم من أجل جلبه إلى الموقع. أما الرخام الأغلى ثمنا والمستخدم في الإفريز وغيره من المنحوتات، فقد جاء من مناطق أبعد، بما يتضمنه ذلك من تكلفة وعمالة إضافيين.
في الواقع، لم يركز كوكريل أو أي من أعضاء فريقه تركيزا كبيرا على مشكلات التوريد والنقل، رغم أنهم هم أنفسهم لا بد وأنهم كانوا واعين لها بشكل كبير. على النقيض من ذلك، يرى المؤرخون والأثريون المعاصرون أن هذه القضايا لها أهمية مطلقة، ليست فقط بالنسبة لقصة باساي، وإنما بالنسبة لكل التاريخ والثقافة الكلاسيكيين. فنقل أي شيء من مكان لآخر في اليونان وروما القديمة كان عملية مكلفة بما يدفع المرء لإعادة النظر في الأمر برمته، وكان النقل البري مكلفا لدرجة تمنع من القيام به. وقد قدر، على سبيل المثال، أن تكلفة النقل البري لحمولة من الحبوب لمسافة 75 ميلا تعادل تكلفة النقل البحري لها لمسافة تمتد بطول البحر المتوسط بأكمله. كيف جرى الترتيب لنقل مواد البناء الثقيلة الضخمة هذه؟ ومن دفع التكاليف؟ وبالمثل، كيف جرى الحصول على المواد؟ وكيف جرى تعدينها أو استخراجها من المحاجر، في وقت لم يكن فيه للماكينات وجود؟
الرق
هذه الأسئلة كلها توجهنا نحو تدبر مسألة الرق؛ فرغم أن هناك آراء مختلفة بشأن مصادر الثروة التي قامت عليها الحضارة الكلاسيكية، فإن جزءا من الجواب لكل سؤال عن المعدات والعمالة في الماضي يكمن في وجود عدد كبير للغاية من العمال. كانت المجتمعات اليونانية والرومانية تشتهر على نحو مخز بالرق، وربما لم تضاهها مجتمعات أخرى في هذه الشهرة المخزية. إن حياة الامتيازات التي عاشها مواطن العالم القديم اعتمدت على عضلات تلك الممتلكات البشرية، دون أن يكون للعبيد أي حقوق مدنية؛ إذ لم يعدوا كونهم مجرد مصدر للعمالة: «آلة ذات صوت بشري» (على حد وصف الكاتب الموسوعي المعارف فارو في القرن الأول قبل الميلاد). لا شك أن أعداد العبيد تباينت على مر الزمان، ومن مدينة إلى أخرى. ووفق أفضل التقديرات، في القرن الخامس قبل الميلاد شكل عبيد أثينا نحو 40 بالمائة (نحو 100 ألف) من عدد السكان الإجمالي، وفي القرن الأول قبل الميلاد وصلت أعداد العبيد في روما إلى زهاء 3 ملايين. ولا يوجد تفسير لأي شيء جرى في العالم الكلاسيكي - من التعدين حتى الفلسفة، ومن البناء إلى الشعر - لا يأخذ في اعتباره وجود العبيد.
كان الرق موجودا في كل مكان وبكل وضوح في كل من بلاد اليونان وروما، لكن كان في الوقت عينه يصعب رؤيته؛ سواء من جانبنا أو من جانب سكان العالم القديم الذين لم يكونوا هم أنفسهم عبيدا. بعض آثار الرق واضحة للغاية: كأطواق العبيد التي جرى التنقيب عنها في شتى أنحاء العالم القديم، وتحمل رسائل مشابهة لتلك الموجودة في أطواق الكلاب في عصرنا الحديث: «في حالة العثور عليه، يرجى إعادته إلى ...» (انظر الشكل
5-2 )، والسلاسل والأغلال التي اكتشفت في المزارع الإيطالية في عصر الدولة الرومانية، والأشكال الصغيرة المنحوتة على القدور اليونانية لأشخاص ذوي رءوس حليقة، منشغلين بتقديم النبيذ لسادتهم من المواطنين المرفهين. كما أن المسألة تتبدى جلية من خلال الافتراضات التي تملأ الأدب اليوناني والروماني. فالكتاب الرومان، على سبيل المثال، يشيرون عادة على نحو عابر إلى القاعدة القانونية التي تمنع العبيد من تقديم الشهادة في المحاكم، ما لم يكن هذا قد حدث تحت التعذيب. فالأمر لا يقتصر على أنه يمكن السماح بتعذيبهم، وإنما لا تكون الشهادة التي يدلون بها قانونية إلا إذا كانوا واقعين تحت تعذيب. وعلى حد علمنا، لم يجد أي روماني شيئا مستغربا في هذا الأمر على الإطلاق.
شكل 5-2: طوق لعبد روماني وجد حول رقبة هيكل عظمي، ويحمل رسالة تقول: «إذا ألقي القبض علي فأعيدوني إلى أبرونيانوس، الوزير في البلاط الإمبراطوري، في جولدن نابكين على تل الأفنتين؛ لأنني عبد هارب.» (في الصورة يمكننا أن نرى العنوان فقط ...
AD MAPPA AUREA IN ABENTIN ...)
لكن قد يكون تحديد مسألة الرق أمرا أكثر صعوبة مما قد توحي به هذه الأمثلة؛ فآثار العبيد لا يسهل دوما التعرف عليها. وإذا فكرنا في العلامات التي تركها البناءون على أحجار البناء في معبد باساي، فكيف يمكننا فعليا أن نعرف أي يد نقشتها؟ كان من الممكن بالتأكيد أن تكون يد أحد العبيد، أو يد المشرف على زمرة من العبيد أحضروا إلى الموقع (من أين؟) من أجل عملية البناء العظيمة. لكن كان من الممكن بالمثل أن تكون يد أحد الحرفيين الأحرار، الذي هو جزء من قوة عاملة ماهرة من المواطنين، يستخدم العبيد للقيام بالأعمال الشاقة. ببساطة لا يوجد سبيل يمكننا من معرفة حالة الأشخاص الذين كانوا في موقع العمل هناك.
لا ينتمي العبيد لصنف واحد ثابت؛ فالعبيد من مختلف الأنواع يأتون من مصادر عدة متباينة: فمنهم أسرى الحرب، والمزارعون الواقعون في الدين، وأبناء الإماء الذين تربوا في منازل أسيادهم، والمعلمون المثقفون، والعمال الأميون، وغيرهم الكثير. وليس من الضروري أن يكون العبد عبدا طوال حياته؛ فهناك سبل قد تؤدي بالمرء إلى الخروج من حالة العبودية، أو الدخول فيها. وفي روما تحديدا منح ملايين العبيد حريتهم بعد قضاء فترة معينة من الخدمة كعبيد. وملايين المواطنين الرومان كانوا الأحفاد المباشرين لعبيد؛ فالشاعر الروماني هوراس، على سبيل المثال، الذي رأيناه بالفعل يتدبر الدين الذي تدين به روما لليونان يخبرنا من واقع خبرته ما يكون عليه الحال أن يكون المرء ابنا لعبد أعتق من ربقة الرق.
عثر على قطعة صغيرة من البرونز في موقع مقدس آخر في باساي، وهذه القطعة تصور بوضوح مشكلة عدم القدرة على رؤية مسألة الرق التي تحدثنا عنها. منقوش على قطعة المعدن هذه سجل لإعتاق ثلاثة عبيد من طرف سيدهم، كلينيس، الذي فرض غرامة (تدفع إلى الإله «أبوللو في باساي» وإلهين آخرين محليين) على أي شخص «يمسهم»؛ بمعنى أي شخص لا يحترم وضعهم الجديد. من ناحية، إنه لأمر مذهل أن نجد هنا، في ذلك الموقع الجبلي النائي، دليلا مباشرا على وجود الرق، والإله أبوللو في معبده الوحيد هذا مرتبط ارتباطا مباشرا بمنظومة الرق، لكن من ناحية أخرى، تلفت هذه الوثيقة أنظار العامة إلى هؤلاء العبيد، وتجذب انتباهنا إليهم، فقط عندما انتهت حالة عبوديتهم. أما حياتهم «كعبيد» فمستترة تماما عنا. ولم نعرف بشأنهم إلا في اللحظة التي دخلوا فيها دنيا الحرية.
طالما ظلت الكيفية التي ينبغي بها الحكم على منظومة الرق إحدى القضايا المحورية في دراسة التراث الكلاسيكي. ما الفارق الذي يحدثه الأمر بالنسبة لفهمنا للعالم الكلاسيكي؟ وكيف يؤثر على إعجابنا (مثلا) بالديمقراطية الأثينية أن ندرك أنها ديمقراطية قائمة على «امتلاك العبيد»، وأن نرى أنه ما كانت لتصير ديمقراطية من الأساس لولا وجود ذلك العدد الكبير من العبيد؟ إلى أي مدى علينا أن نأسى لهذا الوضع، أو لأي من أشكال القسوة الأخرى التي مورست في العالم الكلاسيكي القديم؟ هل كان حال العبد الأثيني أسوأ من حال المرأة الأثينية أم العكس؟ هل من الإنصاف أن نحكم على الإغريق والرومان وفق معاييرنا الأخلاقية المعاصرة؟ أم هل من المستحيل ألا نفعل ذلك؟
نوعية الحياة
إن دراسة التراث الكلاسيكي معنية بكشف التعقيد الذي يكتنف مثل هذه الأحكام، علاوة على التفاصيل المعقدة للحياة القديمة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كان العبيد جزءا منها. إنها لخطوة أولى وحسب أن نكون قادرين على أن نقول (بغض النظر عمن نقش بالفعل علامات البنائين) إن عملية بناء معبد باساي لا بد وأنها اشتملت - على أقل تقدير - على عدد كبير من العبيد، في استخراج الأحجار من المحاجر ونقلها بالعربات والدواب وحملها. وإنها لخطوة أولى وحسب أن نعرف هذا الأثر الشهير للحضارة الكلاسيكية بوصفه نتاجا للرق. فنحن أيضا نحتاج إلى أن نفكر بشكل أوسع في كل الظروف العديدة التي جعلت من بناء معبد باساي أمرا ممكنا، أن نفكر في نوعية الثروة التي وقفت خلف تمويله، وطبيعة المجتمع ككل (بدءا من العبيد ثم المزارعين ووصولا إلى الطبقة الأرستقراطية) الذي دعم عملية البناء وأحاط بها.
إجابة مثل هذه الأسئلة تأتي في طليعة أهداف دراسة الآثار الكلاسيكية في وقتنا المعاصر. إن أغلب الأثريين لم يعودوا يهتمون بالتنقيب عن الآثار الكلاسيكية الشهيرة واكتشافها، وبكنوز الفن القديم التي قد يعثرون عليها، فهم لم يعودوا يبحثون عن مباني إكتينوس أو منحوتات فيدياس، بل تحول اهتمامهم بدلا من ذلك إلى «أساس» الثقافة الكلاسيكية؛ إلى حياة المزارعين في الريف، وإلى الأنماط العامة للاستيطان البشري في الطبيعة (القرى الصغيرة والمزارع المنعزلة والأسواق الريفية)، وإلى المحاصيل التي زرعها هؤلاء المزارعون، وإلى الحيوانات التي ربوها، وإلى الطعام الذي كانوا يتناولونه.
هذا التغير في التركيز أدى إلى تغير في نوعية المواقع التي يجري التنقيب بها وإلى تغير في المكتشفات التي يجري حفظها وتحليلها. فمن المرجح بشكل أكبر أن يستكشف الأثريون اليوم المزارع عن أن يستكشفوا المعابد. والمواد التي كان يجري التخلص منها أثناء عملية الحفر صارت اليوم موضوعات ثمينة للدراسة. ويستطيع التحليل الميكروسكوبي لما مر عبر أحشاء البشر والحيوانات، وصولا إلى حفر المخلفات، أن يقدم كل أنواع المعلومات عن النظام الغذائي للسكان ونطاق المحاصيل التي كانوا يزرعونها. أيضا تستطيع شظايا العظام أن تخبرنا ليست فقط بنوعية الحيوانات التي كان يجري تربيتها، وإنما أيضا بالعمر الذي كان يتم فيه ذبح الحيوانات. كل هذا يساعدنا على تكوين صورة أكبر عن الزراعة المحلية، وأن نخرج باستنتاجات ليست فقط بشأن نوعية الطعام الذي كان يستهلك، وإنما أيضا بشأن ما تم بالتأكيد استيراده من الخارج، وأن نقيس المدى الذي ربما تكون التجارة وأرباحها قد مثلت به عنصرا مهما في اقتصاد المنطقة.
تعد مدينة بومبي الرومانية مثالا بارزا على تغير أولويات التنقيب في الموقع الواحد. فمنذ مائة عام ركز الأثريون على الكشف عن المنازل الغنية للمدينة، آملين تحديدا اكتشاف اللوحات والمنحوتات التي كانت تزينها يوما ما. لكن مؤخرا حول الأثريون انتباههم إلى الساحات المفتوحة للمدينة أيضا؛ إلى الحدائق وأسواق الحدائق وبساتينها. وعن طريق صب الجص في الفجوات الموجودة في الحمم البركانية، والتي سببتها جذور الأشجار والنباتات، تمكن الأثريون من التعرف على الأنواع التي كانت تزرع. وهذا يمنحنا، للمرة الأولى، فكرة واضحة عن مظهر الحديقة الرومانية، وعن أنواع الفاكهة والخضراوات المزروعة في الأفنية الرومانية العادية.
إن بعض الأسئلة التي يطرحها الأثريون اليوم أدت بهم إلى التخلي عن عمليات الحفر بصورة تامة؛ فالأسئلة العامة بشأن الكيفية التي كانت تستخدم بها بقاع كاملة من الأرض في العالم القديم، أو بشأن نمط الاستيطان في منطقة ما، لا تجاب من خلال عمليات التنقيب، وإنما من خلال المسح المنهجي للريف المعاصر. تبحث عمليات المسح هذه عن آثار للمهن القديمة لا تزال واضحة فوق الأرض، سواء على صورة آنية فخارية أو عملات قديمة موجودة على السطح، أو أطلال باقية مثل باساي. تتضمن عمليات المسح الميدانية في المعتاد فرقا من الأثريين يمسحون مساحة محددة، في خطوط لا يفصل بينها إلا أمتار قليلة، ويسجلون على الخريطة كل شيء يجدونه. حققت هذه الطريقة نجاحا عظيما في الكشف عن كثافة الاستيطان القديم في مختلف المواقع والمناطق، وكذلك في توثيق التغير في استخدام الأرض، علاوة على اكتشاف مئات من المواقع الريفية المجهولة، المئات حرفيا. لقد كشفت عمليات المسح هذه عن الكثير، لدرجة أن بعضا من أبرز الأثريين يرون الآن أنه، إجمالا، من الأفضل التخلي عن جاروف التنقيب تماما والاكتفاء بعمليات المسح (انظر الشكل
5-3 ).
تستطيع عمليات المسح الميدانية أن تجيب عن أسئلة بشأن الآثار الكلاسيكية الشهيرة، علاوة على الكشف عن جوانب خفية للحياة في الريف الكلاسيكي. وفي حالة باساي، اقترحت عملية مسح أجريت للمنطقة المحيطة إجابة للسؤال المحير المتعلق بالغرض الذي بني من أجله هذا المعبد، رغم ابتعاده أميالا عدة عن أقرب مدينة.
أظهرت هذه الدراسة أن ذلك المكان المقدس المنعزل في باساي ليس الوحيد في ذلك الجزء من أركاديا؛ حيث يوجد عدد من المواقع المقدسة الموجودة فيما يبدو بعيدا عن العمران، على حدود المنطقة الواقعة تحت حكم المدينة المحلية. في هذه المنطقة كان أغلب السكان يعيشون مشتتين في أرجاء الريف، معتمدين في عيشهم على تربية الماعز والأغنام، وعلى الصيد. والاقتراح الذي قدمته عملية المسح يتكون من شقين؛ أولا: أن هذه النوعية من المواقع كانت ملائمة تماما لبناء مكان مقدس يخدم مجتمعا ريفيا بالأساس، وثانيا: أن موضع المعبد على حدود أقرب مدينة مجاورة، فيجاليا، كان له أهمية كبيرة في الطقوس التي وحدت المركز الحضري السياسي والإداري مع الإقليم النائي وسكانه المتناثرين. ويبدو من المرجح أن المواكب الطقسية، التي تضمنت أعضاء بارزين للمجتمع المحلي، انطلقت من فيجاليا صوب المكان المقدس البعيد في باساي، في تجسيد وتعزيز وتقوية لوحدة المدينة مع إقليمها، وذلك عن طريق السير فوق الأرض.
شكل 5-3: صارت خريطة التوزيع أداة لا غنى عنها في علم الآثار وعمليات المسح الميدانية. يظهر هذا المثال نمط المواقع الحضرية عبر الإمبراطورية الرومانية.
رغم أننا نبدو وكأننا ابتعدنا كثيرا عن اهتمامات باوسانياس، فإن هذا الاقتراح بشأن وظيفة معبد باساي يدين بالكثير إليه. فمن خلال وصف باوسانياس لفيجاليا نعرف بوجود هذه المواكب الطقسية، التي تنطلق من الريف إلى معبد محدد في المدينة. لا يذكر باوسانياس باساي تحديدا بوصفها وجهة لهذه المواكب، لكن يبدو في حكم المؤكد تقريبا أن هذه المواكب قصدت باساي. أيضا لا يصف باوسانياس مواكب فيجاليا بأي قدر من التفصيل، لكن في وصفه لمدينة أخرى جنوبي اليونان كتب عن طقوس لا بد أنها كانت مشابهة للغاية؛ يتقدمها الكهنة والمشرعون المحليون، يتبعهم الرجال والنساء والأطفال يقودون بقرة إلى معبد الجبل الذي يقصدونه من أجل تقديمها كقربان.
في جوانب أخرى، أيضا، لا يزال دليل باوسانياس الإرشادي يمثل أساسا للعديد من المشروعات الأثرية الحديثة وعمليات المسح الميدانية. فمن الموضوعات الواردة في توصيفه لليونان الرثاء للمدن اليونانية التي زارها وكانت مجيدة فيما مضى، لكنها وقت كتابته عنها تستحق بالكاد لقب «مدن»؛ إذ تهدمت أجزاء منها ولا يسكنها سوى عدد قليل من السكان الباقين الذين يسكنون مبانيها المتداعية. كانت صورة الاضمحلال هذه، صورة سقوط اليونان من علياء رخائها السابق، تعد جانبا آخر من بناء باوسانياس لليونان المثالية، في وقت ذروة مجدها في العصر القديم، قبل وقت كتابته عنها بمئات السنين. بيد أن هذه الصورة قدمت حافزا قويا للأثريين في العصر الحديث.
من الواضح أن عمليات المسح الحديثة حاولت تقصي مزاعم باوسانياس الخاصة بالنقص السكاني، وأن ترى الكيفية التي تغيرت بها أنماط الاستيطان في اليونان وهي تحت الحكم الروماني. ترسم عمليات المسح صورة تؤكد جزئيا ما ذهب إليه باوسانياس في وصفه، لكنها في الوقت ذاته تقترح سبيلا جديدا للنظر إلى المشكلة بأسرها. ونحن نؤمن الآن أن الأمر لم يكن وحسب مسألة نقص سكاني واضمحلال؛ إذ يبدو أن أحد تأثيرات الحكم الروماني هو تركيز السكان في مراكز حضرية أكبر؛ وهو ما أدى إلى هجر بعض المواقع التي رصدها باوسانياس.
تقدم دراسة التراث الكلاسيكي مجموعة متنوعة من الطرق، منها ما هو قديم وما هو حديث، لفهم الماضي الكلاسيكي. ويعتمد الأثريون المعاصرون - على نحو دوري - على أحدث أساليب التحليل العلمي، وعلى أحدث النظريات الخاصة بالتغير الاقتصادي والاجتماعي. لكن «المزج» بين هذه المهارات الجديدة والأدلة المعروفة منذ وقت طويل، والتي أوردها كتاب قدماء على غرار باوسانياس، هو دائما ما يحقق أبلغ الأثر. وطرق الدراسة الحديثة لا تنتج لنا فقط معلومات جديدة، وإنما تدفعنا إلى رؤية معنى جديد في المعلومات التي سجلها كتاب مثل باوسانياس، الذي ربما كانت أعماله معروفة، لكنها كانت عرضة للتجاهل أو إساءة الفهم لقرون. وبذا قد تتضمن دراسة التراث الكلاسيكي الجلوس في مكتبة لقراءة دليل باوسانياس الإرشادي أو البحث بين بقايا موقع أثري قديم. أو بالأحرى، في دراسة التراث الكلاسيكي ينظر إلى هذه الأنشطة بوصفها أجزاء متكاملة للمشروع ذاته.
الفصل السادس
نظريات عظمى
باحثون ومحتالون
كما سبق ورأينا، ظل وصف باوسانياس باقيا حتى نقرأه من خلال جهود أجيال متعاقبة من الكتاب والنساخ الذين عملوا في سلسلة متصلة على امتداد ألفي عام. ومنذ عصر النهضة، استمر الباحثون في عملية تنقيح النصوص الكلاسيكية ونشرها. ومن غير المرجح في ظل ما يوجد اليوم من كتب حديثة ومكتبات أن يضيع مجددا أي من النصوص اليونانية والرومانية التي نملكها اليوم. لكن حتى مع ذلك تتواصل الجهود الدولية العاملة من أجل إتاحة أكثر نصوص الأدب الكلاسيكي «مصداقية»؛ ونعني بهذا النصوص القريبة بأقصى درجات القرب مما كتب بالفعل منذ ألفي عام.
يسافر باحثو التراث الكلاسيكي في كل أنحاء أوروبا من أجل تتبع المخطوطات ومقارنتها. وهم يدققون الطبعات القديمة وينتجون طبعات جديدة خاصة بهم. وقد يجعلهم هذا ينخرطون في عملية حساسة تتعلق بتحديد الأخطاء التي ارتكبها النساخ المهملون، التي أعيد إنتاجها في طبعات لاحقة، وكذلك اقتراح الكيفية التي يمكن بها تصويب هذه الأخطاء كي يصير لدينا نسخة أدق من النص. وفي بعض الأحيان، حتى عن طريق تغيير حرف واحد أو حرفين، سيقدم المحرر الحديث للقارئ الذي يتدبر العمل فكرة مختلفة للغاية بشأن بعض الجوانب الأساسية أو التفاصيل الحاسمة، للعالم الكلاسيكي.
على سبيل المثال، تعد معرفة مدى الدقة التي تفهم بها الرومان جغرافيا إقليم بريطانيا من الموضوعات المهمة، ليست فقط من أجل تقييمنا لعلوم وأساليب رسم الخرائط القديمة، وإنما أيضا لها أهميتها في مناقشات الإمبريالية الرومانية. بعبارة أخرى، ما المقدار الذي نتصور أن الرومان قد «عرفوه» حقا بشأن المناطق التي غزوها؟ تعتمد إجابة هذا السؤال جزئيا على ما إذا كنت تعتقد أن المؤرخ الروماني تاسيتوس قد شبه شكل الجزيرة ب «الماسة»،
scutla
باللاتينية (كما ورد في المخطوطات والطبعات القديمة)، أم شبهها ب «لوح الكتف»، أو
scapula
باللاتينية (كما رأى أحد محرري النص في عام 1967 أن هذه ستكون كلمة أفضل).
يمكنك أن ترى السبب وراء تمتع عملية إنتاج طبعات من أعمال المؤلفين الإغريق والرومان عادة باعتبار كبير في أوساط الباحثين المحترفين. وللأمر مخاطره أيضا؛ إذ إن غالبية محاولات إنتاج نصوص «أفضل» مقدر لها أن تحظى فقط باستحسان وقتي، وسريعا ما يتم نسيانها. لكن رغم ذلك، لا مناص عن الإقدام على المخاطرة و«محاولة» الوصول، على أقل تقدير، إلى رؤية دقيقة بقدر الإمكان لما كتبه الكتاب القدماء. وفي الواقع، لا مفر في حالة الأعمال التي تكون نصوصها عرضة لجدل شديد (سواء بسبب صعوبة اللغة نفسها على وجه الخصوص أو عدم الوثوق في المخطوطة نفسها) من أن يجد كل باحث درس النص نفسه وقد تورط في نقاشات بشأن ما كتب بدقة في الأصل. هذا هو الحال فيما يخص بعضا من أشهر الأعمال الأدبية التي ظلت باقية من العالم القديم، على غرار تراجيديات الكاتب المسرحي الأثيني إسخيلوس، الذي من الحتمي أن تجتذب نصوصه مجموعة من التنقيحات المقترحة واعترافات بالحيرة والإحباط (انظر الشكل
6-1 ).
في حالات أخرى لا يوجد شك تقريبا في أن النصوص اليونانية واللاتينية التي نقرؤها تنقل لنا نفس ما كانت تعنيه حين جف عنها مداد كاتبها؛ ففي حالة شعر فرجيل وهوراس، مثلا - وهي أعمال كلاسيكية حفظت بحرص وكانت موضع تبجيل منذ وقت كتابتها وحتى وقتنا الحاضر - لا توجد دعاوى كثيرة لتحسين النصوص. لكن من الحتمي أن ينخرط محررو الأعمال الكلاسيكية في «شرح» لغة الأعمال التي يدرسونها ومحتواها. وهذا الشرح يأخذ دوما شكلا يطلق عليه اسم «التعليق»؛ وهي ملحوظات مفصلة على النص تحاول توقع الأسئلة التي من المرجح أن تدور في خلد القارئ وتجيب عنها.
شكل 6-1: يعد التعليق النقدي أداة لا غنى عنها في عملية تحرير النصوص الكلاسيكية. يبين هذا المثال قراءات متنوعة في مخطوطات باقية، ومحاولة المحررين لإعادة كتابة إحدى صفحات مسرحية تراجيدية لإسخيلوس. كل الشروح مكتوبة باللاتينية.
قد تستهدف التعليقات أنواعا مختلفة من القراء، لهم مستويات متباينة للغاية من الخبرات. الكثير من التعليقات تقدم مواد للناس كي «يتعلموا» اللغتين اليونانية واللاتينية، وتحرص على مساعدة من تعلموا الأساسيات بالفعل في التأقلم مع صعوبات اللغة، علاوة على شرح الخلفية الثقافية الكلاسيكية المطلوبة لفهم ما كتبه الكاتب القديم.
ليس هذا موقفا جديدا؛ فطالما كتب الباحثون الكلاسيكيون من أجل جمهور على معرفة إجمالا باليونانية أو اللاتينية. ودائما كان القراء العديمو المعرفة باليونانية واللاتينية يحتاجون - ويريدون ويطلبون - المساعدة من أجل معرفة ما يقوله الكتاب الكلاسيكيون، وما يعنونه، وما يعنيه قولهم هذا لنا. ولهذا على مر قرون لعبت ترجمة أعمال الكتاب الكلاسيكيين (التي أنتجها عادة الباحثون أنفسهم الذين حرروا النصوص وكتبوا التعليقات) دورا كبيرا في تعريف القارئ الحديث بالعالم القديم، وبالتراث الكلاسيكي.
ومع ذلك شعر بعض القراء المعاصرون باستغلاق الثقافة الكلاسيكية أمامهم؛ وذلك تحديدا بسبب افتقارهم للمعرفة باللغتين اللتين كانتا يتم التحدث والكتابة بهما في العالم الكلاسيكي القديم. لكن قنع آخرون باستخدام الترجمات، وأن يباشروا دورهم بوصفهم «دارسين للتراث الكلاسيكي» بلغاتهم هم. ذكرنا بالفعل في الفصل الثاني أن كيتس، وهو أحد أكثر الشعراء الإنجليز كلاسيكية (بكل ما تحمله الكلمة من معنى)، لم يكن يعرف اللغة اليونانية. أيضا شكسبير، وهو مثال آخر شهير، كان لا يفقه من اليونانية شيئا تقريبا («قليل من اللاتينية، وأقل من هذا من اليونانية»). لم يكن هذا يعني أنه تجاهل الكتاب الكلاسيكيين؛ فقد كان على معرفة كبيرة بأعمال المؤرخ اليوناني بلوتارخ، الذي كتب في القرن الثاني الميلادي سلسلة من «السير» لعظماء الإغريق والرومان. بل في الواقع، كانت «سيرة حياة يوليوس قيصر»، التي كتبها بلوتارخ، مصدرا مهما لمسرحية شكسبير المعنونة «يوليوس قيصر»، وهي المسرحية التي صك فيها القول الشهير: «الأمر [كله] صعب علي صعوبة اليونانية.» بيد أنه قرأ أعمال بلوتارخ بالإنجليزية وحسب، وذلك في الترجمة التي قام بها نورث.
نطاق واسع من التفكير
على مر القرون تغيرت النصوص الكلاسيكية والتعليقات عليها تغيرا كبيرا، شأنها شأن الجوانب الأخرى للتراث الكلاسيكي؛ ففي ظل الفهم المتباين للتراث الكلاسيكي، وفي ظل تحديد العالم الحديث لعلاقاته بالعالم الكلاسيكي على نحو متباين، فإن التعليقات المكتوبة (مثلا) في نهاية القرن العشرين عادة ما تكون معنية بتوجيه القراء نحو قضايا مختلفة للغاية عن تلك التي تخص التعليقات المكتوبة في القرن التاسع عشر. وأبرز ما في الأمر هو نطاق ما عد بوصفه من التراث الكلاسيكي، إلى جانب الكيفية التي جرى بها تعيين الحدود بين دراسة التراث الكلاسيكي وغيرها من فروع المعرفة وإعادة تعيينها. وعلى مر القرون تضمنت الأسئلة المثارة بشأن التراث الكلاسيكي والنصوص الكلاسيكية (ولا تزال تتضمن) أغلب القضايا الجوهرية في موضوعات نفكر فيها عادة بوصفها بعيدة كل البعد عن دراسة اليونان وروما القديمة، لكنها تنبع على نحو مباشر من دراسة العالم القديم وأدب العالم القديم.
على سبيل المثال، أثارت الفلسفة اليونانية، وخاصة أعمال أفلاطون وأرسطو، نقاشات ليست فقط في مجال الفلسفة من منظورنا الحالي، وإنما في مجالات السياسة والاقتصاد والبيولوجيا وغيرها؛ فقد تطورت نظريات كارل ماركس من التدريب الذي تلقاه في فلسفة وتاريخ اليونان وروما. وفي الواقع، كانت أطروحة رسالة الدكتوراه لماركس عبارة عن مقارنة بين منظمتي الفيلسوفين والعالمين اليونانيين ديموقريطس وإبيقور، وكلاهما من المناصرين الأوائل للنظرية الذرية للمادة. كما أن علم الأنثروبولوجيا الحديث يرتبط ارتباطا وثيقا بالأفكار التي أنتجتها سلسلة من الباحثين الكلاسيكيين من أواخر القرن التاسع عشر فصاعدا، خاصة فيما يخص نظرياته العظمى بشأن الثقافة العالمية. وهذه العلاقة بين دراسة التراث الكلاسيكي والأنثروبولوجيا تعود بنا، على نحو غير متوقع، إلى باوسانياس ودليله الإرشادي إلى اليونان.
البداية
الترجمة التي قدمناها في الفصل الرابع لوصف باوسانياس كانت ترجمة السير جيمس فريزر؛ الأب المؤسس لعلم الأنثروبولوجيا الحديث، وكذلك المترجم والمحرر والمعلق على كتاب «دليل إرشادي إلى اليونان»، الذي ظهرت طبعته البارزة المكونة من ستة مجلدات إلى النور عام 1898. كان فريزر قد قام بسلسلة من الزيارات إلى اليونان في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر بهدف البحث في كتابات باوسانياس، وقد أدرج في تعليقه عددا من الفقرات الغنائية تعبر في أسلوب فيكتوري راق عن الإعجاب بمشاهد طبيعية معينة والحياة النباتية والدرب، غامرا الطرق التي سلكها باوسانياس بأسلوبه العاطفي من الوصف التصويري. وقد كان يشكو قليلا من قلة اهتمام باوسانياس بالمشاهد الطبيعية للعالم قائلا: «إذا نظر [أي باوسانياس] إلى الجبال، لم يكن هذا كي يصف القمم الثلجية وهي تلمع تحت ضوء الشمس قبالة زرقة السماء، أو يصف غابات الصنوبر الداكنة التي تحف قممها، وإنما كي يخبرنا أن زيوس أو أبوللو أو إله الشمس كان يعبد على قممها ...» وفي سياق هذا المشروع زار فريزر باساي في عام 1890. وقد تفحص الموقع في حرص، ورسم رسومات وأخذ قياسات نقلها لاحقا إلى تعليقه على ذلك القسم من نص باوسانياس.
لم يكن الإقدام على عملية تحرير كبيرة لكتابات باوسانياس الخيار البدهي لباحث من أواخر القرن التاسع عشر. ربما كان الدليل الإرشادي أداة ضرورية للأثريين المبكرين، الذين كانوا ينقبون في المواقع القديمة باليونان. بيد أن هذا الدليل لم يحظ بالإعجاب قط بفضل جودته الأدبية، ولا كان يقرأ في المدارس أو الكليات بوصفه أحد النصوص الكلاسيكية الرئيسية. وهذا يرجع جزئيا إلى أنه عمل إغريقي كتب إبان عصر الإمبراطورية الرومانية؛ ومن ثم دائما ما كان يطغى عليه كل من الأعمال الإغريقية التي كتبت فيما يطلق عليه فترة الحضارة الأثينية «الكلاسيكية» (في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد) وكذلك الأعمال اللاتينية المكتوبة عن فترته هو «الكلاسيكية»، والممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى أوج الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني الميلادي. فقط في أزمنة أحدث بكثير جذبت الكتابات الإغريقية العديدة - بدءا من زمن باوسانياس مرورا بانهيار الإمبراطورية الرومانية وبزوغ الإمبراطورية البيزنطية المتحدثة باليونانية ومركزها القسطنطينية (إسطنبول) - انتباه الباحثين الكلاسيكيين، علاوة على المنغمسين في النصوص اللاتينية، الوثنية والمسيحية، من أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية.
هناك عوامل أخرى أيضا أسهمت في التجاهل النسبي لكتابات باوسانياس خارج دوائر الأثريين؛ فدليله الإرشادي مكتوب بأسلوب متواضع على صورة ملحوظات، بواسطة كاتب ليس له أي عمل آخر معروف، ولا يلقي عمله الضوء على نحو مباشر على النصوص الكلاسيكية الأكثر محورية. إضافة إلى ذلك، من الواضح أن المراكمة الحريصة للمعلومات التفصيلية من موقع لآخر في أنحاء اليونان لا تأسر انتباه القارئ من خلال تحليل قوي أو مثير للإعجاب على نطاق عريض.
لكن كان لدى فريزر نفسه أسباب خاصة للاهتمام بعمل باوسانياس. فما جذبه إلى دليل باوسانياس الإرشادي كان تحديدا التفصيل الدقيق الذي لم يصف به باوسانياس فقط المواقع الدينية، والطقوس العامة، وخرافات العالم الإغريقي، وإنما أيضا (بكلمات فريزر) «العادات الغريبة والشعائر والخرافات من جميع الأنواع.» وفي الوقت الذي بدأ فيه فريزر دراسته الجادة لكتابات باوسانياس، كان قد أكمل للتو طبعته الأولى من المشروع الكبير الذي اشتهر اسمه بفضله؛ كتاب «الغصن الذهبي». كان هذا عملا جمع «العادات الغريبة والخرافات» من كل أنحاء العالم وعلى مر التاريخ؛ ويزعم أنه يفسرها كلها، في واحدة من أولى نظريات الأنثروبولوجيا وأكبرها قاطبة. لقد كان مشروعا نما وترعرع على امتداد حياة فريزر، من الطبعة المتواضعة في مجلدين لعام 1890، إلى الطبعة الثالثة الكبيرة المكونة من اثني عشر مجلدا، والتي ظهرت للنور بين عامي 1910 و1915.
يبدأ كتاب «الغصن الذهبي»، في مختلف طبعاته، بمشكلة «كلاسيكية». واللغز الذي يشرع فريزر في شرحه هو تلك القاعدة الغريبة التي كانت تحكم كاهن الإلهة ديانا في معبدها في نيمي، بين تلال جنوبي روما. فوفقا للكتاب الرومان فإن هذا الكاهن، المعروف بلقب «الملك»، فاز بمنصبه الكهنوتي عن طريق قطع غصن من شجرة معينة في المعبد ثم قتل من كان يسبقه في شغل منصب الكاهن. كل كاهن للإلهة ديانا كان يعيش وقتها في خوف على حياته؛ إذ كان الراغبون في منصبه يخططون لقتله. وبغض النظر عن الوقت الذي بدأت فيه هذه العادة، فقد ظلت مستمرة في القرن الأول الميلادي، حين تخبرنا القصة الساخرة عن تجهيز الإمبراطور الروماني كاليجولا لمنافس كي يذهب ويتحدى الكاهن الحالي، الذي كان يحمل لقب «الملكية» منذ وقت طويل.
كان الأمر الأساسي الذي قام به فريزر هو إدخال هذه العادة الغريبة في حقبة تقع في منتصف ملحمة «الإنياذة» لفرجيل. وقد عرف فريزر الغصن الذي يحوزه المتنافس على منصب الكاهن ب «الغصن الذهبي» الذي مكن بطل فرجيل، إنياس، من الهبوط في أمان إلى عالم الموتى، قبل العودة مجددا إلى مهمة تأسيس مدينة روما. وإذا كان القدر يحابي إنياس، هكذا يقال له، «فسيأتي الغصن طوعا وينخلع بيسر». ودعما لهذا التعريف راكم فريزر «الأدلة» من أي مصدر، وأي مكان، وأي زمان (من الأساطير الاسكندنافية القديمة إلى عادات سكان أستراليا الأصليين، ومن الميثولوجيا الإغريقية إلى صناع عرائس القش الإنجليزيين). وبينما واصل فريزر، عبر طبعات كتابه المتتابعة، إضافة المزيد والمزيد من الملاحظات، أدرج مراجع بشأن التراث الديني والأثري للكوكب بأكمله، مملوءة بقراءة فريزر الواسعة للغاية وبإسهامات أرسلت إليه من جحافل المتراسلين من مختلف أنحاء الكوكب، كلهم يسهمون بما رصدوه من مشاهدات تعزز ما توصل إليه.
اشتق فريزر نظريات طموحة من كل هذه المعطيات: نظريات عن تقديم القرابين، عن موت الملوك ومولدهم من جديد (ومن هنا جاءت أهمية لقب «الملك» الذي حمله كاهن نيمي)، وعن التطور الفكري الكامل للبشرية، من الإيمان البدائي ب «السحر»، مرورا ب «الدين»، وصولا إلى نمو «العلم» الحديث. مع مرور الوقت، تداعى الإطار المركزي لحجته بالكامل، لكن منظومة «المعرفة» الهائلة التي جمعها لم تنهر. وكما رأينا في حالة باوسانياس، لم يؤد عدم الإيمان بمعلومات فريزر إلى إبطال مشروعه. في كتاب «الغصن الذهبي» قدم فريزر لقرائه مدخلا إلى «معرفة» شاملة وما تحمله هذه المعرفة من قوة ، بداية من العالم القديم نفسه. وذلك الكتاب العظيم (الذي، رغم «إنكار» ما توصل إليه من نتائج، لا يزال يبيع كل عام آلاف النسخ من طبعته ذات المجلد الواحد) يقدم نموذجا لقدرة الفكر المتحضر الممنهجة. كانت هذه حملة فريزر العظيمة الشاملة. وقد انبثقت مباشرة من عمله على طبعاته الكلاسيكية، التي ثبت أنه لم يمكنها مطلقا الاستغناء عن باوسانياس، والتي، كما يزعم البعض، دامت على أحسن حال.
كان من الحتمي أن يضرب مشروع فريزر لفهم تاريخ الثقافة البشرية بجذوره في الدراسة الكلاسيكية وفي مجموعة «الخرافات» التي احتفت بها النصوص والأعمال الفنية الإغريقية؛ ففي أنحاء أوروبا كانت تلك النصوص والأعمال ملكية شائعة للمثقفين، وكانت أكثر ما يدعو للشرح والتفسير. واليوم، بعد أن نبذت طرق فريزر بوقت طويل، يظل التحدي جزءا أساسيا من دراسة التراث الكلاسيكي: كيف لنا أن نفكر في «الميثولوجيا الإغريقية»؟ لماذا كان لهذه الذخيرة من القصص مثل هذه القبضة القوية على هذا العدد الكبير من الكتاب والفنانين؟
في الأساس هناك: الخرافة، والدين، والعقل، والإنسان
لا تزال الخرافات الإغريقية أحد أبرز السبل الشائعة التي يأسر بها التراث الكلاسيكي انتباهنا، بحيث يجتذبنا إلى التعرف على المزيد عنه. وهذه القصص يعاد حكيها على مدى الأدب القديم، ليس فقط في التراجيديات الإغريقية أو القصائد الملحمية لهوميروس (كالإلياذة ومغامرات البطل الوضيع أوديسيوس خلال رحلة العودة الطويلة إلى منزله وإلى زوجته الوفية بينيلوبي)، وإنما أيضا في نسخ هذه الخرافات التي رواها الكتاب الرومان. فالكاتب الروماني أوفيد مثلا، الذي عاصر فرجيل وهوراس، نسج في عمله «التحولات» تجميعة ضخمة من كل الخرافات المتعلقة بعملية «التحول». كانت هذه قصصا عن «تغير الشكل» من بداية الكون إلى وقته الحاضر: قصص دافني التي تحولت إلى شجرة غار بينما كانت تتفادى ملاحقات أبوللو، ولمسة ميداس الذهبية، وتحول يوليوس قيصر إلى إله عند موته، والعديد غيرها. كما أورد أوفيد خرافات أخرى في عمله «كتاب الأيام»، وهي قصيدة طويلة عن التقويم الروماني واحتفالاته الدينية المختلفة، حررها فريزر بنفسه وترجمها إلى عمل بارز آخر في مجلدات عدة.
على مدار الأعوام المائة الأخيرة بذل قدر كبير من التنظير في سبيل تفسير هذه الخرافات. على سبيل المثال استكشف سيجموند فرويد جذور الميثولوجيا الإغريقية وعمل النفس البشرية في الوقت الذي كان يتدبر فيه قصصا مثل زواج أوديب بأمه بعد أن قتل والده (ومن هنا جاءت «عقدة أوديب»)، أو افتتان نارسيسيوس بنفسه، والذي أغرم بصورته المنعكسة على صفحة الماء (ومن هنا جاءت «النرجسية»)، وهو حدث لا ينسى في قصيدة أوفيد. إن المعاني الموجودة في هذه القصص، رواياتها وتأويلاتها المتباينة، تتزايد، الزائف منها والملهم. وظاهرة «كرة الثلج» هذه دفعت أولئك الذين يدرسون اليونان وروما الكلاسيكيتين إلى إعادة التفكير، مرارا وتكرارا، ليس فقط بشأن ما كانت تعنيه الخرافات من قبل، ولكن أيضا بشأن الكيفية التي اختلفت بها عن تأويلاتها اللاحقة (وتعمقت بواسطتها). على سبيل المثال، ما الفارق الذي يحدثه أوديب فرويد بالنسبة لقراءتنا لمسرحية سوفوكليس «أوديب ملكا»؟ هل بات حتميا علينا الآن أن نقرأ ما كتبه سوفوكليس في ضوء تأويل فرويد؟
لكن بالنسبة لفريزر وجيله، كانت هناك قضايا أخرى على قائمة أهدافهم من وراء دراسة الميثولوجيا والثقافة الإغريقية، وخاصة قضية الدين. في سنوات ترعرع فريزر في أواخر القرن التاسع عشر، كان التراث الكلاسيكي يدرس في إطار مؤسسات مسيحية بالأساس. كانت الجامعات صغيرة الحجم ومحجوزة إجمالا للنبلاء وطلاب الدرجات الكهنوتية، وكان أغلب المدرسين من القساوسة. كان مجد اليونان وعظمة روما كلها تقريبا إنجازات وثنية. ورغم سيطرة الكنيسة على تعاليمها، استطاعت دراسة التراث الكلاسيكي أن تقدم سبيلا لفهم العالم بمنأى عن المسيحية. والأهم من ذلك أن سلطة التراث الكلاسيكي الوثني أمكن استخدامها في تصويب نطاق كامل من النهوج الراديكالية المتعارضة مع المؤسسة المسيحية الرسمية.
خضعت الخبرة الدينية للعالم القديم لدراسة مكثفة، من خرافات الأرباب والربات إلى طقوس تقديم القرابين الحيوانية على الملأ والنطاق العريض للعادات والتقاليد المحلية الغريبة. إن العوالم اليوتوبية التي حلم بها أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد ووصفها تحديدا في محاورتيه «الجمهورية» و«القوانين»، شجعت المفكرين الراديكاليين على تأسيس فلسفة تعليمية علمانية على نحو صرف وتقويتها. وقد وجدت القيم الحياتية والخيارات التي حرمتها المسيحية دعما وزخما سياسيا في ممارسات ومناقشات الإغريق والرومان. وهكذا، على سبيل المثال، استخدمت مناقشة أفلاطون لطبيعة الحب والرغبة، «الندوة»، في تبرير أشكال معينة من المثلية الجنسية الذكورية؛ فأفلاطون لا يأخذ العلاقات الجنسية بين الرجال والصبيان كأمر مسلم به وحسب، وإنما (شأن معاصريه الأرستقراطيين الآخرين) صورها على أنها أعلى وأنبل صور الرغبة الجنسية.
وقد وجدت لكل الأمور المستغربة، من حق التصويت الشامل والديمقراطية، إلى النباتية ووحدة الوجود وحرية العلاقات الجنسية دون التقيد بالزواج واليوجينيا والإبادة الجماعية، سوابق ووجود نافذ في التراث الكلاسيكي. ومن قبيل المفارقة الصارخة أن يفكر علامة أواخر القرن التاسع عشر ودارس التراث الكلاسيكي، نيتشه، على نحو غريب في أن الكون موجود في حالة شد بين التحكم «الأبوللوني» والتحرر «الديونيسي»، وذلك على أساس النصوص ذاتها التي درسها دارسو التراث الكلاسيكي بهدف وضوح عباراتها وجديتها الأخلاقية الراقية المفترضة.
في هذا العالم، قد تعد زيارة لمعبد أبوللو المغيث في جبال أركاديا كل شخص بتقديم نكهة الإثارة التي يختارها، بينما يعمل باوسانياس (و«معاونه» المعاصر فريزر) عمل المرشد للعالم البدائي المختلف قبل مجيء المسيح. كان في مصلحة الكثيرين، بالطبع، أن تظل أجزاء كبيرة من هذه الثقافة الوثنية محفوظة بأمان من أجل «الحضارة». وربما تكون التكلفة هي إعادة التأويل أو التهذيب أو حتى، كملجأ أخير، حذف تلك الجوانب من الأدب الكلاسيكي التي لا تتوافق مع الصور الفيكتورية للثقافة المتحضرة. وهكذا، فإن أفكار «الحب الأفلاطوني» و«العلاقات الأفلاطونية» مشتقة من قراءات لأعمال أفلاطون لا يستطيع أحد اليوم أن يؤيدها؛ حيث الصفة «أفلاطوني» هي نتاج لتاريخ من التأويل لفلسفة أفلاطون. إن الجرائم والمعاناة البشعة الموجودة في التراجيديا الإغريقية كان ينظر إليها على أنها حكايات أخلاقية رمزية، بينما نصوص الكاتب المسرحي الكوميدي أريستوفان، المعدة للاستخدام في المدارس والجامعات، عادة ما كان يحذف منها الدعابات الجنسية الصريحة والفاحشة التي كانت علامة مميزة لكتاباته. بل كان من الممكن تحويل الشخصيات الوثنية إلى مسيحية قبل ظهور المسيحية. ولم يكن دانتي هو الوحيد الذي وجد أن فرجيل يستحق مكانا مكرما في مملكة المسيح، على أساس أنه كان يتمتع ب «روح مسيحية طبيعية»، وإنما واصل الكثير من باحثي القرن التاسع عشر تأويل إحدى أوائل قصائده، والمكتوبة قبل مولد المسيح بأكثر من جيل كامل، على أنها «مسيحية»، من حيث إنها تتنبأ بمولد المسيح. وعلى أي حال، كان بمقدور أي باحث يتبنى نهج فريزر أن يأمل دوما أن يجد، بين ثنايا العالم الكلاسيكي، «آثار» و«بقايا» الوحشية الجامحة والغرابة.
تمخض عن شرح فريزر لدليل السفر الجاف غير المثير الذي وضعه باوسانياس سرد شنيع لحياة الحيوان البشري بالقرب من «أصله»، قبل أن تكبح «الثقافة» جماح ذلك «الوحش» غير المتحضر. وإذا كان باوسانياس قد حن إلى أيام مجد أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد فإن فريزر، من جانبه، سافر بالزمن إلى الوراء كي يجد الحالة الطبيعية للبشرية، والتي لم تختلف في نظره في أيام بلاد اليونان الأولى عن البلاد المتخلفة المستعمرة في القرن التاسع عشر التي يقطنها «الهمج». ربما انتهت القصة بانتصار العقل الأوروبي المسيحي الحديث، لكن في نظر الكثيرين فإن استخدام هذا العقل من أجل النظر للماضي فيما دون سطح الحضارة الكلاسيكية كان هو مصدر الجذب في حد ذاته. ومن شأن الجمع بين الحكايات المتقلبة على نحو مثير، والعنيفة على نحو مقزز للميثولوجيا الإغريقية، وبين الملاحظات الخاصة بالممارسات الشاذة أو الدينية الغامضة التي تتبدى لنا من بين ثنايا وصف اليونان الذي قدمه باوسانياس؛ أن يسمح للخيال بأن يشطح بقدر ما. ولا يزال هذا يحدث إلى الآن.
لكن بغض النظر عن الروح الكامنة خلف عملية التقصي، فإن بحث عبارة واحدة من نص كلاسيكي يتضمن التواصل مع مجموعة من عمليات البحث والتقصي السابقة. وفي موضع ما من قصة دراسة التراث الكلاسيكي تلتقي أعظم نظريات الوجود الشامل مع أشد عمليات الإنفاق الحريص للطاقة على التحليل الدقيق لكلمات أخطئ فهمها في مخطوطات غير جديرة بالثقة.
الفصل السابع
فن إعادة البناء
التخطيط الأساسي
كما رأينا، يركز وصف باوسانياس لباساي على اللقب الذي منح هناك للإله أبوللو؛ لقب «المغيث» أو «المعين». ويعد باوسانياس بالفعل بتفسير هذا اللقب عند أول إشارة له إلى المعبد؛ حين كان يزكي مشهد «التمثال الطويل المصنوع من البرونز البالغ ارتفاعه أربعة أمتار، الذي جلب [من باساي] من أجل تزيين المدينة الكبيرة»، تلك المدينة الرئيسية في أركاديا. وحين يصل في جولته إلى ذلك المكان، يركز دليله الإرشادي حقا، على نحو حصري تقريبا، على السبب وراء اللقب الممنوح لأبوللو. ورغم أن باوسانياس يصر في الفقرة التالية مباشرة على أن وصفه هو التسجيل العفوي الأول للزيارة، فإن قدرا قليلا للغاية منه مستقى من الملاحظة. فهو يخبرنا سريعا أن المعبد مبني من الحجر، من سقف وجدران، وأن ترتيبه الثاني بين كل المعابد في شبه جزيرة بيلوبونيز من حيث الجمال والتناسق. لكن لا يوجد شيء مطلقا عما يوجد داخل المعبد، عدا أن تمثال الإله الذي رآه في المدينة الكبيرة لم يعد موجودا بالمعبد. أيضا لا يذكر باوسانياس شيئا عن الزخارف الموجودة على المعبد من الخارج، سواء أكانت منحوتات أم رسومات، رغم الاحتفاء البالغ الذي يظهره بالمعبد.
التوصيفات الحديثة للموقع لها أولوياتها. وقد تسبب إنقاذ الإفريز، كاملا تقريبا، والفقدان شبه التام لبقية المنحوتات الخاصة بالمعبد لا محالة في تركيز معظم الاهتمام على الإفريز. لكن لا يوجد إجماع على نوعية الاهتمام الذي يستحقه. لا تزال اهتمامات باوسانياس - التاريخ «الديني» تحديدا للموقع والتقدير «الفني» لزخارفه - تشكل جزءا من نطاق اهتمامنا الحالي، لكننا مهتمون أيضا بما ربما يكون باوسانياس قد أخذه كأمر مسلم به، أو حتى اعتبره أقل شأنا من أن يذكر؛ وتحديدا نحن مهتمون بالدور الذي لعبه المعبد في حياة المجتمع المحلي، وما رآه الزائرون في الصور الأسطورية المنحوتة على جدرانه. ورغم أنه ليس من الممكن أن ينظر إلى باوسانياس ببساطة بوصفه ممثلا لرد الفعل «التقليدي» القديم، علينا كذلك ألا نتظاهر بأن أي نظرة حديثة منفردة، حتى نظرتنا، يمكنها أن تمثل كل ردود الفعل.
المعابد اليونانية والرومانية هي أشكال متحفظة للغاية من المباني. والتخطيط الأساسي لهذه المعابد يسهل تمييزه ويمكن العثور عليه في كل مكان عبر العالم الكلاسيكي من إسبانيا إلى سوريا: منصة حجرية مستطيلة، تحمل أعمدة موزعة على مسافات متساوية حول قاعة رئيسية، مقسمة في المعتاد إلى قاعتين، واحدة أمامية منفصلة عن الخلفية، وذلك تحت سقف مصمت. (للاطلاع على التخطيط الأساسي لمعبد باساي، انظر الشكل
7-1 .) وفي المعتاد حملت أجزاء معينة من هذه المعابد زخارف منحوتة؛ فأعلى الأعمدة عند الطرف يوجد دائما سلسلة من ألواح الرخام المنحوتة، وفي جمالونات السقف من الناحيتين الأمامية والخلفية وضعت تجميعة من التماثيل المنحوتة؛ أحيانا دون إتقان، وأحيانا أخرى بدرجة عالية من المهارة، وذلك في التجاويف المثلثة الشكل التي يشكلها انحدار الأفاريز. وداخل القاعة الرئيسية كان يوضع تمثال للإله الذي بني المعبد من أجله، يواجه عادة المدخل الرئيسي، ومن الممكن أن توضع منحوتات أخرى على الطريق إلى هذا التمثال المركزي؛ بحيث تساعد في إعلان ملاءمة المعبد لاستضافة ذلك الإله.
شكل 7-1: مخطط الطابق الأرضي لمعبد باساي؛ حيث (1) تمثال أبوللو، و(2) عمود ذو تاج كورنثي.
كانت غالبية هذه الزخارف ملونة بألوان زاهية؛ فالمنحوتات التي نعجب بها اليوم بسبب رخامها الأبيض المتلألئ كانت مطلية في الأساس بألوان خضراء وزرقاء وحمراء صارخة. وهذا أحد أصعب جوانب المظهر الأصلي لأي معبد قديم يكون علينا تقبله؛ وهذا يرجع جزئيا إلى أنه يتعارض بقوة مع الصورة التي نملكها في أذهاننا عن الكمال الكلاسيكي، أو مع الرؤية الرومانسية الخاصة بمعبد أبيض نقي جاثم في أحضان الجبل. يختلف الأثريون بشأن المقدار المحدد المغطى بالطلاء من أي معبد. والتحليلات الخاصة بالآثار المتبقية من الطلاء ليست حاسمة بعد. يرى البعض أن هذه الألوان أضيفت غالبا للتفاصيل المهمة، بغرض إبرازها وجذب انتباه الرائي إليها، أو أن مسحة بسيطة من الألوان وضعت على خلفية الإفريز كي تجعل التماثيل نفسها تبرز في وضوح. لكن يقترح آخرون في جرأة أكبر أن الطلاء الزاهي وضع على الرخام كله، وهو ما من شأنه أن يقلل تأثير تفاصيل النحت والتجسيم الدقيق الذي نميل اليوم إلى الاحتفاء به. وبالتأكيد كانت درجة ما من الألوان، مهما اختلف مقدارها، عنصرا مهما في المعابد القديمة، وجزءا من مجموعة زخارفها المعتادة.
لكن لم تكن المعابد مباني متحفظة فقط؛ فرغم أنها تنتمي جميعا بوضوح إلى النوع ذاته، فإن كل معبد منها كان متفردا بذاته، ويمثل ارتجالا وتجربة مميزة. وكما يبين معبد باساي، ففي إطار النمط العام كان هناك نطاق من التنويع، في المعمار وفي الزخرفة على حد سواء. سنعاود الحديث عن الإفريز نفسه بعد قليل، لكن الآن دعونا نركز على المنحوتات التي تزين الجزء الخارجي من المبنى وتلك المحيطة بالجزء الداخلي الإجمالي للمعبد؛ فهذه المنحوتات تساعدنا في رؤية الطرق المتباينة التي أكد بها المعبد على تفرده.
على عكس الإفريز، ظلت منحوتات الجزء الخارجي باقية على صورة شظايا صغيرة. ويبدو أنه لم تكن هناك أي منحوتات في جمالونات المبنى، لكن سيرا على النمط الشائع، كانت هناك سلسلة من ست لوحات محفورة (المصطلح الفني المعماري لها هو «الميتوبات» أو حقل المنحوتات) فوق الأعمدة عند كل طرف. يبدو أن أحد أجزاء هذه اللوحات هو جزء من صورة لشخص يعزف قيثارة، وهي من الرموز المميزة للإله أبوللو (انظر الشكل
7-2 ). ويبدو أن الشظايا الأخرى تتوافق معا كي تكون شكل رجل ملتحف بعباءة، على نحو شبيه بالتمثيلات العديدة للإله زيوس، والد أبوللو. وفي شظايا أخرى تظهر عباءات ملتفة، ربما تنتمي إلى مجموعة من الراقصات. من هذه الشظايا يستحيل التأكد قطعا من المشاهد الممثلة على اللوحات، لكن لدينا ما يكفي بالكاد لأن نقترح أن الشخصيات الممثلة تشير إشارة محددة إلى أسطورة محلية معينة.
شكل 7-2: صورة معاد بناؤها لإحدى اللوحات المحطمة. الجزء الذي يظهر أبوللو «عازف القيثارة» يظهر واضحا في الشكل
1-2 .
كان المعبد يعلن عن هويته بكل وضوح - فهو «معبد أبوللو المغيث» - عن طريق عرض الإله العازف للقيثارة (رفقة مجموعة من الحوريات أو الربات) على لوحة موضوعة فوق بابه الأمامي. أما صورة الإله زيوس فقد تلمح إلى قصة معروفة جيدا وضعت هذه المنطقة النائية من أركاديا في قلب مسرح أحداث الميثولوجيا الإغريقية؛ فحين ولد زيوس، هكذا تذهب الخرافة، أخفي في كهف بين تلك التلال البرية كي يظل في مأمن من والده خرونوس، الذي كان عازما على تدمير زيوس، وحمت المربيات مخبأ زيوس عن طريق التشويش على صرخاته بجلبة عالية غير موسيقية بالمرة. إذا عرضت هذه القصة في باساي، فستعلن بوضوح لكل من يستطيع ربط أجزائها معا عن أهمية أركاديا في المنشأ الخرافي للنظام العالمي، عند وقت ترسيخ حكم زيوس على الكون بأكمله.
في حضرة الإله
من السهل أن نتخيل موكبا صاخبا يجوب المنحدرات آتيا من فيجاليا كي يتجمع أمام مذبح أبوللو المنتصب في الهواء الطلق أمام المعبد. ومن السهل أن نتخيل الحشد وهو واقف في صمت مقدس، بينما الكهنة يستعدون لرفع صلواتهم وتقديم القرابين للإله. فأي شخص ينظر إلى الزخارف التي تعلو باب المعبد يمكنه أن «يقرأ» زعما فخورا يقضي بأن الموسيقى المتحضرة التي يعزفها أبوللو بقيثارته ترجع أصولها إلى الضوضاء الصاخبة التي استثيرت من أجل الحفاظ على والده زيوس؛ في الماضي قرب بداية الزمان، وبالقرب من هذا الموضع عينه.
كل هذه تخمينات؛ فباوسانياس لم يخبرنا شيئا من هذا، ولقد بدأنا من حفنة صغيرة وحسب من قطع الرخام المهشمة (يد تعزف قيثارة، وجزء من جزع، وشظايا عباءة) لا لكي نعيد بناء المنحوتة التي كانت تزين المعبد من الخارج، وإنما أيضا بناء شيء من مغزاها وكيفية تلقيها. إن جزءا أساسيا من دراسة التراث الكلاسيكي هو تلك النوعية تحديدا من «إعادة البناء»، أن نجمع معا شظايا متناثرة كي نحصل على فكرة عما كان الكل يبدو عليه فيما مضى وما كان هذا يعنيه. إنه عمل قائم على التخمين بالأساس. وفي كل الأحوال تقريبا يكون التخمين موضع خلاف. فلدى أشخاص آخرين، على سبيل المثال، أفكار مختلفة بشأن ما كانت هذه اللوحات تعرضه تحديدا أعلى مدخل معبد باساي. لكن الأمر ليس عملية تخمين وحسب؛ فهو بالأساس يعتمد على القدرة على رؤية ما تبقى، مهما كان متناثرا على صورة شظايا، في سياق كل الأمور الأخرى التي نعرفها عن العالم القديم.
في حالتنا هذه تعتمد إعادة البناء جزئيا على معرفتنا بالتمثيلات الأخرى الباقية للإله أبوللو؛ الذي يصور عادة وهو يعزف على القيثارة. ووجود جزء من يد تعزف قيثارة في هذا المعبد يوحي لا محالة بأن هذا الشكل يمثل الإله أبوللو نفسه. لكن إعادة البناء تعتمد أيضا على الإلمام بالخرافات والقصص القديمة الخاصة بالمنطقة، وعلى معرفة أن أركاديا كانت بقعة ذات أهمية خاصة في قصة والد أبوللو، زيوس. بعبارة أخرى، عملية الربط بين أجزاء المعبد تؤدي بنا إلى التعمق في ثقافة المنطقة كلها.
أيضا تبين عملية إعادة البناء للزينة الخارجية للمعبد أحد السبل التي يكتسب بها المعبد تفرده، حتى داخل نمطه المعياري القح. فبينما تشير المنحوتات الموجودة أعلى المدخل إلى الإله المرتبط بهذا المعبد تحديدا وإلى أساطير محلية بعينها، فإن تصميم الجزء الداخلي من المعبد يدل على تفرد المعبد بطريقة مختلفة تماما.
استخدم الجزء الداخلي من المعبد في احتضان صورة الإله وتخزين قرابين الولاء والشكر التي تراكمت على مر القرون. لم يلعب هذا الجزء دورا - أو لعب دورا بسيطا للغاية - في المراسم والطقوس التي تركزت بالأساس في المذبح بالجزء الخارجي، وعمليات التضحية بالحيوانات التي تمت عليه. كانت القاعة نفسها مكانا مظلما. الصورة المعاد بناؤها في القرن التاسع عشر لهذا الجزء، والتي نقدمها هنا (في الشكل
7-3 ) تبذل أقصى جهدها من أجل إضفاء الضوء على المشهد، عن طريق اقتراح وجود كوة في السقف. لكن لا يوجد دليل على وجود أي ترتيب من هذا النوع، ولا يعتقد أحد اليوم وجود أي شيء كهذا؛ لذا فحري بنا أن نتخيل بيئة أكثر إظلاما عن تلك المرسومة هنا.
شكل 7-3: داخل المعبد: كيف نظر إلى المعبد في القرن التاسع عشر؟
ومع هذا، تحرت عملية إعادة البناء هذه الدقة في مناح أخرى؛ فالابتكار الرائع الخاص بالأعمدة النصفية (بدلا من صف الأعمدة الحرة المعتاد) تسبب في جعل الجدران تبدو كأنها على مسافة أبعد؛ وبذا يزيد، على نحو كبير، من إحساس الزائر بالأبعاد الداخلية للمزار. وفوق الأعمدة كان الإفريز يطوق الجوانب الأربعة للقاعة، ملقيا ظلالا مهيبة داخل ظلمة المكان. حين يدخل الزائرون كانوا يجدون أمامهم مباشرة، كما هو مبين في الصورة، عمودا وحيدا مختلفا تماما عن بقية الأعمدة في المعبد. هذا هو العمود «الكورنثي» المشار إليه في الفصل الثاني، وهو أقدم مثال معروف في أي مكان بالعالم القديم لعمود يحمل هذا النوع تحديدا من التيجان (يظهر في الشكل رقم
1-2 ). وهو هنا يشكل نوعا من الستار، بين الجسم الرئيسي للقاعة ومنطقة صغيرة بالخلف. في تلك المساحة يقف تمثال أبوللو، غالبا في الركن الأيمن الأقصى ينظر ناحية مدخل في أقصى اليسار، يطل على جانب الجبل. كان على الأرجح التمثال الأصلي لأبوللو، البالغ ارتفاعه أربعة أمتار، هو ما رآه باوسانياس في المدينة الكبيرة؛ حيث أخذ من المعبد ووضع هناك ليزين المدينة. وبالحكم من البقايا الهزيلة التي لدينا، نعرف أنهم وضعوا في موضع التمثال الأصلي في معبد باساي تمثالا آخر لأبوللو، ذا قدمين ويدين ورأس من الرخام، لكن جسده مصنوع من الخشب، يخفيه لباس فضفاض. كان هذا بديلا رخيصا للغاية لتمثال من البرونز، أو تمثال مصنوع بالكامل من الرخام. كان من الأكثر ترجيحا هكذا أن يتركه الناهبون أو الجامعون أو المتعبدون القادمون من «المدينة الكبيرة» في قدس الأقداس الخاص به.
إن تفاصيل هذا التصميم الداخلي فريدة حقا؛ ففي إطار المخطط القياسي، استحدث المهندسون المعماريون الذين صمموا المعبد بعض الملامح المذهلة. على وجه الخصوص، لا يملك أي معبد آخر عمودا موجودا في منتصف المشهد، بحيث يجذب انتباه كل زائر للمعبد. أيضا لا يوجد أي معبد آخر يكون فيه التمثال المبجل الأساسي موضوعا في مكان غير مركزي، ينظر بعيدا نحو باب جانبي. ولا يملك أي معبد آخر إفريزا منحوتا يمتد حول قاعته الداخلية. المبنى كله أيضا غير معتاد؛ من حيث إنه مبني في اتجاه الشمال، بينما كل المعابد الإغريقية الأخرى تقريبا مبنية في اتجاه الشرق.
عالمهم، أحجيتنا
بغض النظر عن التفسيرات المحددة لكل هذه الملامح، فإن أهم نقطة هي ذلك التنوع الكبير في التصميم الذي استحدث هنا، دون التخلي عن المخطط القياسي الرئيسي. من هذا الجانب يعد معبد باساي ملمحا نمطيا لقدر كبير من الثقافة الكلاسيكية. وبإمكانك أن تقول شيئا مشابها عن المناحي الأخرى لدراسة التراث الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، كل من الشعر الإغريقي واللاتيني كان يكتب دائما وفق القواعد الصارمة الخاصة ب «بحور الشعر»، التي تحدد نطاقات معينة من التنويع في أنماط المقاطع «الطويلة» و«القصيرة» على امتداد القصيدة كلها، حتى لو امتدت القصيدة لألف بيت (انظر الشكل
7-4 ). وجزء من اهتمامنا اليوم بقراءة هذا الشعر هو أن نرى تحديدا كيف «استخدم» الشعراء الكلاسيكيون ذلك الإطار، وكيف استخدمت قواعد البحور على نحو متباين، بما يجعل الابتكار ممكنا، والأصالة شيئا يسهل تمييزه، علاوة على تحديد أنماط قياسية لنظم الشعر اتبعها كل شاعر.
شكل 7-4: يمكن أن يقدم الشعر الكلاسيكي في صورة تخطيطية. هذا النمط المحدد من المقاطع «الطويلة» و«القصيرة» يعرف باسم «المقطع الشعري الألكايوسي». وهذا البحر، المسمى على اسم مبتكره المفترض، الشاعر الغنائي ألكايوس، كان هو البحر المستخدم في «القصائد الغنائية» لهوراس، وذلك إلى جانب «المقطع الصافوي».
حان وقت العودة إلى دراسة الإفريز مجددا، في ضوء ما قلناه للتو. من قبيل المفارقة (وفي ظل حقيقة أنه ظل باقيا إلى الآن كاملا تقريبا)، يثير الإفريز مشكلات عويصة بالنسبة لعملية إعادة البناء؛ فمن الآثار التي ترتبت على استخراج الألواح الثلاثة والعشرين من بين الأطلال، ثم تغليفها من أجل عملية النقل، ثم إعادة تجميعها من أجل العرض في لندن؛ أننا لا نملك أي دليل واضح عن موضعها أو ترتيبها الأصلي في المعبد. ويصير اللغز أكثر صعوبة؛ لأن كل لوح منحوت على نحو مستقل؛ بحيث لا يوجد تداخل تقريبا بين كل لوح وآخر. وأغلب الألواح يصور أجسادا مفرودة متداخلة على نحو محير؛ ونتيجة ذلك أن الشكل الفعلي للإفريز، بمعنى أي لوح كان موضوعا إلى جوار أي لوح آخر في التصميم الأصلي، لا يزال موضع خلاف حاد بين الأثريين. وكما ذكرنا في الفصل الأول، فإن هذه الأحجية لم تحظ إلى الآن بحل مقبول إجمالا.
ومع ذلك، يتفق الجميع على أن الإفريز يعرض قصتين: الأولى عبارة عن معركة بين الإغريق، تحت قيادة البطل هرقل - أحد أبناء زيوس العديدين - وبين الأمازونيات، وهن جنس خرافي من النسوة اعتدن العيش، والقتال، من دون رجال. والثانية عبارة عن معركة بين جنس القناطير الخرافي، الذي يتكون كل فرد من أفراده من نصف رجل ونصف حصان، وبين قبيلة إغريقية تدعى قبيلة اللابيثيين. من البدهي الافتراض أن كل قصة من هاتين القصتين كانت تشغل جانبين من جوانب الإفريز الأربعة المكتملة؛ جانبا طويلا وآخر قصيرا. لكن لا يستطيع أحد أن يرتب القصتين على نحو محكم وفق هذا الترتيب؛ ففي موضع ما على امتداد أحد الجوانب على الأقل لا بد أن تتداخل إحدى القصتين مع الأخرى. وهذا أيضا يفاقم مشكلة إعادة البناء.
لكن يبرز على نحو خاص مشهدان مصوران على لوحين معينين (انظر الشكلين
7-5
و
7-6 ). في أحدهما، يسحب أبوللو قوسه أمام قنطور بينما تمسك شقيقته التوءم أرتميس عنان المركبة، التي يجرها الأيل. وفي المشهد الثاني، يطوح هرقل، الذي يرتدي جلد أسد، بهراوته نحو إحدى الأمازونيات، والتي تنحني متفادية الضربة من وراء درعها. رأى الكثيرون أن مشهد هرقل هذا يناسب أن يكون في موضع مركزي، بحيث تنتشر المشاهد الأخرى إلى يمينه ويساره. أيضا ذكر هذا المشهد بقوة الباحثين بالمشهد الموجود في الجمالون المركزي لمعبد البارثينون في أثينا (الذي من المفترض أن المعماري عينه قد صممه)؛ حيث تبدأ منحوتات أثينا وغريمها بوسيدون في اتجاهين متقابلين بالطريقة نفسها تقريبا. سيكون مشهد هرقل إذن المشهد المحوري في هذا الترتيب؛ إذ سيكون موضوعا فوق التاج الكورنثي، ومصمما بحيث يجذب أعين الزوار أعلى العمود إلى هذه اللحظة المركزية. وإذا كان هذا صحيحا، فمن المفترض إذن أن فريق أبوللو وأرتميس «لا بد» أن ينتمي إلى الجزء الذي يعلو المدخل، في انتظار أن يجتذب أنظارنا بينما نستدير كي نغادر القاعة.
شكل 7-5: أبوللو وأرتميس في رحى المعركة: من إفريز معبد باساي.
شكل 7-6: هرقل يحارب الأمازونيات: من إفريز معبد باساي.
لا حاجة بنا إلى أن ننزعج من تفاصيل إعادة البناء تلك، والأمر عينه ينطبق على تفاصيل المشاهد المصورة على ألواح الإفريز. تحمل هاتان القصتان عنوانين غريبين؛ هما «معركة مع الأمازونيات» و«معركة مع اللابيثيين»، صاغ الإغريق كل واحدة منهما من كلمة واحدة؛ هي
Amazonomachy
و
Lapithocentauromachy
على الترتيب، ويتناسب هذان العنوانان الفخمان مع ما يشيران إليه من معركتين هائلتين. بيد أن هاتين القصتين المصورتين هما جزء من الأدوات القياسية للفن الكلاسيكي والثقافة الكلاسيكية؛ إذ توجد القصص المصورة أينما وجد نحت كلاسيكي على المعابد. وفي معبد باساي هاتان القصتان منحوتتان في الحجر وتبرران الزعم القائل بأن هذا المكان المقدس الموجود بين التلال ينتمي إلى العالم الواسع للثقافة الإغريقية، وهو جدير بأن يتبوأ موضعه إلى جوار أهم المنحوتات الرخامية التي تفخر بها أي مدينة في أي مكان. في الواقع، يجدر بنا التأكيد على أن هذه الصور تصدق على حقيقة هذا المبنى بوصفه صرحا للقداسة العامة تماما مثلما تصدق أنواع الملامح «الكلاسيكية» المشابهة على حقيقة أشكالها اللاحقة؛ من بنوك ودور محاكم ومتاحف ومقرات رسمية خاصة بأي مدينة كبرى من مدن العالم الحديث. فلا تزال الأعمدة والجمالونات المليئة بالمنحوتات الكلاسيكية الطراز تساعد على أهمية المبنى للعامة ووقاره؛ فالمتحف البريطاني، على سبيل المثال، يقصد منه أن يكون بارثينونا آخر، وواجهته الشبيهة بواجهة المعابد تظهره بمظهر ضريح مقدس، للتراث الكلاسيكي.
ومع هذا فإن الحضور الطاغي نفسه لهذه المشاهد، التي فيها يقاتل الإغريق الأمازونيات ويقاتل اللابيثيون القناطير، لا يقلل من أهميتها. بل على العكس؛ كلما كانت تمثيلات الخرافات أكثر تواترا وإلحاحا ووفرة، فمن المرجح أن دورها كان أكثر محورية في الثقافة الكلاسيكية. وفي الواقع، اضطلعت بعض أكثر دراسات التراث الكلاسيكي إثارة للاهتمام في الأعوام الأخيرة بالتحدي المتمثل في استكشاف الأهمية الخاصة لمثل هذه الصور، ويجدر بنا أن نتدبر لبرهة في الكيفية التي يمكن بها لمثل هذه الدراسات أن تساعدنا في فهم وتفسير ما نراه على إفريز معبد باساي نفسه. وهذا سيتضمن السماح للفن الإغريقي بأن يأخذنا، ليس فقط إلى داخل عالم الخرافة، وإنما أيضا، على نحو واسع، إلى عالم الأديان والقيم المتعارف عليها والأيديولوجيات الإغريقية.
الرجال الخارقون، والنساء الخارقات، والوحوش
افترضنا بالفعل أن المشهد القوي الخاص بهرقل في صراعه مع المحاربات الأمازونيات شغل موضعا شرفيا مركزيا، فوق العمود الكورنثي. يظهر هرقل في كل مكان توجه إليه ناظريك في العالم الكلاسيكي؛ ففي معبد زيوس العظيم في مدينة أوليمبيا تعرض الألواح الاثنا عشر الرخامية، ستة عند كل طرف من طرفي المبنى، الأعمال الاثني عشر التي أجبر هرقل على القيام بها ضد وحوش متزايدة الغرابة. وفي روما أيضا، كما سنرى في الفصل التاسع، لعب هرقل دورا كبيرا في الخرافة القومية التي أضفت القدسية على أصول مدينة روما. كان هرقل (هيراكليس) مجسدا في كل مكان؛ لأنه كان يمثل بعضا من الأشياء التي شغلت كلا من الإغريق والرومان وأزعجتهم وحيرتهم وجمعتهم وفرقتهم في الوقت عينه. لقد كان هرقل، كما تعلمنا أن نعبر عن الأمر، يصلح لضرب المثل دوما.
عندما حارب هرقل هذا الأمازونيات، نرى عرضا للعري الذكوري البطولي، من الأمام، رفقة سلاحه الشبيه بسلاح رجل الكهف، الهراوة، وجلد الأسد الذي يرتديه ويحمله بدلا من الدرع. في هذه الصورة يظهر هرقل قويا مفتول العضلات، لكنه خلاف ذلك لا يمكن تمييزه بالكاد عن الرجال الذين يقاتلون الأمازونيات إلى جواره، بخوذاتهم وسيوفهم وعباءاتهم المتطايرة. إن «جند» العدو إناث على نحو واضح، أجسادهن مغطاة على نحو محتشم بالثياب إلا في لحظات الكارثة، لكنهن يقاتلن كالجند والمشاة والفرسان المدربين. وبغض النظر عن العري، يبدو جيش الرجال، في أوجه عدة، شبيها بالقوة التي تحتفظ بها أي مدينة إغريقية على أهبة الاستعداد لخوض المعارك، لكنه تحت قيادة وإلهام ذلك الرجل الخارق، الذي جاب الأرض وذبح الوحوش كي يثبت أنه ابن زيوس.
إن النصر، الذي لم يحسم بعد، سوف يعيد الصراع بين الجنسين إلى نصابه الصحيح؛ فسوف يؤكد على الشجاعة الذكورية ويجرد الغرباء من هذا الفوج المحارب الهائل. ومع هذا، فالخطأ الذي ترتكبه الأمازونيات، أو ارتكبنه، لا يعلن عنه بوضوح . تذهب بعض القصص إلى أنهن غزون اليونان. لكن هرقل نفسه غزا هو أيضا عالمهن البري؛ حيث أرسل على صورة أحد العمال كي يسرق حزام ملكتهن. كيف لنا أن نتفهم ما ستنتج عنه هزيمة الأمازونيات؟ ولماذا يجب أن تهزم تلك النسوة المحاربات؟
جزئيا، نحن نرغب في التفكير في الأمر بوصفه عرضا لسلطة الذكور وهيمنتهم على النساء؛ فالرجال يرتدون أحزمة يغمدون بها سيوفهم، أما أحزمة النساء فيفضها الرجال، من أجل الجنس. وهنا نرى في الخرافة نساء تقلدن أدوار المحاربين والمقاتلين الخاصة بالرجال، نساء زعم أنهن أنشأن مجتمعا كاملا من دون رجال، وتلك النسوة على وشك أن تهزمهن قوات النظام الإغريقي الذكوري. إنه تأكيد قوي للأدوار الجنسية الملائمة المتوقع من الرجال والنساء الإغريق الاضطلاع بها. لكن في الوقت عينه، ربما نرغب في أن نربط صراع الإغريق والأمازونيات على نحو مباشر أكثر بالقصة الأخرى المصورة على الإفريز. في تلك القصة، اختطف ضيوف حفل الزفاف القناطير العروس، وتعين على العريس أن يقود عائلته وأصدقاءه من أجل إنقاذها. إن القناطير ملعونون لا محالة بسبب ما أحدثوه من غبن؛ إذ أفسدوا حفل الزفاف بأفعالهم الهمجية الوحشية، أما غرماؤهم فيتلقون المعونة الإلهية من كل من أبوللو وأرتميس، ابني زيوس.
من المغري أن ننظر إلى هذين الصراعين بوصفهما متكافئين على نحو وثيق؛ بحيث تكرر مزيج المرأة المحاربة التي تمتطي ظهور الخيل وانعكس في الصورة المعتدية على نحو بالغ للقنطور الذي هو نصف رجل ونصف حصان. لو صح هذا، فإن «جريمة» الأمازونيات تتجاوز بكثير مجرد الخروج عن السلوك اللائق المتوقع من النساء الإغريقيات. فبتبني تلك الأمازونيات دور الرجل المحارب، بات ينظر إليهن بوصفهن «غير طبيعيات»؛ انحرافا بشع للطبيعة، مماثلا للقناطير البشعة، التي يتعارض سلوكها مع أبسط قواعد المجتمع البشري وأكثرها أهمية؛ قواعد الزواج. وتمثل هزيمة القناطير والأمازونيات استعادة للنظام «الطبيعي» للمجتمع الإغريقي؛ فالإفريز يقترح، بصورة ما، أن الأمازونيات هن تجسيد للخطأ الذي ارتكبه القناطير.
يضع المعبد القواعد الجنسانية وحرمة منظومة الزواج الخاصة بالمجتمع معا تحت الحماية الإلهية ؛ فهو يقدم منطقا للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها مجتمع يوحد بين الآلهة والبشر؛ فالذكر عليه أن يجاهد كي يحذو حذو هرقل، ويكتسب الرجولة، تماما مثلما يتعين على هرقل نفسه أن يحارب كي يثبت أنه شقيق أبوللو، الذي يهيمن دون جهد على معبده من خلف ستار الأعمدة. إن زوار معبد باساي يمكنهم أن يجدوا عقدا للمجتمع البشري مفروضا عليهم، يحدد قواعد الحرب والزواج، ويعرف الرجال بوصفهم مروضين للنساء ومدافعين عنهن. وفي سلسلة منحوتات أبوللو الظاهرة للعيان (من أبوللو العازف للقيثارة بالخارج، مرورا بتمثال أبوللو الضخم بالداخل، وصولا إلى نحت أبوللو على صورة رامي السهام القاتل الذي رأيته وأنت تغادر) يمكن رؤية القوة الإلهية في العالم بوصفها سبيل خلاص وعنف في الوقت ذاته، يوصلها فنا الحرب والموسيقى.
هذا النوع من التحليل يؤكد على أنه ينبغي لنا النظر عن كثب إلى ما يظهره لنا النحت، وأن مجموعة المعارك الخرافية المصورة تحمل من المعنى ما يتجاوز مظهرها الخارجي. بيد أن هذا التحليل لا يعتمد على إصدار الأحكام بشأن «الجودة» الفنية للإفريز بوصفه «عملا فنيا»؛ فالأمر هنا ليس مسألة نجاح أسلوبي أو جمالي. فعلى أي حال، بينما تتفحص البقايا المهشمة التي أعاد تحليلنا بناءها ضمنيا إلى صورتها الأصلية (فنحن لم نتوقف كي نشير إلى أن نحت هرقل تنقصه ساق، أو أن غريمته الأمازونية فقدت رأسها حرفيا)، فمن المرجح أن تتساءل إلى أي مدى سوف «تحب» ما تراه أمامك أو «تعجب به».
الاحتفاء بالقديم: أحدث صيحة
دعونا نوضح على الفور أن رد الفعل حيال منظر تلك الألواح كان متضاربا للغاية «منذ اللحظة الأولى التي اكتشفت فيها». فأنت لن تتهم بالعمى أو الهمجية إذا وجدتها بغيضة أو فظة أو ذات نسب غريبة. على سبيل المثال، لم يجد فاوفل، وقت المزاد العظيم الخاص بالمنحوتات، أي غضاضة، فيما يبدو، في أن يعتبر الإفريز بمنزلة مشتريات من الدرجة الثانية، يصلح لأن يضيع البريطانيون أموالهم عليه. بل إن بعض البريطانيين أنفسهم كانوا متشككين في قيمة ما اشتروه. وبعد هذا بسنوات قليلة كتب إدوارد دودويل، وهو مسافر آخر ذهب بنفسه إلى موقع المعبد في باساي، يقول: «الأقدام أطول مما ينبغي، والسيقان قصيرة ومكتنزة، والأطراف سخيفة في تصميمها، وغير مثالية في تنفيذها.» وفي تعليقه على كتابات باوسانياس، اتفق فريزر مع هذا الحكم اتفاقا تاما؛ ذاكرا «العيوب الصارخة» في الصنعة، و«الأوضاع الجسمانية الفظة» للشخصيات. وقد شعر النقاد المعاصرون بالأمر عينه؛ فعلى سبيل المثال، يعلق دليل له ثقله عن الفن الإغريقي على «غرابة» الطراز و«التنفيذ الأخرق».
طالما قدمت أعذار لتبرير تلك الألواح الرديئة. وأكثر التعليقات شيوعا ورد على لسان الرسام بنجامين هايدون، الذي كتب وقت وصول المنحوتات إلى إنجلترا يقول: «وصلت الألواح الرخامية قادمة من فيجاليا، ورأيتها. ورغم أنها مليئة بعدم التناسب الفظ، فإنها مجمعة على نحو جميل، وكانت بكل تأكيد من تصميم عبقري عظيم، لكنها نفذت على نحو غير دقيق.» الفكرة الأساسية هنا هي أن هناك بصيصا من العبقرية الفنية نفسها التي ندركها في الأعمال العظيمة للفن الأثيني (روائع فيدياس في البارثينون مثلا)، لكن منحوتات معبد باساي تعرضت للحط بسبب الأصابع غير الخبيرة للعمال الأركاديين الخرقاء التي نحتتها. يزعم باوسانياس في فخر أن معبد باساي قد صمم بواسطة إكتينوس، المعماري الذي صمم البارثينون، بجلال قدره، وصمته بشأن الإفريز يسمح لنا بأن نلوم القرويين المحليين بسبب فشلهم في تنفيذ ذلك التصميم كما ينبغي.
كان هناك معجبون آخرون أقل ترددا بالإفريز، ومن بين هؤلاء كوكريل نفسه، وهو ما يعد مدعاة للدهشة. وهؤلاء يستفيضون في الحديث عن «طاقة» المنحوتات، من حيث عنفها المثير، والعرض الجريء الواضح لقسوة القتال البالغة. لكنهم أيضا يعترضون، عن حق، على حقيقة أننا نبتعد عن التصور الأصلي لهذا التصوير حين ننكفئ على دراسة الصور والرسومات الموجودة في الكتب، أو نمشي بالقرب من الألواح الموضوعة عند مستوى النظر في حجرتها بالمتحف. ألا ينبغي لنا أن نفكر بدلا من هذا في النطاق الداخلي المزدحم لقاعة أبوللو وفي الزاوية المائلة التي كان ينظر بها إلى الإفريز، الموضوع في مكان مرتفع فوق الزوار؟ ما الذي كان يمكن أن يكون أكثر ملاءمة، أو أشد وقعا على النفس، من تلك المنحوتات الواضحة التجسيم المزدحمة أعلى الزوار، بألوانها الصارخة وعراكها الصاخب، وتلك الظلال العميقة المتراقصة التي يسببها ضوء المشاعل الذي يخترق الظلمات؟
تتضمن دراسة التراث الكلاسيكي العديد من الأحكام المعقدة المشابهة. ومن الصحيح، حتى في وقتنا هذا، أن تعد الصفة «كلاسيكي» (عندما ينعت بها أي شيء، بداية من الروايات إلى السيارات) علامة على الاستحسان والإعجاب. لكن في الوقت عينه هناك الكثير من الجدل بشأن أفضل أعمال الفن أو الأدب الباقية من العالم القديم إلى اليوم؛ فهذه الأحكام تتأثر بشدة عادة بالتغيرات في الثقافة المعاصرة. على سبيل المثال، حين كان الفن التجريدي يحظى بشعبية خاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين، كان هناك ميل أيضا إلى تقدير المراحل الأولى من النحت الإغريقي، الخاص بالقرنين السابع والسادس قبل الميلاد، بأشكالها الضخمة ذات الأسلوب الخاص التي تتخذ شكلا تجريديا. وفي السنوات الأخيرة باتت العبقرية البارعة الوقحة لأوفيد موضع تقدير، رغم أن مواهبه كانت في وقت سابق موضع استنكار بسبب ما اتسمت به من عبث وتمرد وتركيز على الانغماس في الملذات. وأيضا الشعراء الملحميون الذين جاءوا بعد فرجيل - الذين كان يجري التغاضي عن أعمالهم بسبب تكلفها الحسي، الذي هو نتاج عصر فاسد - يحظون الآن بالقبول من جانب العديد من القراء، سواء من أجل شجبهم الحاد لأهوال الحرب الأهلية أو شجاعتهم السياسية المتمثلة في تصريحهم بآرائهم في ظل الحكم الأوتوقراطي القمعي للإمبراطورية الرومانية.
وكما يتضح لنا من خلال قضية معبد باساي، لا بد أن تتأثر أحكامنا أيضا بالكيفية التي لا نعيد بها فقط بناء الأشياء نفسها، وإنما أيضا سياقها الأصلي وكيفية تلقيها. فسوف نحكم على الإفريز على نحو مختلف لو أننا تدبرنا أولا كيف كان سيبدو وهو في المعبد، ثم نربطه بوظيفة المبنى وبعادات وقيم من بنوه، واستخدموه، وزاروه. والأمر عينه ينطبق على الأدب مثلما ينطبق على الفن؛ فالمسرحية الإغريقية تمثل نصا قرئ ودرس في العالم القديم، مثلما قرئ ودرس منذ عصر النهضة إلى وقتنا الحالي، لكن هذه كانت نصوصا كتبت ومثلت للمرة الأولى في السياق الخاص للمسرح الأثيني، وسوف نتدبر الدراما الإغريقية على نحو مختلف بمجرد أن ننظر إليها من هذا المنطلق. إن الأسئلة الفنية المتعلقة بالتاريخ وإعادة البناء لا تنفصل عن الأسئلة المتعلقة بالجودة والتقييم، مثلما لا تنفصل عن أذواقنا وتفضيلاتنا. تبقي دراسة التراث الكلاسيكي هذه الاعتبارات معا تحت عملية متواصلة من المراجعة والنقاش.
الفصل الثامن
أعظم عرض على الأرض
التحضر والهمجية
يبدأ كتاب مهم عن مسرحيات الكاتب المسرحي الأثيني سوفوكليس بوصف مثير للمشاعر لمعبد باساي جاء فيه:
في موضع مرتفع بجانب الجبل، وفي جزء منعزل وعر من أركاديا، ينتصب ضريح ناء لزيوس الذئب. يلمح أفلاطون إلى أسطورة مفادها أنه كان يجري التضحية بقرابين بشرية على نحو منتظم هناك، وأن الكاهن الذي يشارك في تناول اللحم البشري كان يتحول إلى ذئب. وعلى الجانب الآخر من الوادي بعيدا عن هذا المكان المقبض، في بقعة ذات جمال بري مقفر، في مكان يعرف باسم «الوادي الصغير المنعزل»، شيدت باساي، وهي مدينة إغريقية صغيرة، معبدا متقنا من أجل أكثر آلهتها تحضرا؛ أبوللو المغيث، أو المعين. ومع اقتراب الزوار من معبد باساي هذا قادمين من مدينة فيجاليا، مثلما فعل القدماء، فإنهم يواجهون بصراع بصري مذهل بين الحضارة والهمجية؛ فقبالة الزائر القديم كانت تنتصب الأعمدة وزخارف المدخل ذات الهندسة المنتظمة، وذلك أمام خلفية من قمم الجبال المتعرجة الممتدة على مرمى البصر. وهذا المعبد المنفرد غير المتوقع وجوده في هذه البقعة المقفرة، يبدو في عشوائيته مثالا للشكل الخالص والتصميم البشري، وكأنه جرة إغريقية أو إيقاعات جوقة مسرحية تراجيدية. لكن خلف المعبد مباشرة يبرز الجبل؛ حيث انتهكت طائفة بدائية مروعة أحد أوائل قوانين الحضارة البشرية كما عرفها الإغريق؛ تحريم أكل لحوم البشر (سي سيجال، التراجيديا والحضارة (1981)).
كما رأينا في الفصل الأخير، فإن هذا التجاور المتعارض للهمجية والصفاء يتواصل داخل المعبد؛ حيث يظهر الإفريز الجهد البطولي وسط الارتباك والانتهاك الهمجي، وذلك في تأكيد لطقوس الزواج والأدوار الجنسانية التي حددت الحياة الإغريقية المتحضرة ، بينما وقف التمثال الطائفي في ضريحه الداخلي المنعزل وهو يلمع في سكينة بفعل ضوء الشمس المشرقة، مانحا الغوث الهادئ لعباد أبوللو ولعموم البشر المعذبين. يمكن النظر إلى معبد باساي بوصفه يلخص الصراعات المتوارثة في التراجيديا الإغريقية - وليس في مسرحيات سوفوكليس وحدها - بين التناغم الكلاسيكي والعنف العدواني.
ظلت الصراعات والصدامات بين «الطبيعة» و«الثقافة» موضوعا قويا في الأعمال الحديثة المؤلفة عن العالم القديم، كما رأينا في الفصل السادس حين نظرنا إلى كتاب فريزر «الغصن الذهبي» وكتاباته عن باوسانياس، ووجدناه مركزا على بقايا الغرابة البرية الكامنة أسفل قشرة الحضارة الخارجية. وقد أمده هذا بمقياس ل «تقدم الحضارة» (إذا استعنا بعنوان المنحوتة الموجودة في الجمالون الذي يعلو مدخل المتحف البريطاني، على نحو مماثل لما في المعبد الكلاسيكي) علاوة على درس تحذيري ضد أي رضا عن الذات داخل المهمة الإمبريالية الهادفة لتحويل الرعايا الوثنيين عن تخلفهم البدائي في إطار مشروع تطور البشرية، الذي ساد في القرن التاسع عشر. فأسفل سطح الانتصارات الحضارية للعالم الكلاسيكي مباشرة لا يزال يوجد كل أنواع السمات «البدائية».
إن التعارض بين الطبيعة والثقافة يضرب في قلب دراسة التراث الكلاسيكي، وصولا إلى الموضع الذي عرف فيه ما هو «كلاسيكي» وتشكل تحديدا من القيد الخالص الهادئ الحليم الذي يفرضه أبوللو في أرجاء الكون، ويرى فيه الإغريق، تحديدا، بوصفهم منشئي أي إحساس بالاستحقاق يمكننا تبينه في تقاليدنا الغربية الحديثة التي ألهمتها الثقافة الكلاسيكية. في أعقاب الحرب العالمية الثانية طرح كتاب شهير من تأليف إي آر دودز، أستاذ اللغة اليونانية بأكسفورد في خمسينيات القرن العشرين، بعنوان «الإغريق واللامعقول»، فكرة مفادها أنه من غير المنطقي أن «نعزو إلى اليونانيين القدماء تحصنهم من كل أنماط التفكير «البدائية» التي لا نجدها في أي مجتمع متاحة لنا ملاحظته على نحو مباشر.» كان لكتابه تأثير بالغ؛ إذ بين لدارسي التراث الكلاسيكي كيف كان الفن والأدب الإغريقيان مليئين بصور الهمجية والجنون والنشوة الديونيسية. في نظر دودز لم يقتصر الأمر على بقايا البدائية التي تحدث عنها فريزر، والكامنة أسفل قشرة كلاسيكية ، بل كانت الثقافة الكلاسيكية نفسها تتألف جزئيا من مثل هذه العناصر البدائية.
واليوم ربما نكون أكثر ميلا إلى أن نرى في إفريز معبد باساي كيف كان انتصار هرقل على الأمازونيات غير حاسم، وإلى أي مدى كانت هزيمة القناطير على يد اللابيثيين مكلفة. وبدلا من التأكيد على أن «الإغريق لم يكونوا همجيين»، بتنا نرى الآن الصلات الوثيقة بين النقاش بشأن الوحشية البشرية وأهل عالمنا ومناقشات شبيهة داخل الثقافة القديمة. إن مواجهة أسوأ ما يمكن أن يتخيل البشر فعله بعضهم لبعض، وفعله لأنفسهم، هي أساس التراجيديات الإغريقية التي كتبت ومثلت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، والتي تعد من أكثر الأعمال الأدبية التي وصلتنا من العالم القديم تأثيرا ووقعا في النفس.
الجمهور
كانت مسرحيات سوفوكليس، ومسرحيات إسخيلوس ويوربيديس، من الكلاسيكيات بالفعل في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد منحت دورا قويا في المناهج التعليمية منذ ذلك الوقت فصاعدا، وذلك في مجتمعات تمتد من مقدونيا إلى مصر وسوريا وتركيا وصولا إلى تخوم الهند؛ مجتمعات كانت تعلم أبناءها كيف يكونون من «الإغريق». الأمر ينطبق أيضا على صفوة المجتمع الروماني، التي علمت أبناءها كيف يكونون «متحضرين» عن طريق التعرض لثمار الثقافة الإغريقية. وبهذا لعبت هذه المسرحيات التراجيدية دورا محوريا بوصفها مناقشات حية للأعراف والقيود التي على المجتمع البشري والفرد نفسه أن يقاتل من أجل الحفاظ عليها، وإلا فسيتمزق المجتمع إربا في خراب وفوضى دنسة. إن قوة النصوص، وجودة أفكارها، وقدرتها على توصيل الأهوال؛ كلها أمور تسيطر على الجمهور في أي مسرح، وهو ما تثبته المسرحيات الإغريقية التراجيدية الثلاث المعروضة وقت تأليف هذا الكتاب، بمسارح مكتظة بالجمهور في منطقة ويست إند غربي لندن. علاوة على ذلك، يمكن لأي فصل دراسي أن يؤكد صحة هذا، من خلال تمثيل أي نص أو ترجمة، وبأي فريق تمثيل.
إن المسرحيات التراجيدية مزيج غريب من العنف والنقاش المصاغ في إطناب على نحو أنيق. والقصص التي تعرضها هذه المسرحيات تتمحور حول الأفعال الشنيعة والكروب. على سبيل المثال، في مسرحيات سوفوكليس عن عائلة أوديب (أوديب ملكا، أوديب في كولون، أنتيجون)، يكتشف أوديب أنه رغم كل الجهود التي بذلها للهرب من اللعنة التي تطارده، فإنه قتل والده الحقيقي، وتزوج والدته، وأنجب منها أطفالا، ويكتشف أوديب في بحثه عمن تسبب في جلب الطاعون إلى مدينته، مدينة طيبة، أنه هو المجرم نفسه، فتقتل زوجته نفسها، ويفقأ أوديب عينيه، ويلعن أبناءه (إخوته)، الذين يهوون لاحقا بالمدينة في أتون الحرب الأهلية، ويقتل بعضهم بعضا في المعركة. وحتى وقتها، لا يزال هناك أفراد لعائلة أوديب يعانون ويموتون، من أجل - وعلى يد - بعضهم بعضا. وبينما تتلاقى خيوط كل حبكة قبل أن يحل الهول الوشيك على خشبة المسرح، تتفاوت أغنيات جوقة الراقصين والراقصات - أغنيات للفرح والخوف والثناء والتأسي - مع المواجهات التي تقع بين شخصيتين أو ثلاث من الشخصيات الرئيسية. هذه الشخصيات قد تلقي خطبا رسمية كي تعرض قضيتها، وتصنع فخاخا شريرة بتواضعها الزائف، أو تنخرط بعضها مع بعض في تراشق لفظي من سطر واحد. إن نطاق النبرات الخاص باللغة الشعرية واسع، وكل مسرحية تأخذ خطا خاصا بها، سواء التوصيل المستتر للمعنى المقصود أو السخرية من الذات أو حتى الرومانسية في بعض الأحيان.
ومع ذلك فنصوص المسرحيات التراجيدية، كما أوضحنا في نهاية الفصل السابق، هي نتاج للسياق المؤسسي الخاص في مدينة أثينا القديمة، ورغم كل ما تحمل من طاقة متجددة فإنه يجب استيعابها من هذا المنطلق. إن الصراع بين الطبيعة والثقافة داخل سيناريو الحبكات الدرامية أعيد إنتاجه في سيناريو عملية إنتاج وتمثيل هذه المسرحيات؛ فهذه المسرحيات التراجيدية أنتجت للمرة الأولى في الاحتفالات الخاصة بالإله ديونيسوس؛ الإله المراوغ لشرب الخمر والتحرر من القيود. لكن هنا، في التواريخ المحددة في التقويم الرسمي، أحضر ديونيسوس داخل حدود المدينة، كجزء من الحياة الاجتماعية المنظمة للمجتمع. بعبارة أخرى، كان المواطنون الأثينيون المجتمعون يجلسون ويشاهدون المسرحيات في مسرح ديونيسوس على هضبة الأكروبول تحت معبد البارثينون (انظر الخريطة رقم
3 ). وهنا كان إله التحرر، ابن زيوس النافذ القدرة من امرأة من طيبة، يسيطر على الإيهام بينما كانت طيبة، مدينة أوديب المأساوية والعدو التقليدي لأثينا، تمزق أمام أنظار الجمهور.
سلطة الجمهور
والأدهى من ذلك أن المشاهدين كانوا يرتادون المسرح وفق أسس تختلف كثيرا عن الأسس التي يحضر وفقها جمهورنا العروض الدرامية الحالية. كانت الدراما شيئا تتفرد به أثينا بوصفها مؤسسة محورية وجوهرية لتلك المدينة «الديمقراطية» في القرن الخامس قبل الميلاد. كانت الطقوس الدينية التقليدية الخاصة بالمواكب وتقديم القرابين وصلوات الكهنة تسبق عمل المسارح وتمهد له. وكان يلي ذلك سلسلة من العروض المختارة مسبقا، تعرض مسرحيات صممت وكتبت على نحو خاص من أجل الاحتفال، وكانت تمول إجباريا من طرف المواطنين الأثرياء بحيث يكون هذا التمويل إسهاما منهم للمدينة. كانت المناسبة كلها تأخذ شكل منافسة بين هذه العروض الدرامية على جائزة يمنحها فريق معين من المحكمين.
كان الجمهور يجلس في المسرح طوال اليوم، منذ طلوع الشمس، ويتوقع منهم أن يتدبروا العرض ويركزوا فيه، وذلك كجزء من دورهم بوصفهم مواطنين أثينيين. كانت الشخصيات النسائية في المسرحيات يمثلها ممثلون من الرجال؛ لذا من الأرجح أيضا أن الجمهور كان يتألف كله من الرجال. وعلى هذا، كان هؤلاء أيضا جزءا من المجلس الجماهيري الديمقراطي الذي كانت قراراته تحدد ما يفعله الأثينيون وما يؤيدون، وكان هؤلاء أيضا محلفي المحاكم الكبرى الذين يختارون بالاقتراع من بين جموع المواطنين. تضمنت الطقوس الأخرى التي كانت تسبق العروض تقديم أيتام الحرب الذين تربيهم المدينة على نفقتها، ومسيرة تعرض جزية الفضة التي حصلتها أثينا من حلفائها أو رعاياها ويتم تخزينها في الطرف الغربي للبارثينون. كان استعراض الدور الاستعماري لمدينة أثينا وأيديولوجيتها الجمعية أمام المواطنين يصبغ العروض بصبغة سياسية. كان الجنود والقضاة، المصوتون والآباء، كلهم يشاهدون شكل التمثيل الذي اختارته أثينا؛ ففي المسرحيات الدرامية، كانت المدينة كلها تشارك في العرض الدرامي.
عاشت المسرحيات عمرا تجاوز عمر الديمقراطية التي أنتجتها. وفي وقت مبكر يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد كانت هذه المسرحيات قد صارت من الكلاسيكيات بالفعل، تمثلها فرق مسرحية في أنحاء المدن الإغريقية المختلفة، في صقلية وجنوبي إيطاليا، علاوة على اليونان وشرقي البحر المتوسط ، وقد استثمرت هذه الفرق في مسارح فاخرة من الحجر، مبنية على الطراز الأثيني. في ذلك الوقت، كان استقلال هذه المدن مهددا من جانب مقدونيا من الشمال، من طرف فيليب المقدوني وابنه الإسكندر الأكبر. وحين كتب أرسطو (الفيلسوف الذي كان معلما للإسكندر في صغره) تحليله للتراجيديا، الذي ظل أهم قطعة من النقد الأدبي في الثقافة الغربية حتى القرن العشرين، كان يفكر في المسرحيات بوصفها تجريدا رسميا، منحيا جانبا تفاصيلها السياسية الخاصة، ومصنفا إياها كنوع أدبي ومسرحي. لقد رأى أرسطو عملية ديناميكية حية تدور بين خشبة المسرح والجمهور؛ عملية إنتاج الرعب والشفقة، الإعجاب والتعاطف. إن تقليله أهمية المنظومة الديمقراطية التي أنتجت المسرحيات التراجيدية مكن هذه المسرحيات من أن تظل موضع إعجاب، وأن تؤدى، منذ ذلك الوقت، في مجتمعات ذات تنظيم سياسي مختلف للغاية.
في الواقع، ظل تقدير الثقافة الأثينية الخاصة بالقرن الخامس قبل الميلاد - المسرحيات التراجيدية والبارثينون - يجاهد على نحو متواصل من أجل الانتقاص من أهمية ارتباط هذه الثقافة بالديمقراطية؛ وذلك لأن الديمقراطية لم تصبح مفهوما إيجابيا معتنقا على نطاق واسع إلا في أوقات حديثة للغاية. وقبل ذلك، كانت دراسة التراث الكلاسيكي تعكس رأي جوقة الأصوات القديمة التي كانت تحط من شأن الديمقراطية الأثينية بوصفها تجربة خطيرة في المسئولية الجمعية سارت على نحو خاطئ كارثي. إن الهزيمة شبه الإعجازية للفرس على يد القوات المتحدة لكبرى المدن اليونانية كانت على الدوام قصة مثيرة للمشاعر، ظلت حية بفضل السرد التاريخي لهيرودوت، ونظر إليها دائما بوصفها «مجد اليونان»، إلا أن سرد ثوسيديديس القوي لفشل الديمقراطية الأثينية في الفوز ب «الحرب البيلوبونيزية»، التي دامت لفترة أطول مما ينبغي، ضد أسبرطة وحلفائها؛ ندد بالانحدار الهش إلى حكم الغوغاء الذي اعتبره المنظرون السياسيون، لاحقا، مرضا متوطنا في أي نظام ديمقراطي. كان ثوسيديديس نفسه مثالا للفشل الأثيني (إذ نفي بسبب عدم كفاءته)، لكن التاريخ الذي وضعه انقلب على أثينا الديمقراطية ككل، متهما إياها بأنها في حقيقتها «مدينة طاغية»، تتغذى على الابتزاز ومسئولة عن مذابح بالجملة لأشقاء يونانيين، بل وإبادات جماعية إذا لزم الأمر. كما لاحظنا في الفصل الرابع، رأى ثوسيديديس أن الديمقراطية لا تعدو كونها مرضا وهذيانا جماهيريا عنيفا، من شأنه التسبب في مقتل معتنقيها بمجرد أن يتخلى قادتها عن أصول قيادة الدولة ويستجيبون للرغبات اللحظية للغوغاء. ومع ذلك، تجسد كتاباته هذا المزيج الأثيني من الذكاء المفتقر للاحترام والقدرة التحليلية الذي مكن المدينة من تنفيذ تجربتها الجريئة المتمثلة في تسليم السلطة للشعب.
اختراع الفلسفة
شهد الاستخدام المتقن للغة الإغريقية بغرض الفكر التحليلي والتنظير مزيدا من التقدم في القرن الرابع قبل الميلاد؛ فقد وظف الفلاسفة اللغة وطوروها في محاولاتهم لتناول النطاق الكامل للأسئلة الفلسفية، عن طبيعة الواقع والحقيقة والمجتمع والنفس البشرية والفناء والبلاغة والأخلاقيات، وأخيرا وليس آخرا السياسة. كان الخطاب الإغريقي عامة، والخطاب الفلسفي الإغريقي خاصة، ببساطة أكثر الأدوات المتاحة تطورا على امتداد عمر العالم القديم. وقد كان هذا الخطاب يحظى بالاحترام حتى من طرف الرومان، الذين اختزلوا العالم الإغريقي إلى مرتبة أقاليم في عالم إمبراطوريتهم الواسع، واستمر في إلهام الأعمال الفكرية حتى يومنا الحاضر؛ خاصة من القرن التاسع عشر فصاعدا. وبهذا الخطاب استطاع الإغريق مناقشة نظرة عالمية شاملة للثوابت والاختلافات داخل نطاق الخبرة البشرية.
قبل أرسطو، كان أفلاطون قد كتب أطروحات فلسفية على صورة مناقشات مسرحية (يطلق عليها عادة الآن اسم «المحاورات») يترأسها معلمه الروحي سقراط. كان أفلاطون يكتب في القرن الرابع قبل الميلاد، بعد سنوات عديدة على وفاة سقراط، لكن المحاورات كلها تدور في الأيام التي سبقت انهيار المجد الديمقراطي الكامل لأثينا القرن الخامس قبل الميلاد، وكلها كانت مبنية على «الاستشهاد» الحتمي لسقراط، الذي حكم عليه بالموت في عام 399 قبل الميلاد نظير تهم يقدمها أفلاطون بوصفها نوعية الغبن الذي يمكن توقعه بسبب حقد الديمقراطيين وانعدام مسئوليتهم. (صورت الأيام الأخيرة من حياة سقراط، ومن الحرب البيلوبونيزية، ومن الديمقراطية الأثينية الكاملة، باستخدام أفلاطون وغيره من المصادر، في رواية ماري رينو «آخر قطرات النبيذ».) تتعمق المناقشات دون هوادة في بحث تلك الأسئلة الأساسية والنهائية التي جعلتها الفلسفة الإغريقية من أسس الثقافة الغربية إلى يومنا هذا. وهي تحمل القارئ بعيدا عن خبرات الحياة اليومية، متخيلة وجود حقيقة نهائية مثالية في «واقعية» الأشكال، التي يسعنا وحسب أن نلمحها من خلف الظلال التي تؤلف عالمنا الدنيوي الذي نسكن فيه.
إن الإشارة إلى أفلاطون في الفقرة التي اقتبسناها في بداية هذا الفصل هي في الواقع إشارة إلى محاورته «الجمهورية». وهذه المحاورة الطويلة الممتدة على مدار عشرة كتب ترسم، في صورة محاولة لتعريف العدالة، مخططا تمهيديا لنظام سياسي مثالي يمكن فيه محو العيوب التي تشوه المجتمعات، التي يلخصها في نظر أفلاطون مقتل سقراط، من الوجود. فهو يهدف إلى إيجاد حالة ثابتة لا يمكن فيها أن تتسبب أي دعوة للتغيير الاجتماعي في حدوث اضطراب اجتماعي. يستحضر أفلاطون على لسان شخصية سقراط كلا من «زيوس الذئب» و«آكل لحوم البشر» في النقطة التي يصور، بسخريته المعهودة، ما يحدث حين توجد الجموع لأنفسها بطلا؛ ففي اللحظة التي يجد فيها هذا البطل أنه من الضروري أو الملائم التخلص من مواطن آخر، فإنه يتحول إلى ذئب، على الطراز الأركادي: آكل لحوم البشر الاجتماعي «السياسي» الذي يعرف الآن في العالم أجمع باسم «الطاغية».
ليس لدينا اليوم أي كتابات باقية لسقراط نفسه، ولا يمكننا أن نعرف مقدار الحجج التي وردت على لسان شخصيته في هذه المحاورات الذي يرجع إلى أفلاطون بشكل خالص، وما إذا كانت أي منها ترجع إلى شخصية سقراط الحقيقية. لكن سقراط الذي لا يكل، كما يرسمه أفلاطون، يصل دائما من خلال الرفض العنيد للتقاليد والوضع الراهن إلى رؤية أفضل، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال ديمقراطية أثينا، رغم كل رفضه للديمقراطية. ومن خلال سقراط وجو القرن الخامس قبل الميلاد الذي تدور فيه المحاورات، يحجم أفلاطون عن اتخاذ موقف مباشر من ظروف عصره في القرن الرابع قبل الميلاد. وهذا يحدث خليطا غير مستقر على نحو خطير من رد الفعل المتكتم المعادي للديمقراطية مع التفكير المصرح به والمعادي لكل ما هو متحفظ؛ ذلك الخليط الذي ألهم وأشعل غضب كل شخص تلقى تعليما إغريقيا أو كلاسيكيا؛ ومن ثم فإن أفلاطون يعد بلا شك أفضل «كاتب» من بين كل المفكرين الغربيين.
الدخول في عالم السياسة: الديمقراطي والجمهوري والديكتاتور والإمبراطور
لا يسعنا أن نتوقع أي نوع من البساطة في توجهات العالم الحديث حيال النظم السياسية والأيديولوجيات القديمة. لكن على وجه العموم، نجد أن المعارضة القائمة بين حزبين يحملان، مثلا، رايتي «الديمقراطيين» و«الجمهوريين»، تمثل استثمارا حديثا للغاية في نموذجين قديمين محددين؛ فمن ناحية، وكما رأينا، نجد الديمقراطية الأثينية، بكل ما تحمله - إذا شئت - من تطرف للغوغاء الأثينيين (ومصطلح الغوغاء نفسه بالإنجليزية
mob
مشتق من الكلمة اللاتينية
mobile uulgus ؛ ويعني «الحشد السريع الاهتياج»، وذلك وفقا لإنجليزية القرن الثامن عشر). وعلى الناحية المقابلة، نجد سياسة الجمهورية الرومانية، التي صارت صرخة حشد في التيار الثوري المناهض للحكومة الملكية التي ربطت فرنسا بتمرد العالم الجديد ضد التاج البريطاني؛ فقد كانت روما القديمة، لا اليونان، هي التي قدمت لرجال الدولة والمنظرين السياسيين من عصر النهضة وحتى القرن التاسع عشر أسلحتهم المفاهيمية الأساسية؛ إذ كانت اللاتينية على مدار تلك القرون الخمسة العملة المشتركة للغرب، ولغة مشتركة للحكم والقانون، ونواة للنقاط المرجعية المشتركة الموزعة في أرجاء المناهج التعليمية للتراث الكلاسيكي.
تاريخيا، شهد التاريخ الروماني أربع مراحل؛ إذ تدهورت الملكية الأصلية الأسطورية إلى حكم طاغ، وأزيح آخر الملوك، تاركوينيوس الفخور، على يد بروتوس المحرر بنهاية القرن السادس قبل الميلاد. بعد هذا جاءت مرحلة الجمهورية الحرة، التي امتدت لنحو أربعة قرون. كان الحكم وقتها نخبويا انتخب فيه أعضاء مجموعة محدودة من العائلات الثرية أو الأرستقراطية بواسطة مجلس المواطنين كمشرعين في مجالس تشريعية تمتد لعام واحد. كان هؤلاء يعملون تحت إشراف غرفة من المشرعين السابقين الذين شكلوا مجلسا استشاريا شديد الهرمية، أو مجلس الشيوخ (ومن هنا جاءت مقولة: «مجلس شيوخ روما وشعبها»). انهارت الجمهورية في القرن الأول الميلادي، في سلسلة من الحروب الأهلية المروعة بين القادة الكبار وجيوشهم، والتي تعد بمنزلة «الحرب العالمية الأولى» في تاريخ الغرب. ساعد يوليوس قيصر في تدنيس لقب «ديكتاتور » الذي كان محل إجلال فيما سبق (وكان يطلق على القائد الذي يقود روما في أي أزمة قصيرة المدى) وذلك عن طريق استخدام الاسم للتغطية على عدم شرعية الانقلاب الذي قام به. بيد أنه اغتيل سريعا على يد مجموعة من الشيوخ، بقيادة بروتوس آخر. كان «قتلة الطاغية» و«المحررون» هؤلاء يظنون أنهم ينقذون الجمهورية. لكن بعد حروب أخرى وقعت بين الساعد الأيمن لقيصر، ماركوس أنطونيوس، ووريثه بالتبني، أوكتافيوس، نجح الأخير في تأسيس الحكم الأوتوقراطي الذي نعرفه اليوم باسم «الإمبراطورية الرومانية»، وغير اسمه إلى القيصر أغسطس، وبنى مستقبلا من الأسر الحاكمة التي حكمت هذه «الدولة العالمية».
بيد أن أغسطس، بطبيعة الحال، لم «يخبر» روما بمصيرها؛ فقد أعلن عن استعادة الجمهورية، مع انتخابات ومجالس تشريعية سنوية، وسمى نفسه المواطن الأول، «الأول بين أنداد». وحين فرض تعاقب الأباطرة بعد أغسطس، كما رأى أهل روما، إمبراطورا ساديا، وآخر مجنونا، وآخر خرفا أبله، ثم آخر سيكوباتيا مجنونا، على إمبراطوريتهم؛ تحول تاريخ روما إلى سلسلة متصلة من الطغيان والقسوة الفاضحة. صك الشعار «عظمة روما» في قصيدة مريعة منسية كتبها إدجار آلان بو في شبابه بعنوان «إلى هيلين»، وذلك كنظير لشعار «مجد اليونان»:
عبر بحار يائسة اعتدت اجتيازها،
أحضرني شعرك الياقوتي، ووجهك الكلاسيكي،
ومظهرك الشبيه بحوريات البحار إلى منزلي،
إلى المجد الذي كانت اليونان عليه،
والعظمة التي كانت روما عليها.
يمكننا أن ندرج تحت هذا الشعار بقايا الآثار الباذخة التي أنفق عليها الأباطرة الكثير، مثل الكولوسيوم والبانثيون وعمود تراجان وما شابهها (انظر الخريطة رقم
4 )، لكن ما كان حقا موضع إعجاب في الثقافة الرومانية هو الجيل الأول من حكم أغسطس؛ فمن المعتقد أن هذا الجيل هو الذي شهد وقف الثورة، واستعادة السلم تحت سطوة حكومة قوية، وكتبت فيه الأعمال العظيمة للأدب الكلاسيكي (أغلب شعر فرجيل وهوراس، وتاريخ ليفيوس العظيم لروما)، وعملت فيه ملكية أبوية بالتناغم مع أرستقراطية متجددة وعامة ممتنون.
أغلب النخب الأوروبية، حتى نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، نظرت إلى «التسوية» الملكية/الرئاسية الأغسطية بوصفها «الموازنة» السياسية المثالية. لكن كانت هناك نماذج أخرى في روما، إما للاقتداء بها أو الاتعاظ منها. فالناس يقرءون كتابات تاسيتوس، مؤرخ الأباطرة العظيم، ويسعدون بإداناته الساخرة للأهوال التي ارتكبها كاليجولا الذي لا يتورع عن سفاح القربى، وميسالينا الشبقة، ونيرون المنحرف جنسيا، وهي مادة مناسبة للغاية كذلك لوسائل الترفيه الحديثة، سواء على المسرح أم في الحانات أو السينما. وهم يتخيلون أن يكونوا في موضع شيشرون، أعظم الخطباء المفوهين وكتاب النثر اللاتيني بالجمهورية، حين طغى الكابوس القيصري على عالمه، وقطع رأسه ويده التي يكتب بها بواسطة جنود أنطونيوس وسمرتا في المجلس الذي اعتاد فيه توجيه العديد من الإهانات له.
ومن هذا المنطلق أعلن الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون أن تاسيتوس هو «أول كاتب في العالم بلا استثناء ... وأقوى كاتب في العالم.» وعلى غرار الثوار الفرنسيين، نظر الآباء المؤسسون الأمريكيون إلى الماضي، بمعاونة كتابات ليفيوس، بعيدا عن الملكية (مهما حاول أغسطس إخفاءها)، إلى أبطال الجمهورية الرومانية الأوائل؛ فجورج واشنطن، على سبيل المثال، أقر بأنه يسير على نهج سينسيناتوس، الذي اشتهر بكونه استدعي من عمله كمزارع كي يصير مستشارا (كبير المشرعين) للجمهورية، وبعد أن أنقذ الدولة عاد مباشرة إلى مزرعته المتواضعة دون أن يفكر مطلقا في التمسك بالسلطة ... إن التراث الكلاسيكي شهد بالنماذج الكلاسيكية وهي تزدهر وتسقط، وتخضع للمراجعة والتنقيح على نحو متواصل، وتخضع للجدال؛ إما في حد ذاتها وإما بسبب ما كانت تعنيه.
بمقدور جيفرسون أن يعبر عن النظرة التي ظلت سائدة منذ أيامه حين يقول: «إن الأحزاب السياسية عينها التي تربك الولايات المتحدة ظلت موجودة طوال الوقت. فمسألة ما إن كان ينبغي أن تكون السلطة للشعب أم للأرستقراطيين أبقت دولتي اليونان وروما في اضطراب أبدي، تماما مثلما تشغل الآن كل من عقولهم وأفواههم مغلقة بسبب قهر الطواغيت.» لكن تدبر هنا أن التعبير «سلطة الشعب» هو ترجمة قريبة إما لكلمة «ديمقراطية» الأثينية، أو «الملكية العامة» الرومانية. ربما ظهرت «الديمقراطية» الآن بوصفها المثل المؤكد لكل دولة، بيد أن التعبير عن السياسة الحديثة من منظور النماذج الكلاسيكية ولد قراءات متناقضة بشكل عريض للعالم القديم، علاوة على استغلالات متناقضة بشكل عريض لمجتمعنا العالمي. وهذه القراءات تتراوح من «الشيوخ» الموجودين في مبنى الكابيتول في واشنطن (المسمى على اسم الهضبة الرئيسة في روما)، إلى المذهب الجمهوري للماركسية، وفاشية موسوليني في إيطاليا؛ حيث نودي باستعادة أغسطية «للشعب الإمبراطوري». جاء مصطلح الفاشية من كلمة
fasces ، بمعنى حزمة القضبان المربوطة على فأس، وهي رمز للسلطة المخولة لمجلس الجمهورية الرومانية، والتي بمقتضاها يمكن جلد المواطنين غير المطيعين وقطع رءوسهم. وقد اتخذ جيفرسون هو الآخر من شارة الضبط الصارم هذه عينها رمزا لولاية فيرجينيا التي جاء هو وواشنطن منها.
فقدت روما الإمبراطورية على نحو مطرد جاذبيتها بوصفها مثلا يحتذى، وذلك لصالح (نسخة منقحة للغاية من) الديمقراطية الأثينية، لكن في خلال هذه العملية صارت أوجه الشبه بين الثقافة الإمبراطورية لروما وبين ظروفنا تحمل أهمية قصوى. فشأنها شأن أثينا، بنت الجمهورية الرومانية بالفعل مسرحها الخاص بها، لكن لم يجرؤ الرومان قط على الإقدام على الشكل التنافسي، وكثيرا ما عدلوا النصوص الإغريقية بدلا من أن يكتبوا مباشرة عن ثقافتهم. كانت المشاهد المميزة لهم هي مشاهد «النصر»، التي فيها يستعرض القادة المنتصرون أسراهم وغنائمهم وقواتهم في أرجاء المدينة وصولا إلى هضبة الكابيتولين كي يقدموا شكرهم إلى الإله جوبيتر «الأفضل والأعظم»، إضافة إلى ذلك كانت هناك المشاهد المبهرة الطاغية لمباريات المجالدين. كل شخص يعرف هذا النوع من المشاهد، الذي استخدمته روما كي تستعرض نفسها أمام نفسها؛ إذ صار «المجالدون» محل تركيز الانجذاب الشعبي للعالم القديم وكذلك، في استنساخ رديء (إذ لا يموت أي من المتقاتلين)، اسما لبرنامج ألعاب شهير يبثه التليفزيون الأمريكي في أرجاء العالم. لكن المجالدين الرومان كانوا هم أيضا شكلا رديئا من أشكال الترفيه، رياضيين أبطالا يؤدون تمثيلية حربية، ويذبحون بغرض إمتاع الجماهير في عطلة رومانية. هل هذا هو المصير الذي ينتظر أي عالم ما بعد إمبراطوري؟ الترفيه حتى الموت؟
إن هاجس التعرف على الذات في روما الإمبراطورية يوفر لنا - مثلما وفر من قبل للمفكرين والشعراء الرومان - مادة خصبة للتفكير والنقاش. واليوم قد ننجذب بشكل خاص إلى التضارب الصارخ بين مسرح أثينا المدني الصريح وديمقراطيتها المباشرة من ناحية، وبين إسكات النقاش وقمع الصوت البشري في الاستعراضات والمشاهد المسرحية الرومانية من ناحية أخرى. فعوضا عن التصويت، عملت جولة سنوية من «الخبز وأعمال السيرك» على صرف العامة عن القضايا والنقاشات والقرارات. في الفصل التالي لن نتدبر العالم البديل الذي نسجه أفلاطون على لسان شخصية سقراط، وإنما «مكانا آخر» أركاديا، جرى تخيله للمرة الأولى في الأيام الأولى لارتقاء أغسطس سدة الحكم. وعلى مدار تاريخ التراث الكلاسيكي منحنا هذا مكانا واعدا للتفكير والمشاهدة والاستماع، مكانا أهدأ من أي مسرح أثيني، وبالتأكيد أقل قسوة من أي ساحة قتال رومانية حضرية.
يقول المثل الشهير: «كل الطرق تؤدي إلى روما»، لكن روما أيضا هي المكان الذي تبدأ منه زيارة اليونان، فمن روما يشتاق العقل إلى السفر، بعيدا نحو تلك البقعة النائية من النظام الثقافي وسط الطبيعة البرية، «في موضع مرتفع بجانب الجبل، وفي جزء منعزل وعر من أركاديا ...» تقطع دراسة التراث الكلاسيكي هذا الطريق بلا توقف، في تدبر وتساؤل: أي العروض هو العرض الأعظم على سطح الأرض؟
الفصل التاسع
تخيل هذا
الابتعاد عن كل شيء
كانت باساي عند الحد الأقصى من حدود أركاديا، وهي منطقة جبلية في جنوب اليونان. كانت أركاديا قريبة من مدن اشتهرت في أرجاء العالم القديم؛ فإلى الجنوب كانت هناك أسبرطة، الأشبه بمعسكر حربي مسلح أكثر منها بمدينة، وكانت مدينة «أسبرطية» الطابع على النحو الذي نستخدم به الكلمة في وقتنا الحالي؛ وإلى الغرب كانت تقع أوليمبيا، وبها معبد زيوس العظيم الذي كانت تقام فيه كل أربعة أعوام أروع احتفالات الرياضيين في عموم اليونان، وتلك الاحتفالات هي سلف الألعاب الأوليمبية الحديثة؛ وإلى الشمال والشرق كانت هناك مدينتا أرجوس وكورنث المزدحمتان؛ وإذا ابتعدنا قليلا كانت هناك أثينا. إلا أن الإغريق كانوا يرون في أركاديا منطقة برية تحكمها الطبيعة، موطن الإله بان، الإله الذي نصفه إنسان ونصفه ماعز. وقد ورد في الأساطير الإغريقية أن بان من شأنه أن يعتدي جنسيا على أي كائن يطوله؛ فتاة كان أو حورية أو حيوانا. وقد صوره الفنانون الإغريق مصاحبا لأتباع ديونيسوس المنتشين في احتفالاتهم.
يخبرنا المؤرخ هيرودوت، الذي أرخ لانتصار أثينا الضعيفة في صدامها مع الفرس الأقوياء، كيف أن الأثينيين أرسلوا عداء إلى الأسبرطيين كي يطلبوا منهم العون في صد غزو جحافل الفرس. قابل هذا العداء بان مصادفة وهو في طريقه عبر أركاديا. ورغم أن الأسبرطيين لم ينجحوا في إرسال المساعدة في الوقت المناسب، فإن بان ساعد الأثينيين، الذين «أرعبوا» العدو حتى الهزيمة. وفي المقابل أقيم لبان ضريح مقدس أسفل هضبة الأكروبول في أثينا، وفي كل عام تقدم القرابين ويعقد سباق لحمل الشعلة تكريما للمساعدة التي قدمها.
أضافت نسخة لاحقة من القصة أن العداء نفسه جرى من ساحة المعركة في ماراثون كي يجلب أنباء النصر على الفرس، وبعد أن ألقى ما في جعبته من أنباء توفي من الإرهاق. وإلى اليوم لا يزال سباق الماراثون في الألعاب الأوليمبية يحتفي بهذا العمل البطولي، وإن لم يكن من المفترض أن يكلف العدائين أرواحهم.
أيضا ساعد اختراع بان للأداة الموسيقية المعروفة باسم «أنابيب بان» في تمييز أركاديا بوصفها موطنا للموسيقى والغناء. إن بوليبيوس الذي كتب (كما رأينا في الفصل الرابع) سردا باليونانية، من أجل اليونانيين، للغزو الروماني السريع للعالم، كان نفسه من أهل أركاديا؛ حيث ولد في المدينة الكبيرة. وهو يخبرنا أن الأرض كانت قاحلة جرداء لدرجة أن الغناء كان كل ما يخفف عن أهلها تلك الحياة التي لا تحتمل.
لكن في روما سيطرت أفكار أخرى عن أركاديا. فقبل أن يكتب فرجيل ملحمته «الإنياذة»، كان قد أنتج مجموعة من القصائد «الرعوية» (المعروفة باسم «المختارات»). تستحضر هذه القصائد عالما خارج العالم التاريخي للمدن والسياسة والحرب، مكانا يجلس فيه الرعاة، مثلما جلسوا دوما، دون أي منغصات أسفل الأشجار الظليلة التي تمنحهم المأوى من شمس منتصف النهار، يتبادلون الأغنيات أو ينعون حظهم العاثر في الحب. في تلك الأثناء ترتاح حيواناتهم أو تشرب الماء في حرارة النهار. تلك البيئة الشاعرية يطلق عليها «أركاديا».
في تلك الصورة الإيطالية لأركاديا، أوجد فرجيل «مكانا آخر» خاصا، يمكن فيه للخيال أن يفر من الزمن الدنيوي وأن ينسجم مع مشهد الغناء الأصلي. لقد صار هذا مكانا يستطيع العقل فيه أن يهيم، وقد عاد إليه الشعراء والموسيقيون منذ ذلك الوقت، معيدين تخيل هذا المجتمع الذي يعني فيه الغناء أكثر من المكانة والممتلكات. لكن في الوقت عينه، صور فرجيل هذا العالم الشاعري الرعوي بوصفه مجتمعا مهددا بالفعل من جانب التبعات الكارثية للصراع على السلطة في المجتمع «الحقيقي»؛ فالمدينة وحروبها تلقيان ظلالا كثيفة على حياة وأغنيات هؤلاء الرعاة والمزارعين. يواجه بعض هؤلاء الطرد والنفي التعسفي، فيما يكافأ آخرون، على نحو عشوائي تماما، أو يعفى عنهم. وفي كلتا الحالتين تكون تلك نتائج القرارات المفروضة من روما، بيد أنها تتجاوز كثيرا فهم المغنين الأركاديين. تتضمن رؤية فرجيل كلا من براءة الغناء والاعتداء المهدد لقوات ضخمة عازمة على تدمير طبيعة أركاديا الرقيقة الهشة. يمنحنا الشاعر لويس ماكنيس شيئا من هذه النكهة المرة/الحلوة حين يبدأ قصيدته «مختارات لعيد الميلاد» ببيت يقول فيه: «أقابلك في زمن شرير»، ثم يأتي الرد مباشرة: «الأجراس الشريرة؛ أخرجت من رءوسنا، كما أرى، التفكير في أي شيء آخر.»
الجنس والإحساس
يعد بان ورحلات صيده «الأركادية» أيضا موضوع قصيدة غنائية شهيرة كتبها صديق فرجيل، هوراس، لكن الأسطورة تحمل نكهة مختلفة للغاية في هذا القالب الغنائي. تخاطب القصيدة تيندريس، واحدة من سلسلة النساء اللاتي يثرن الرغبة لدى الشاعر. يخبرها الشاعر الراغب في إغوائها أن بان (هنا يحمل اسمه الروماني فاونوس) يثب من جبال أركاديا مباشرة كي يحمي مزرعته الرعوية في التلال الإيطالية، خارج روما مباشرة. يدعوها الشاعر إلى مزرعته، ويقدم لها أفكارا عن حماية بان وعن آلته الموسيقية العذبة التي يتردد صداها بين الوديان، ويعدها كذلك بكل ثروات الريف، وأن يمنحها أذنا مصغية لغنائها، وكئوسا بريئة من النبيذ في الظل: هنا لا حاجة بها إلى القلق، فلن يختطفها محب غيور ويمزق ملابسها وينتزعها، وهي التي لا تستحق مثل هذه المعاملة ...
إن تطمينات الشاعر مبالغ فيها؛ إذ تلمح كلماته بمواربة أقل إلى أن هناك ثمنا لقاء قبولها حماية هوراس. فمثلما لا يمكن أن تأمن حورية على نفسها من بان، لا يمكن لأي أنثى بشرية أن تأمن على نفسها من ال «بان» الرابض في كل ذكر بشري. بعبارة أخرى، إن هوراس يطلب من تيندريس أن تقبل محاولاته للتقرب منها قبل أن يتحول (كما سيفعل هو، أو كما سيفعل بان) إلى الرعب والعنف والاغتصاب. إن العالم المتخيل هنا لأركاديا لا يقل عن كونه صورة خيالية عن الإغواء، إغواء تخيلي. لقد صار هذا العالم الأسطوري فيما وراء المدينة ملعبا لأحلام اليقظة الذكورية؛ حيث تهدد الطبيعة بإطلاق العنان للرغبات الأساسية. ويمكنك أن تجد نسخة «أنثوية» حديثة لهذه الصورة في قصة رحلات فيونا بيتكيثلي إلى اليونان؛ حيث يأخذها سعيها خلف ما تسميه «مبدأ بان» إلى جميع أرجاء أركاديا بان. إن «المنظر الرومانسي» لباساي يغويها، نهارا وليلا، إلى هذا «المعبد المهيب [الذي] سر قلوب أجيال من العشاق.»
إن دراسة التراث الكلاسيكي معنية ببحث المشاعر الشهوانية المجسدة في النصوص والفنون القديمة، سواء كانت مصاغة (كما في هذه القصيدة الغنائية) في صورة شعر بديع، أو مدهونة في رسمة جدارية غير متقنة أو مرسومة على قدر رخيصة. وفي قصص وخيالات العالم القديم نصادف كل أشكال التنويعات في العلاقة بين الجنسين، وبين أفراد الجنس عينه؛ فالأمر لا يقتصر على اللقاءات الشهوانية بين الرجال والنساء اللاتي تحت طلبهم؛ فعلى مر القرون استكشفت رغبات جنسية مكبوتة وغير تقليدية (ووجدت سوابق لها) تحت جناح دراسة التراث الكلاسيكي. وقد قدمت الكتابات والفنون الكلاسيكية الفرصة لنا كي نتدبر السحاق الذي مارسته النساء على جزيرة لسبوس الإغريقية، وكانت الشاعرة صافو هي السبب في شهرته، أو نرتجف أمام الجمال السالب للألباب للثنائية الجنسية الشبقة لأي خنثى، أو نقشعر من كهنة الإلهة كوبيلي، الذين كانوا يجبرون على بتر أعضائهم التناسلية كي يخدموا ربتهم بشكل أفضل. على النقيض، كانت العفة والتبتل وحماية عذرية الابنة أمورا راسخة بثبات في الأعراف الأخلاقية للعالم القديم، مثلما هي في أشد أعراف المتزمتين صرامة.
إذن تفعل دراسة التراث الكلاسيكي ما هو أكثر من إثراء المخزون الخيالي لتراثنا الثقافي؛ فهي تقدم نسقا من سوابق السلوك الشخصي، وهي «مخالفة» لتلك النسق الموجودة في خبراتنا الفعلية إلى درجة تتحدى فهمنا، وإن كانت في الوقت ذاته «مشابهة» لخبراتنا بحيث تستثير أعصابنا وتقض معتقداتنا اليقينية. إن قراءة أشعار صافو، بما فيه من احتفاء بالحب بين النساء، يعني لا محالة التشكك في «أعراف» السلوك الجنسي، القديم والحديث. وحتى أساطير «أركاديا» الرعوية لا بد وأن تحثنا على مواجهة ما نتبعه من أساليب للإغراء والاغتصاب والعنف الجنسي.
مضت الصور الأخرى لأركاديا في اتجاهات مختلفة. إن أحد مواضع مجد نهضة الحضارة الكلاسيكية كانت أركاديا القرن السادس عشر، التي صورها الشاعر الإيطالي ياكوبو سانازارو. لقد بلغت شهرته كل بلاط ملكي في أوروبا بفضل توليفته التي لا تقدر بثمن التي مست رعاة الغنم وراعياته الكامنين في خيال كل دوق وأميرة. هذه الأركاديا، بحورياتها المحببة ورعاتها الشباب الجذابين، تجسد المتاعب الملتاعة للمدعو سينشيرو، وهو شاب منفي من مكانته العالية المستحقة في الحياة، ويتنهد في نغمات عذبة. هذا الحبيب التعيس، الآسر الذي تصلح شخصيته للتجسيد في الأوبرا، يحول نفسه إلى دور أورفيوس آخر، الموسيقي الأسطوري الذي بعد أن فقد محبوبته يوريديس، كان بمقدوره أن يجعل الأشجار ترقص والصخور تسمع. هنا يستطيع قراء سانازارو أن يجدوا تعبيرا بلاغيا مصقولا عن الحب، حديثا عذبا عن السلوى، وأرضا تقدر الشعر فوق كل شيء. كان ذلك مكانا ملائما كي يضمر فيه الحب.
من بين ردود الفعل المباشرة لهذه الرؤية تحديدا لأركاديا، كانت «قصائد» البطل الإليزابيثي الإنجليزي، سير فيليب سيدني. إن أركاديا التي يصورها، وهي مكان طبيعي خيالي حطمه الألم والحزن والفقد بالفعل، تعود إلى المخاوف التي تحف قصائد فرجيل. إنها جنة تعرف أنها مهجورة ومنهوبة بالفعل، تعرف أن الموسيقى «تفشل» في أن تنقذ الكون، تعرف أن «أركاديا» كابوس مثلما هي قصيدة رعوية؛ عاجزة تماما عن أن تنقذ نفسها من جنونها . يقدم لنا سيدني أركاديا مليئة بالمشاعر والطاقة، تنحي التفصيلات الجميلة التي رسمها سانازارو في رؤيته الساحرة جانبا مرة أخرى.
هنا، وكذلك في مرات عدة قبل ذلك الوقت وبعده، وجد فنانون مبدعون رؤيتهم في كتابات العالم الكلاسيكي، وخلال هذه العملية، أكد هؤلاء على جوانب مختلفة من «الأصل»، وقدموا تأكيدات جديدة ودمغوا النتيجة بهويتهم الخاصة. إن كلا من سانازارو وسيدني، بعبارة أخرى، يعتمدان على فرجيل ويحاكيانه، وفي الوقت عينه يخلقان شيئا هو في حد ذاته «أصيل»، مختلف، وينتمي لهما على نحو مميز. لكنهما أيضا يقدمان شيئا جديدا لفهمنا للكتابة الكلاسيكية التي اتخذا منها إلهاما لهما. فكل قراءة و«محاكاة» جديدة تستثمر نص فرجيل بأهمية متجددة، أهمية كانت موجودة طوال الوقت، لا شك في هذا، لكنها ظلت مستعصية على الإدراك إلى أن جعلتها عين فنان آخر مرئية أمام أعيننا. بتعبير آخر، يحثنا سانازارو وسيدني على أن نرى الاحتمالات ونسمع الأصداء في كتابة فرجيل التي من شأنها أن تضيع دونهما.
هذا إذن سبب آخر يجعل من المستحيل أن نجعل من التراث الكلاسيكي موضوعا بعيدا يختص بالماضي، يبعد عنا بألفي عام؛ فالتراث الكلاسيكي يجد دوما شكلا جديدا في أعماله الفنية والأدبية - فتتغير معانيه وتتجدد - من واقع ردود الفعل وعمليات إعادة الدراسة المتعددة التي يقوم بها جمهور قرائه العريض عبر آلاف السنين.
قصة القوة الخارقة
من قبيل المفارقة أن قصائد فرجيل المبكرة عن أركاديا لم تكن لتحظى بتلك المكانة الكلاسيكية في روما لو لم يكن مؤلفها قد عاش ليكتب بعدها الملحمة الوطنية العظيمة؛ ففي عمله الرائد «الإنياذة»، خاطب فرجيل العالم الروماني للإمبراطور الأول أغسطس، الذي حكم بين عامي 31 قبل الميلاد حتى وفاته عام 14 ميلادية (وحينها على الفور أعلن مجلس الشيوخ أنه في مصاف الآلهة). لقد كان عالما في خضم حراك سياسي ثوري، خرج للتو من سنوات من الحرب الأهلية وكان يعتاد بالكاد على فكرة أن نظامه الجمهوري التقليدي للحكم انهار بشكل جلي، وأن مستقبل روما كان مع الأوتوقراطية الإمبراطورية. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا لم تكن السلطة الفاعلة ستستقر في أيدي نواب الدولة المنتخبين، أو العائلات الأرستقراطية الكبيرة التي تقاسمت السيطرة على الدولة منذ أبد الآبدين فيما بينها، وإنما سيكون في حوزة إمبراطور واحد، وسلالته الحاكمة.
يتحدث فرجيل إلى عالمه عن طريق إعادة حكي قصة معروفة تماما ترجع وفقها أصول مدينة روما إلى الميثولوجيا الإغريقية، وفيها يؤدي هروب قلة من الطرواديين، عبر سلسلة من المغامرات والكوارث في البر والبحر، إلى تأسيس مدينة روما. في قصيدة فرجيل كل المغامرات والانتصارات والكوارث التاريخية اللاحقة التي مرت ب «المدينة الخالدة» على مدار القرون يبشر بها في سرد الرحلة من طروادة إلى روما، وفي الصراع من أجل تأسيس المدينة. وعلى وجه الخصوص، ترسم القصيدة شكل البطل المؤسس للمدينة، إنياس، بوصفه سلف الإمبراطور أغسطس والنموذج الذي احتذاه.
إن إنياس إذن يقع في قلب أسطورة عظمى عن المدن والسياسات والحرب التي حاول شعر فرجيل تحديدا ألا يتحدث عنها. وحين يحضر فرجيل إنياس، الذي رسا في إيطاليا، إلى الموقع المستقبلي لروما، فإنه يجعله يصل في الذكرى السنوية لزائر آخر؛ هرقل، الذي تخلص بطريقته المعهودة من وحش محلي وأسس مزارا (يطلق عليه «المذبح الأعظم»)، تقام فيه الطقوس إلى الأبد. كان معاصرو فرجيل يعلمون أن أغسطس نفسه عاد إلى روما في هذا اليوم تحديدا، كي يحتفل بانتصاره الحاسم، وبهزيمة ماركوس أنطونيوس (إلى جانب كليوباترا، الملكة المصرية)، الذي منح أغسطس السيطرة على العالم الروماني بأسره. وبهذه الطريقة يجمع فرجيل بين هرقل وإنياس وأغسطس، ويخلق الرؤية الكلاسيكية عن السلطة والقيادة في روما.
ومع ذلك، حتى في «الإنياذة» يشدد فرجيل على فكرة أن أركاديا لا يزال لها دور تلعبه في تصور روما. يتم الترحيب بإنياس ويمنح جولة رفقة مرشد عبر التلال السبعة التي ستشيد بها روما على يد الملك إيفاندر، الذي استقر على الموقع المستقبلي لروما بعد أن فر من بلده الأم؛ أركاديا. بعبارة أخرى، في أصول «المدينة الخالدة» ذاتها لن تجد فقط الدم الطروادي، ولكن ستجد أيضا مهاجرين من أركاديا نفسها ضربوا جذروهم بالفعل في المنطقة. هذه هي «أركاديا» التي ستوجد دائما «في قلب» روما. فرغم كل القوة العسكرية المترسخة داخل إنياس وأحفاده، ورغم كل الظروف القاهرة التي جعلت الرومان دائما يحاربون متى لزم الأمر، فإن جزءا من هذه الظروف القاهرة (كما يقول فرجيل ضمنا) هو حماية البراءة «الأركادية» الهشة للأحباب داخل المنزل والوطن، المدينة والمواطنين؛ أي «أركاديا التي في داخلنا».
حفزت أسطورة فرجيل عن تأسيس روما كل أنواع ردود الفعل. احتفى الفاشيون، بقيادة موسوليني، بأفكاره في دعايتهم السياسية، بينما صورت رواية هيرمان بوش العظيمة المناهضة للنازية، «موت فرجيل»، فرجيل نادما على محاولته كتابة القصيدة، وفي حسرة الندم يخشى فرجيل أن تكون قصيدته قد خدمت وحسب القمع الأوتوقراطي ويتمنى لو أحرقت رائعته. يشعر فرجيل أيضا أن العالم في نقطة تحول محورية، وأن عمله لن يفعل شيئا سوى إخفائها. كما ذكرنا في الفصل السادس، كان فرجيل في نظر دانتي يتمتع بروح «مسيحية طبيعية». والقراء مكلفون بتحويل هذا الإحساس بنقطة التحول في تاريخ العالم بوصفه نبوءة للمسيحية، التي وصلت بعد وفاة فرجيل بأكثر من جيل في عام 19 قبل الميلاد. بعبارة أخرى، كانت المسيحية موجودة في مركز عالم وثني لم يستطع تقدير بداية الثورة التي ستطيح في نهاية المطاف بالإمبراطورية الرومانية، وتمنح الغرب الإطار الزمني الذي يستخدمه للحديث عن الأحداث على صورة قبل وبعد؛ أي قبل الميلاد وبعد الميلاد. وعلينا ألا ننسى أن المسيح هو أبرز منتسب إلى الإمبراطورية الرومانية على الإطلاق.
متعة لكل أفراد العائلة
شكل 9-1: بن هور على خشبة المسرح: ملصق «إنتاج كلاو وإرلانجر الضخم» (1901).
وجدت الروايات والأفلام السينمائية الحديثة في مولد المسيح أحد أكبر المحفزات لسبر أغوار العالم الروماني؛ فالصراع بين الوثنية الرومانية وبين المسيحية هو أمر محوري في الصور الشعبية الواسعة النطاق للتراث الكلاسيكي. ويعد الفيلم الملحمي الذي حقق نجاحا عريضا «بن هور» (وأكثر نسخه شهرة هي النسخة التي قام ببطولتها تشارلتون هيستون عام 1959، بما فيها من سباق عربات قاتل) مثالا جيدا على سلطة هذا الموضوع واستمراريته (انظر الشكل
9-1 ). بدأ الموضوع على صورة رواية نشرت عام 1880، وكان عنوانها الفرعي «حكاية المسيح»، والتي روت قصة المسيح بالأساس من خلال عيني يهودي يدعى يهودا بن هور، الذي يعتنق المسيحية في نهاية المطاف. لكن مع مرور الرواية بالعديد من التعديلات كي تلائم العرض على خشبة المسرح وشاشة السينما (كانت هناك نسخة أخرى من الفيلم سابقة على نسخة تشارلتون هيستون الرائعة) صار يتم تقديمها على نحو متزايد بوصفها قصة للصدام بين السلطة الدنيوية للدولة الرومانية والمتمردين من المسيحيين الجدد، الذين ينشرون «تحريضهم» انطلاقا من منطقة يهودا النائية وصولا إلى المراكز العظمى للإمبراطورية. كان سيناريو محركا للمشاعر، يستطيع من خلاله الجمهور أن يجد تعبيرا رمزيا عن السلطة في العالم الحديث، إضافة إلى ذلك - بحلول عام 1959 - يجد مشاهد ملحمية ضخمة، تبرز من خلالها الجوانب المثيرة للحضارة - الشبيهة بشكل مهدد لجوانب حضارتنا ومع ذلك مختلفة عنها اختلافا كبيرا - على نحو منذر بالخطر من بين سباقات العربات الحربية والإعدامات السادية، وحفلات المجون المذهلة، والصراع الدموي بين المجالدين، وأفعال التنسك المتواضعة، وأفعال الاضطهاد المرعبة.
إذن يمكن أن يصلح التراث الكلاسيكي كوسيلة نفكر من خلالها، ويمكن أيضا أن يكون مصدرا للمتعة؛ فمرارا وتكرارا، استكشفت وسائل الترفيه الهادفة للتثقيف أو التسلية الثقافة الإغريقية والرومانية كي تجد توجيها لعالمنا أو من أجل التخيل. على سبيل المثال، نجد أن روايتي ماري رينو «الملك يجب أن يموت» و«ثور البحر» تخلقان في كريت الخرافية في عالم ما قبل التاريخ - قبل حقبة اليونان الكلاسيكية بوقت طويل - «عالما آخر» غريبا، يمكن أن يوجد فيه مجتمع متحرر من المحظورات (خاصة الجنسية). أيضا أحضرت التجسيدات المتعددة لكليوباترا - على الورق أو على خشبة المسرح أو في الأفلام السينمائية، بداية من كلوديت كولبيرت إلى إليزابيث تايلور - إلى الغرب الأوروبي سلسلة قوية التأثير من الرؤى المتعلقة بإغواءات الشرق وفساده، إضافة إلى الصيغة التي لا تقاوم التي تضمن أن سيطرة كليوباترا على ماركوس أنطونيوس الواقع في حبها تنتهي دائما بوفاتها؛ إذ تنتهي القصة دوما باستعادة النظام السياسي الصحيح والتفوق الذكوري. من ناحية أخرى، في القصص المصورة بعنوان «أستريكس» تدور الدائرة دوما على القوي، مثلما يحدث حين تنتصر آخر بقايا القوات الموجودة في آخر ركن حر من بلاد الغال على نحو سحري على فيالق قيصر، وتسخر القصص من الأذهان البليدة والبنية المترهلة لضباط قيصر وجنوده، وفي النهاية يعود هؤلاء إلى قريتهم «الأركادية» كي يحتفلوا ويتناولوا الولائم مثلما يفعلون دوما (كما تذهب الأسطورة انظر الشكل
9-2 ).
شكل 9-2: العودة إلى أركاديا. مع «أستريكس المجالد».
هذه الفوضى من المواد في كل ما لدينا من وسائط تأتينا دون تنظيم أو فرز محدد. ومثلها مثل كل صور التراث الكلاسيكي، تدعو إلى كل أنواع الاستجابات وتشجعها. فيمكننا، على سبيل المثال، أن نختار دراسة طبيعة الإمبريالية الرومانية، وسحقها للحريات القومية، وآليات عدوانها العسكري، أو يمكننا (في الوقت ذاته) أن نختار الاستمتاع بالنكات الموجودة في القصص المصورة عن المحاربين من أجل الحرية، الذين يلقنون الغزاة الحمقى درسا يستحقونه أو درسين. وبالطريقة عينها تقريبا، يمكننا أن نسخر من صورة الرومان المتزمتين، أو نلمس الإثارة التي يحملها شعر كاتولوس عن الشغف والهوى، وفي الوقت ذاته ندرك أنه لم تكن لدراسة الأخلاقيات أو نظرية المعرفة أو الفكر السياسي أن يكتب لها البقاء من دون أعمال أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطين. وحتى التعبير الوثني القديم الذي يقول: «ألقوا المسيحيين إلى الأسود» وجد طريقه إلى عالم دعابات الملاعب (مثل عبارة: «النتيجة الآن تشير إلى تقدم الأسود على المسيحيين 250/صفر»)، بينما لا يزال يشهد بالمعاناة التي لاقاها الشهداء المسيحيون على أيدي مضطهديهم من الرومان.
تعلم كيف نتعلم
تعنى دراسة التراث الكلاسيكي بثقافات كاملة، وبالنطاق الكامل لاستجاباتنا نحو تلك الثقافات؛ لذا فهي تهتم بما هو إباحي، أو منحط أو مضحك، تماما مثلما تهتم بما هو تثقيفي أو يدفع للتحسن. في الواقع، وكما اقترحنا، المادة نفسها الآتية من العالم القديم يمكن أن تكون مضحكة ودافعة للتحسن في الوقت ذاته، إباحية وتثقيفية، ويعتمد الفارق بالأساس على الأسئلة المختلفة التي نختار توجيهها عنها، وعلى الطرق المختلفة التي نصوغ بها استجاباتنا.
لكن هذا «النطاق الكامل» من الاستجابات لا يتضمن فقط استجاباتنا حيال العالم القديم نفسه، وإنما أيضا حيال دراسة التراث الكلاسيكي، وحيال الطريقة التي يتم تدريسه بها، وحيال القيم التثقيفية التي يرى أنه يمثلها، وحيال تقاليد البحث المتعلقة به. وهنا أيضا نجد الإعجاب إلى جانب المعارضة الساخرة، والمرح، بل وحتى التسخيف، وهنا أيضا يلعب الأدب والخيال دوريهما، بل وحتى الشعر (كما سنرى). إن دراسة التراث الكلاسيكي، وبخاصة تدريس اللغتين اللاتينية واليونانية، مغروسة بعمق في كل أنواع الصور الحديثة للتعليم والتدريس والثقافة ككل.
من المعروف تماما أن المدارس العتيقة الطراز اعتادت تدريب أطفال الأثرياء على قواعد النحو اللاتيني. فمنذ مائة عام في أغلب المدارس البريطانية العامة لم يكن يدرس الكثير باستثناء اللغتين اللاتينية واليونانية. لم يكن مبرر ذلك بالأساس هو إثارة الأدب القديم التي تفتحت أمام تلميذ يستطيع قراءة اللغة بطلاقة، وإنما عادات العقلانية المنطقية التي كان من المفترض أنها تنطبع في الذهن من التعلم الحريص لكل القواعد النحوية. كانت هناك صناعة فيكتورية صغيرة مكرسة لإنتاج النصوص الدراسية (بعضها لا يزال يستخدم إلى اليوم) من أجل تفسير النقاط الدقيقة لهذه القواعد، ومن أجل تسمية الأجزاء النحوية ووصفها: اسم المصدر والتراكيب المصدرية
amo-amas-amat ، وصيغة الجر، والكلام غير المباشر، وجذر اسم الفعل لكلمة
confiteor ، والعبارة الشرطية في جملة
oratio obliqua ، والأفعال المنتهية ب
ui ، وصيغة الشرط المبنية للمجهول من التصريف الرابع في الماضي التام للغائب المفرد (انظر الشكل
9-3 ).
شكل 9-3: اعترافات مدرس لغة لاتينية.
شكل 9-4: أطلق على تعلم القواعد النحوية اللاتينية بالحفظ والاستظهار ذات مرة اسم «طحن اسم الفعل». جزء من السبب في هذا هو أن اسم الفعل (وهي صيغة لاتينية يعمل فيها الفعل عمل الاسم) نادرا ما يوجد في النصوص اللاتينية، بيد أن وجوده بارز في الكتب النحوية على غرار كتاب «القواعد الأساسية» لكينيدي.
لن تجد الآن من يعتقد أن تعلم القواعد النحوية له أي تأثير إيجابي على التفكير المنطقي للتلميذ، اللهم إلا إذا كان متعصبا معتوها. ومع ذلك، تظل الكيفية المثلى (والأكثر إمتاعا) لتدريس اللغتين اللاتينية واليونانية محل نقاش. وتوجد اليوم طرق عديدة مختلفة لعمل هذا، بيد أنها لا تعنينا في مقامنا هذا. الفكرة هنا هي التأكيد على أن تعليم اللغات القديمة لم يكن مطلقا، حتى في ظل الحكم الفيكتوري، عملية موحدة أو لا جدل فيها مثلما قد يخيل لنا. لقد استثار الأمر دوما استجابات متباينة، وهذه الاستجابات أيضا ينبغي أن نراها بوصفها جزءا من دراسة التراث الكلاسيكي.
يمنحنا نايجل مولسوورث، بطل القصص المصورة التي ابتكرها كل من جيفري ويلانز ورونالد سيرل، جانبا من هذا (انظر الشكل
9-4 )؛ ففي منتصف سلسلة «كيف تكون متفوقا»، وهي واحدة من السلاسل الساخرة التي بطلها مولسوورث عن «التعليم المدرسي»، تظهر صفحة «الحياة الخاصة لاسم الفعل»، وهي صيغة نحوية لاتينية تتحول على نحو أنيق إلى حيوان غريب الشكل، مبين بالرسم تمسكه يد بنجامين هول كينيدي، مؤلف أشهر كتاب دراسي عن النحو اللاتيني استخدم في المدارس. (للاطلاع على واحدة من سطور كينيدي المقفاة التي تساعد على التعلم، انظر الشكل
9-5 .) يمكن النظر إلى الصورة بوصفها تظهر نوعا مهددا بالانقراض وهو يوضع تحت الحماية، أو مسخا يتم أسره كي يعرض في السيرك، أو كليهما. وهذه الصورة، على أي حال، تذكير مفيد بأنه منذ اللحظة الأولى التي تم فيها غرس النحو اللاتيني في رءوس تلاميذ المدرسة (بإرادتهم أو رغما عنهم)، كانت هناك ثقافة انتقامية مضادة على صورة قصص مصورة ورسومات تدور عن الفصول الدراسية. هذه الثقافة الإبداعية المضادة طالما كانت جزءا من موضوع النحو ذاته.
شكل 9-5: هذه السطور كان يفترض بها أن تساعد الأطفال على تعلم القواعد العامة الخاصة بالأسماء في اللاتينية، لكن كينيدي لا يفوت فرصة أن يعطي درسا أخلاقيا كذلك.
لكن هذا الانتقام لم يقتصر وحسب على هذه الصورة الطفولية؛ فحتى بعض المخلصين لدراسة التراث الكلاسيكي كثيرا ما كانوا يتوقفون كي يتساءلوا عن قيم وأولويات أضيق صور تدريس القواعد النحوية. كان الشاعر لويس ماكنيس دارسا للتراث الكلاسيكي بحكم مهنته، وكان صديقا لإي آر دودز وزميلا له لبعض الوقت، وقد تعلم اللاتينية واليونانية في كلية مارلبورو في عشرينيات القرن العشرين، ثم اتجه لدراسة التراث الكلاسيكي في كلية ميرتون، جامعة أكسفورد ، ثم درس الموضوع ذاته في جامعتي برمنجهام ولندن. وفي سيرته الذاتية التي كتبها على شكل قصيدة بعنوان «يوميات الخريف»، تحدث في تهكم عن الكيفية التي تم بها تدريس هاتين اللغتين له، وعن المزيج المتمثل في مكانة المادة الراقية وتعلمه القائم على الاصطناعية النمطية والاستظهار، وعن ذلك يقول:
ومن ثم، كما قلنا حين كنا ندرس
التراث الكلاسيكي، حري بي أن أكون سعيدا؛
لأنني درست التراث الكلاسيكي في مارلبورو وميرتون.
فلم يملك كل شخص هنا
مزية أن يتعلم لغة
ميتة دون أدنى شك
وأن يحمل صندوق ألعاب من التعبيرات الرخامية المدموغة
على رأسه.
ليس هذا النقد لتدريس التراث الكلاسيكي صادرا من شخص غريب على المجال، بل هو جزء من النقاش الدائر «داخل» دراسة التراث الكلاسيكي بشأن الكيفية التي ينبغي أن يتم تدريس الموضوع بها، علاوة على أنه يعد (الآن) تمثيلا للموضوع على يد أحد أشهر شعراء القرن العشرين. وعلى هذا، فهو يعيننا على أن نرى لماذا يجب على التراث الكلاسيكي أن يتضمن الكيفية التي يتم بها تدريس هذا التراث الكلاسيكي.
الفصل العاشر
«حتى في أركاديا ها أنا ذا»
إلى من يشير الضمير «أنا»؟
في قلب قصائد فرجيل عن أركاديا ثمة قصيدة يتبادل فيها اثنان من الرعاة الأغنيات تعليقا على وفاة المغني الأسطوري البدائي دافنيس، الذي يعد مصدر إلهام لهما. في ثاني هذه الأغنيات، والتي تشكل النصف الثاني من القصيدة، يرتفع دافنيس إلى النجوم؛ حيث يجتاز عتبة جبل الأوليمب كي ينضم إلى الآلهة، ويحل عصر جديد من السلام على الريف الدائم الامتنان. تعد الأغنية بالإطراء، إلى أن ينقضي الوقت. ينعى المغني الأول الرحيل القاسي لدافنيس الشاب، ويحتفي بتعاليمه، وينعى ما أصاب الريف من خراب. وتنتهي مرثاته، في منتصف قصيدة فرجيل، بتهيئة مقبرة لدافنيس، ونعي ينقش عليها. ستكون القصيدة الصغيرة أغنية مدرجة داخل أغنية الراعي، وهي ذاتها مكتوبة في القصيدة/الأغنية الخاصة بفرجيل:
أنا، دافنيس، المعروف جيدا في الغابة الممتدة من هنا إلى النجوم،
ما زلت راعيا لقطيع بهي، وما زلت أنا نفسي أكثر بهاء.
في القرن السابع عشر في إيطاليا، وجد حبر معني بدراسة الإنسانيات، صار لاحقا البابا كليمنت التاسع، الإلهام في الهشاشة الأبية لهذه المرثاة، وحاكى النقص الواضح في قواعدها النحوية عندما صك التعبير الشهير
et in arcadia ego (الذي يعني تتابع كلماته حرفيا: و/حتى في أركاديا ها أنا ذا)، وهو ذلك التعبير الذي أسر خيال الفنانين والشعراء في أرجاء الثقافة الغربية منذ أن صيغ. وكما سنرى، فهو يحكي قصة؛ قصة عن الموت والجنة. وهو يقدم صورة كلاسيكية عن انغماسنا في عالم الماضي وانفصالنا عنه أيضا. وفي الوقت عينه، إنه صورة كلاسيكية عن انغماس العالم الكلاسيكي في عالم أركاديا وانفصاله عنه، ذلك العالم الذي حل محله ونسيه، ثم تذكره حين كان ضائعا بالفعل. نعم، نحن نريد أن يتساءل القراء عما يعنيه هذا التعبير الشهير.
في عام 1786 ترك الكاتب الموسوعي المعني بالكلاسيكيات جوته (يوهان فولفجانج فون جوته والذي كان يبلغ من العمر آنذاك 37 عاما) منصبه في حكومة فايمار؛ كي يقوم بجولة عظمى مدتها عامان في إيطاليا، وهناك مر بتجربة صحوة قوية، مصحوبة بتدفق محموم لكتاباته. سرد جوته هذه الخبرة علاوة على النشاط القوي الذي شهدته حياته وأعقب مكوثه في إيطاليا في «الرحلة الإيطالية»، وعنون فصلا مثيرا للمشاعر بالعبارة التالية:
Auch ich in Arkadien (وهي ترجمة ألمانية للعبارة اللاتينية «حتى في أركاديا ها أنا ذا»). وقد أغدق جوته، الجامع المتحمس الآن للأشياء والتذكارات الكلاسيكية، «مراثي» حسية رومانية لعشيقته الشابة كريستيان، التي وجدها عند عودته تعمل، على نحو ملائم، في مصنع للزهور الصناعية. استمر جوته في لعب دور الرجل المحب المسئول، لكن قلبه ظل بعيدا بدهور عدة عن أمراء وسط أوروبا بحروبهم الثورية وتلك المضادة للثورة. وعلى مدار حياته المديدة، استمر في إلهام التيار الهيليني من المدرسة الرومانسية الذي حفز الشباب على الانطلاق والانتشاء بإعادة اكتشاف المشاهد الإغريقية، بأطلالها وبقاياها، ومن بينهم بايرون وكوكريل وأصدقاؤه. ومن خلال عنوان هذا الفصل يوضح جوته ارتباطه الرومانسي الحنون بالعالم الكلاسيكي.
تتضح صورة أخرى من صور هذا الحنين في التقليد المتمثل في إطلاق الشاب المستهتر العنان لنزوات الشباب، وتذكره لاحقا لشبابه الضائع في توق محرك للمشاعر. حمل التعبير القوي الذي صكه الحبر هذه الفكرة إلى القرن العشرين، على سبيل المثال، في رواية «العودة إلى برايدزهيد» للروائي إيفيلين وو، التي فيها يلهو شباب جامعة أكسفورد المتأنقون في حجراتهم بجمجمة محفور عليها عبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» (وهي أيضا عنوان الكتاب الأول من الرواية). فكر هؤلاء الشباب في السخرية من صورة نمطية فاسدة، لكن من خلال كلمات الراوي تشارلز رايدر، التي يستعيد من خلالها الماضي وهو في فترة منتصف العمر، يتبين أن هذه العبارة إنما تسخر منهم هم؛ إذ إنهم كانوا يعيشون هذه الصورة النمطية غير واعين لذلك. وإذا وضعت دائرة الابن الثاني للورد ميرشمين، سيباستيان فلايت، في سياق الرواية في عام 1945 عند نهاية الحرب العالمية الثانية، فستقدر المفارقة الأركادية حين يتلو صديقهم المحب لملذات الحياة أنطوني بي بي بلانش على الشباب شعرا كلاسيكيا محبطا مأخوذا من قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب». لقد فاتهم قطار العمر (انظر الشكل
10-1 ).
شكل 10-1: أركاديا أخرى: الشباب المرفه لعصر بائد.
انظر إلي: درس لاتيني صغير
ومع ذلك، فالعديد من أشهر استخدامات العبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» جاءت على صورة رسوم. وأشهر هذه الرسوم قاطبة هي لوحة الرسام العظيم نيكولا بوسان بعنوان «رعاة أركاديا»، التي أمر برسمها الحبر نفسه الذي صك هذا التعبير (انظر الشكل
10-2 ). في الصورة يتجمع عدد من الشباب الأركاديين حول شاهد قبر، منكبين على دراسة الكلمات، التي يمكن قراءتها بالكاد، المنقوشة عليه، موضحين فيما يبدو ما يمكنهم رؤيته لفتاة تقف إلى جوارهم. لكننا سنركز الآن على لوحة أخرى رسمت في وقت لاحق، لوحة أدخلت هذا النوع تحديدا إلى الفن البريطاني: الصورة المزدوجة للسيدة بوفيري والسيدة كرو التي رسمها سير جوشوا رينولدز عام 1769 (انظر الشكل
10-3 ).
شكل 10-2: إن صورة رينولدز للسيدة بوفيري والسيدة كرو (انظر الشكل
10-3 ) تعيد استخدام مخطط لوحة بوسان بعنوان «رعاة أركاديا»، والتي فيها تلتف مجموعة من الشخصيات الأركادية حول مقبرة. هل يستطيعون تبين التعبير الشهير «حتى في أركاديا ها أنا ذا»؟
شكل 10-3: حتى في أركاديا ها أنا ذا: نقش محفور للوحة رينولدز للسيدة بوفيري والسيدة كرو.
يجعل رينولدز إحدى السيدتين تشير في تساؤل إلى الكتابة المنقوشة على شاهد المقبرة، بينما تتدبره الأخرى في تأمل عميق؛ إن عبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» تظهر مرة أخرى. كانت هذه اللوحة الأولى من بين مجموعة من لوحاته التي رسمها وهو رئيس للأكاديمية الملكية (المؤسسة التي كانت من بنات أفكاره، وكانت قد تأسست رسميا للتو في عام 1768، وكانت الفكرة من ورائها تنظيم التعليم الفني لأبناء الطبقة الراقية البريطانية). ويحكى أنه عندما عرض الصورة على صديقه د. جونسون (الذي عمل منذ عام 1770 كأول أستاذ للأدب القديم بالأكاديمية)، تحير الأخير ووجد أن العبارة «محض هراء، في أركاديا ها أنا ذا.» ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟ رد الفنان قائلا: إن الملك جورج الثالث تفهم فكرتها على الفور في اليوم السابق؛ إذ هتف: «نعم، نعم، حتى في أركاديا الموت موجود.»
هذه النادرة التثقيفية تبين لنا أن هذا الشعار الشهير يتجاوز كونه مجرد تعبير ناقص من الناحية النحوية. فمعناه يجب أن يقدم؛ سواء من طرف الشخص الذي يسرده، أو من طرف من يسمعونه، أو من خلال مزيج من الاثنين. فمن ناحية، هناك ذلك الحماس المرح الذي من شأن جوته أن يجاهر به في فخر؛ ففي نسخته، استولى جوته على الضمير «أنا» بحيث صار يشير إليه هو نفسه؛ إذ تخيل أن الفعل يعود على الفاعل الأول، وأعطانا المعنى الذي يقول «أنا أيضا ذهبت إلى أركاديا»، والذي عنى به «أنا أيضا ذهبت إلى الجنة». وهذا يعد بمنزلة حنين رومانسي، يضع ذكريات نعيم أركاديا في منزلة أعلى من كآبة الحاضر. من ناحية أخرى، يلعب د. جونسون دوره كناقد/باحث مهووس بالكلمات (وهو الذي، على أي حال، أنتج لنا أول قاموس منهجي للغة الإنجليزية) ويتعامى عن المعنى التصويري. إنه يعجز عن رؤية أي من الإشارات التي جعلت الملك (الذي سيقدر له أن يعيش لفترة طويلة من الخرف) على الفور يدرك أن هناك شخصا آخر مرتبطا بالضمير «أنا» الموجود على النقش باللوحة.
لقد أدرك الملك أن الصوت قادم من المقبرة؛ إذن لا بد أن الموت هو المتحدث: «حتى في الجنة ها أنا ذا»؛ إذن «لا مفر من الموت، حتى في أركاديا.» يملك هذا التأويل مزية ملاءمة موضع النقش على شاهد المقبرة. بيد أن الرسم لا يريدنا فقط أن نأخذ المعنى ونذهب إلى حال سبيلنا، آخذين معنا «تذكرة بالموت» أخرى من أجل مجموعتنا الكلاسيكية. فبادئ ذي بدء، علينا أيضا أن نتذكر دافنيس الميت في قصائد فرجيل حين ننظر إلى هذا النص، ونفكر فيه وفي شخصيته. فلو كان الراعي الميت في أركاديا يقول: «حتى في أركاديا ها أنا ذا»، فلا بد إذن أنه يعني: «حتى في أركاديا، حيث عشت حياتي، أقابل الموت بحيث لا يعود لي وجود.» فحتى أجمل الرعاة، أجمل المغنين، هو شخص فان؛ ومن ثم مكتوب علينا جميعا أن نموت.
تكتنف الصعوبات كل قراءة لهذه الكلمات اللاتينية القليلة. وهذا، في حقيقة الأمر، هو ما تخبرنا به اللوحتان؛ فالسيناريو الذي ابتكره بوسان، واستعاره رينولدز كي يدشن نزعة كلاسيكية استقصائية محترمة في الثقافة الإنجليزية، يصب معظم طاقته في صياغة الحكاية الرمزية التي تشير إلى أن «الكتابة» ليست شيئا ينبغي لنا أن نأخذه كأمر مسلم به. إن إحدى السيدتين في لوحة رينولدز تحتاج إلى الأخرى كي تفسر لها العلامات الموجودة على سطح المقبرة، وقد تكون رفيقتها إما عليمة تماما بالمكتوب، وإما عاجزة عن الفهم هي الأخرى، أو لا تزال تحاول حسم أمرها. وبغض النظر عن التفسير الذي تختاره، يدفع الاختلاف بين الشخصيتين باللوحة المشاهدين إلى الشعور بالمدى الذي تتدخل به «صعوبة القراءة» بيننا وبين معنى اللوحة.
وكي يعرف المشاهدون ما تنطوي عليه اللوحة، عليهم أن يدركوا أن الصورة تجسد دراميا الصيغة التي تقول: «حتى في أركاديا ها أنا ذا.» وكي تعرف السيدتان المرسومتان باللوحة ما تحتوي عليه المقبرة، عليهما أن تقرآ النقش، والأهم من ذلك أن عليهما أن تعرفا قدرا من اللاتينية. لكن عليهما أيضا أن تعرفا النوع الذي تنتمي إليه اللوحة؛ فهما تلعبان دور رعاة بوسان الأركاديين، الذين يشيرون إلى الحروف على مقبرتهم هم، إلى الأنثى الناظرة ذات المظهر المهيب. يندر أن نتوقع وجود رعاة «متعلمين»، ومع ذلك فأركاديا هي ذلك «المكان الآخر» الفرجيلي المعروف لدينا - مثل سيدتي رينولدز - من واقع قراءتنا لنصوص الشاعر عن التقليد الكلاسيكي. ومن بين هذه النصوص، كما رأينا في مستهل هذا الفصل، تلك الكتابة الموعودة لمقبرة دافنيس.
عملية التعلم
كلما زاد تعجبنا من الكيفية التي تتداخل بها الكتابة بين عالمنا وأركاديا، وجدنا أن الكتابة ذاتها التي تبعدنا عن الماضي البائد، هي أيضا ما تبقي على هذا الماضي حيا. فكر للحظة في الدارسين الذين فعلوا أقصى ما في وسعهم كي يبينوا للقرن العشرين مدى التعقيدات التي تكتنف النوع الفني التصويري الخاص بلوحتي «حتى في أركاديا ها أنا ذا». فمن ناحية، نحن نعلم الآن أن (سير) أنطوني بلانت، الذي أمدنا عمله المثابر على لوحة بوسان بالتفاصيل التي يمكننا من خلالها أن ندخل إلى التخيل الفني لصور أركاديا في القرن السابع عشر وما بعده، والذي يعد المؤرخ الفني التاريخي الأول في جيله، وخبير معاينة صور الملكة وما إلى ذلك؛ نحن نعلم أنه كان يخفي هويته السرية بوصفه جاسوسا من الدرجة الأولى للاتحاد السوفييتي. ومن ناحية أخرى، لدينا إروين بانوفسكي، الناقد الثقافي والمؤرخ الفني البارز بالولايات المتحدة، الذي منح في ثلاثينيات القرن العشرين (شأنه شأن هيرمان بروش) حق اللجوء السياسي هربا من الاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا. وقد ارتكزت إحدى مقالات بانوفسكي الرئيسية على البحث، الذي قام به بلانت قبل الحرب، عن بوسان بهدف استكشاف القصة الكاملة لعبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» منذ زمن فرجيل فصاعدا.
تلقى بلانت تعليمه الكلاسيكي في كلية مارلبورو، وكان زميلا وصديقا للشاعر لويس ماكنيس. لاحظنا بالفعل السخرية اللاذعة التي تهكم بها ماكنيس على تدريبه على اللغتين اللاتينية واليونانية بالكلية. وقد قادته النزعة نفسها غير الموقرة إلى أن يكتب في يومياته بعد زيارة جامعية إلى المتحف البريطاني أنه ذهب إلى حجرة باساي وشاهد المنحوتات الرخامية الفيجالية «المريعة». على مدار حياته المهنية ارتكن شعر ماكنيس على نحو عريض على موضوعات كلاسيكية، علاوة على أنه استكشف المخاوف التاريخية الفنية التي تقاسمها مع بلانت في وقت لاحق من حياته. وهو يخاطب تحديدا القضايا التي نستكشفها في هذا الفصل على نحو جزئي على غرار عبارة «مات بندار» الساخرة؛ حيث يرى هذا الشاعر الإغريقي الذي يعد من أصعب الشعراء من حيث اللغة وقد اختنق بفعل الجلبة المنحطة للحياة الحديثة: «هناك مسافرون متجولون على الطرقات | - مات بندار - | تهدر مضخات البترول في صخب وهي تؤدي عملها ...» و«بوسان» العذب، حيث تبدو «السحب التي يرسمها مثل الشاي الذهبي ...» و«قصيدة أمام البوابة ذات القضبان الخمسة»، حيث يخبر الموت راعيين مشدوهين قائلا: «لا طريق هنا، أيها الراعيان، اقرآ اللافتة الخشبية، | طريقكما مسدود، وكل الأرض ملكي ...»
من الصحيح أن ماكنيس يستنكر تعليمه الكلاسيكي، لكنه حين يستنكر العالم المعاصر الذي لا يستطيع أن يجد فيه لهذا التعليم الكلاسيكي دورا، فإن عمله يؤكد بالمثل - في تضارب تام ومقصود - على وصف ذلك العالم المعاصر بأنه بربري وكريه، وسبب هذا تحديدا هو أنه لا مكان فيه للتراث الكلاسيكي. بل إنه يصوغ هذا بكلمات تعيد على نحو مباشر إحياء الأنماط الكلاسيكية لاستنكار العالم. فالشاعر يرى أن الثقافة الحديثة مليئة بالمخلفات والبقايا والمهملات الكلاسيكية. وهو يعرف أيضا أنه مبرمج كي يجد هذا، وهو يتفهم أن الأمر عينه ينطبق على كل شخص متعلم في الغرب يعرف أن الخلفية الثقافية للماضي هي وحدها القادرة على توفير إطار يمكن داخله هذا الشخص أن يرسخ أقدامه ويتعرف على ذاته. وهناك صورة أخرى للدرس عينه موجودة ضمنا في النطاق الواسع من المعارف الموظفة في استقصاءات بلانت وبانوفسكي الخاصة بعبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا».
درس بانوفسكي التراث الكلاسيكي في شبابه هو الآخر، وإن كان وفق نموذج ألماني أكثر توقيرا من ذلك الذي درس وفقه بلانت وماكنيس. وهو يرسم في براعة صورة المدرس التقليدي في عصره بوصفه «رجلا ذا عيوب عديدة، أحيانا يكون مغرورا وأحيانا أخرى خجولا، وكثيرا ما يهمل مظهره، ويجهل في أريحية نفسية الشباب الصغار.» وكل ما يريد قوله عن الرجل الذي درس له اللاتينية هو أنه كان متخصصا من الدرجة الأولى في خطب شيشرون، أما اليونانية فقد علمها له «متحذلق محبوب». وقد اعتذر هذا المدرس عن إغفاله فاصلة موضوعة في موضع خاطئ في فقرة لأفلاطون كان التلاميذ يترجمونها قائلا لهؤلاء التلاميذ البالغ عمرهم 15 عاما: «إنه خطئي، ومع ذلك كنت قد كتبت مقالا عن هذه الفاصلة تحديدا منذ عشرين عاما، والآن علينا أن نعيد الترجمة مرة ثانية.» ظلت هذه القصة حية في عقل بانوفسكي، بل في الواقع جعل منها قصة عنه هو نفسه. وهذه القصة تخبرنا أن نتلمس طريقنا ونجد هناك الحب الموسوس للتعلم، علاوة على السخافة المتحذلقة، ثم بعد ذلك نتبين الموضع الذي نقف فيه. وعموما، تبين القصة أن المعلمين يدرسون لتلاميذهم بالطريقة عينها التي تعلموا هم بها، سواء اختار التلاميذ أن يحاكوا هذا النموذج أو يعدلوه أو يرفضوه. ونحن نتعلم من بانوفسكي أن ما يتعلمه التلاميذ هو «عملية» التعلم ذاتها. إن بلانت وماكنيس وبانوفسكي، بطرقهم المختلفة، كانوا واعين تماما للدور المعقد والحيوي الذي استمرت دراستهم للتراث الكلاسيكي في لعبه في أعمالهم وتفكيرهم.
لقاء عابر
ليست دراسة التراث الكلاسيكي دراسة لكيان ميت، مهما وصف البعض اللغات القديمة والثقافات التي تحدثت بها بأنها «ميتة». إن قدرا كبيرا من الثقافة الغربية يعتمد على قرون من استكشاف تراث العالم الكلاسيكي، لدرجة أن هذا التراث يقع «في مكان ما» عند جذور كل ما يمكننا قوله أو رؤيته أو التفكير فيه تقريبا. إن عبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا»، كما أدركت، تعد الآن شعارا تكمله أنت وتضعه في الموضع المناسب من حيث علاقته بك.
ربما تكون رسالة هلاك، وربما تكون رسالة سلوان، وقد تعدك بالنعيم، بمجرد أن تتمكن من قول الكلمات وأنت تعنيها حقا، أو قد تشجعك على أن تواصل التفكير ، بشأن حياة الماضي في الحاضر، وبشأن حياة الحاضر في الماضي. نأمل أن تكون هذه الصفحات قد منحتك فكرة عن الصعوبة التي يجدها الفن والأدب والتاريخ والفلسفة الغربية، وبقية تراثنا الثقافي، في التحدث إلى حياتنا من دون مقدمة، ولو على الأقل، قصيرة إلى التراث الكلاسيكي.
استعراض زمني لأهم الأحداث
حوالي 800-500ق.م:
حضارة اليونان المبكرة.
حوالي 800-700ق.م:
ملحمتا «الإلياذة والأوديسة» لهوميروس، بناء أول معبد لزيوس في جبال الأوليمب.
حوالي 776ق.م:
إقامة أول ألعاب أوليمبية.
حوالي 600-550ق.م:
قصائد صافو وألكايوس.
حوالي 500-300ق.م:
حضارة اليونان الكلاسيكية.
حوالي 500-31ق.م:
روما الجمهورية.
حوالي 500-450ق.م:
الحرب الفارسية بين الإغريق والفرس.
490ق.م:
هزيمة الفرس أمام الإغريق في ماراثون.
حوالي 450-400ق.م:
حقبة الديمقراطية الأثينية الأصلية، المسرحيات التراجيدية التي كتبها كل من إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، «التاريخ» لهيرودوت، بناء البارثينون على هضبة الأكروبول في أثينا، أعمال ديموقريطس الفلسفية.
حوالي 430-400ق.م:
الحرب البيلوبونيزية بين أثينا وأسبرطة، «التاريخ» لثوسيديديس، مسرحيات أريستوفان الكوميدية، بناء معبد «أبوللو المغيث» في باساي.
399ق.م:
موت سقراط.
حوالي 380-350ق.م:
تأليف أفلاطون محاوراته الفلسفية في أكاديميته.
حوالي 335-322ق.م:
أعمال أرسطو الفلسفية.
336-323ق.م:
إمبراطورية الإسكندر الأكبر تمتد من اليونان حتى الهند.
حوالي 320-270ق.م:
أعمال ميناندير الكوميدية، أعمال إبيقور الفلسفية.
حوالي 200-150ق.م:
غزو الرومان للعالم الإغريقي، أعمال بلاتوس الكوميدية، كتاب «تاريخ روما» لبوليبيوس.
حوالي 60-55ق.م:
شعر كاتولوس عن الحب، كتاب لوكريتيوس «عن طبيعة الأشياء».
44ق.م:
اغتيال الديكتاتور يوليوس قيصر.
43ق.م:
القتل المشرع لشيشرون.
حوالي 40-35ق.م:
مراثي جالوس، قصائد فرجيل، عمل فارو «عن الزراعة».
31ق.م-14م:
حكم الإمبراطور أغسطس.
31ق.م-حوالي 500م:
الإمبراطورية الرومانية.
31ق.م:
أوكتافيوس يهزم أنطونيوس وكليوباترا.
حوالي 31ق.م-17م:
تاريخ ليفيوس لروما.
27-23ق.م: «استعادة» أغسطس للجمهورية (تنصيبه زعيما).
23ق.م:
قصائد هوراس الغنائية.
حوالي 20ق.م:
كتابات فيتروفيوس عن العمارة.
19ق.م:
موت فرجيل، ونشر ملحمته «الإنياذة» غير مكتملة.
حوالي 12ق.م: «الخطابات الثانية» لهوراس .
حوالي 1ق.م-17م: «التحولات» لأوفيد.
100-120م: «الأعمال التاريخية» لتاسيتوس، و«قصائد الهجاء» لجوفينال.
122-128م:
بناء سور هادريان.
حوالي 160م: «الدليل الإرشادي إلى اليونان» لباوسانياس.
حوالي 500-600م:
انهيار الإمبراطورية الرومانية في أوروبا الغربية.
حوالي 1300-1600م:
عصر النهضة.
حوالي 1300-1315م:
ملحمة «الكوميديا الإلهية» لدانتي أليجري.
1502م:
القصيدة الرومانسية «أركاديا» لياكوبو سانازارو.
1592م:
سلسلة سونيتات «أركاديا» للسير فيليب سيدني.
1599م:
العرض الأول لمسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير.
القرن السابع عشر
1600-1669م:
حياة البابا كليمنت التاسع (شغل كرسي البابوية بين عامي 1667 و1669).
1638-1640م:
رسم لوحة «رعاة أركاديا» بيد نيكولا بوسان.
القرن الثامن عشر
1748م:
إعادة اكتشاف مدينة بومبي.
1753م:
تأسيس المتحف البريطاني.
1765م:
إعادة اكتشاف باساي على يد يواكيم بوشر.
1768م:
جوشوا رينولدز يؤسس «الأكاديمية الملكية».
1769م:
صورة رينولدز للسيدة بوفيري والسيدة كرو.
1770م:
د. جونسون يصير أستاذا بالأكاديمية الملكية.
1768-1788م:
رحلة جوته إلى إيطاليا، وتأليف كتابه «الرحلة الإيطالية».
1783م:
الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
1789م:
الثورة الفرنسية.
1795م: «المراثي الرومانية» لجوته.
حوالي 1750-1820م:
جورج واشنطن وتوماس جيفرسون والآباء المؤسسون يؤسسون الولايات المتحدة الأمريكية.
القرن التاسع عشر
حوالي 1800-1829م:
الحروب النابليونية وحرب استقلال اليونان عن تركيا، شعر كيتس، شعر بايرون.
1806م:
زيارة إدوارد دودويل إلى باساي.
1811م:
استخراج منحوتات معبد أفايا من إيجينا ونقلها إلى ميونيخ، نقل لوحات «إلجين» الرخامية من البارثينون إلى المتحف البريطاني.
1811-1815م:
سي آر كوكريل ورفاقه ينقبون في معبد باساي، نقل الإفريز إلى المتحف البريطاني (رحب بها بنجامين هايدون).
1829م:
قصيدة «إلى هيلين» لإدجار آلان بو.
1847م:
النشر الأول لكتاب «قواعد النحو اللاتينية الأساسية للطفل» لبي إتش كينيدي.
1848م: «اليونان الحديثة» لتوماس دي كوينسي، إدوارد لير يزور باساي.
1859م:
وضع لوحة «معبد أبوللو في باساي» لإدوارد لير في متحف فريتزويليام.
1840-1880م:
كتابة ونشر الأعمال السياسية لكارل ماركس.
1870-1880م:
أعمال التنقيب التي أجراها هاينريش شليمان واكتشافه مدينتي طروادة ومايسينيه.
1872-1879م:
فلسفة نيتشه المعقدة ونظريته عن التراجيديا.
1880م:
رواية (الجنرال) ليو والاس «بن هور، حكاية المسيح».
1890م:
جيه سي فريزر يزور باساي .
1898م:
جيه سي فريزر يكتب عن باوسانياس.
1896-1909م:
كتاب «طوائف الدويلات الإغريقية» للويس فارنيل.
حوالي 1897-1939م:
أعمال التحليل النفسي لسيجموند فرويد.
القرن العشرون
1910-1915م:
نشر «الغصن الذهبي» لجيه سي فريزر (النسخة المؤلفة من اثني عشر مجلدا).
1922-1943م:
نظام موسوليني الفاشي في إيطاليا.
1929م: «كتاب الأيام» لجيه سي فريزر.
1933م:
لجوء إروين بانوفسكي إلى الولايات المتحدة (فرارا من النازي)، «في جبال اليونان» لإتش دي كيتو.
1934م:
كلوديت كولبيرت تقوم بدور كليوباترا، رواية «أنا، وكلاوديوس وكلاوديوس الإله» لروبرت جريفز.
1936م:
مقال إروين بانوفسكي عن «حتى في أركاديا ها أنا ذا».
1938م:
مقال أنطوني بلانت عن لوحة بوسان «حتى في أركاديا ها أنا ذا».
حوالي 1925-1960م:
شعر لويس ماكنيس، قصيدة «الأرض الخراب» لتي إس إليوت.
1945م:
رواية «موت فرجيل» لهيرمان بروش.
1951م:
كتاب «الإغريق واللامعقول» لإي آر دودز.
1954م:
سلسلة القصص المصورة «كيف تكون متفوقا» لجيفري ويلانز ورونالد سيرل.
1956م:
رواية «آخر قطرات النبيذ» لماري رينو.
1958م:
قصة «فلتسقط المدرسة» لجيفري ويلانز ورونالد سيرل، رواية «الملك يجب أن يموت» لماري رينو.
1959م:
فيلم «بن هور» بطولة تشارلتون هيستون.
1962م:
إليزابيث تايلور تؤدي دور البطولة في فيلم «كليوباترا»، رواية «ثور البحر» لماري رينو.
1964م:
القصة المصورة «أستريكس المجالد» لآر جوسكيني وإيه أوديرزو.
1972م:
رواية «تعال مثل الظلال» لسايمون ريفن.
1980م:
رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو.
1981م:
كتاب «التراجيديا والحضارة» لتشارلز سيجال.
1987م:
تغطية معبد أبوللو في باساي بخيمة.
1991م:
مؤتمر المتحف البريطاني يحاول إعادة ترتيب إفريز باساي وفق منظور فريدريك إيه كوبر وبرايان سي ماديجان.
1994م: «مبدأ بان» لفيونا بيتكيثلي.
1995م:
نشر النسخة الإنجليزية لهذا الكتاب.
المراجع
الفصل الثاني
Thomas de Quincey, 'Modern Greece’,
Collected Works (2nd ed., Edinburgh, 1863), vol.13, 288; Byron, 'John Keats, who was kill’d off by one critique’:
Don Juan,
Canto XI, stanza LX; Byron, 'But who, of all the plunderers ...’:
Childe Harold’s Pilgrimage,
Canto II, stanza XI; Horace and Greek conquest:
Epistles
II.1, verse 156.
الفصل الثالث
H. D. F. Kitto,
In the Mountains of Greece (London, 1933), 60, 92. Simon Raven,
Come Like Shadows (London, 1972), 180-3. Tour guides:
Essential Mainland Greece (Basingstoke, 1994);
Thomas Cook’s Travellers’ Mainland Greece, including Athens (Basingstoke, 1995);
Visitor’s Guide. Greece (Ashbourne, 1994);
Greece. The Rough Guide (London, 1995). Virgil, 'uarium et mutabile semper femina’,
Aeneid,
Book IV, line 569.
الفصل الرابع
Guidebook to Greece,
Book VIII, chapter 41 §§7-8-translated in J. G. Frazer,
(London, 1898), i. 427-8; commentary, iv. 393-405. DESCRIPTIONS OF PLAGUE: Thucydides,
History of the Peloponnesian War,
Book II, chapters 47-54; Lucretius,
On the Nature of Things,
Book VI, verses 1138-1286. Gallus fragment: papyrus found at Qasr Ibrîm, 78-3-11/1, see R. D. Anderson, Peter J. Parsons, and Robin G. M. Nisbet, 'Elegiacs by Gallus from Qasr Ibrîm’, in
Journal of Roman Studies , 69 (1979), 125-55. Juvenal: 'What street isn’t awash ...’,
Satire
II, lines 8-13. Robert Graves,
I, Claudius,
and
Claudius the God (London, 1934). Umberto Eco,
The Name of the Rose (London, 1980).
الفصل الخامس
TRANSPORT ESTIMATES: M. I. Finley,
The Ancient Economy (London, 1973), 126. Varro, 'instrumenti genus uocale’,
On Farming,
Book I, chapter 17, §1. Estimates of slaves: Paul Cartledge,
The Greeks (Oxford, 1993), 135ff.; P. A. Brunt,
Italian Manpower (Oxford, 1971), 124ff.
الفصل السادس
Tacitus, Britain shaped as 'scapula’:
Life of Agricola,
Chapter 10, §3, ed. R. M. Ogilvie and I. A. Richmond (Oxford, 1967), 168-70. Virgil, Aeneas, and the golden bough,
Aeneid,
Book VI, lines 146-7.
الفصل السابع
REACTIONS TO THE FRIEZE: Edward Dodwell,
A Classical and Topographical Tour through Greece (London, 1819), 387; M. Robertson,
A History of Greek Art (Cambridge, 1975); Benjamin Robert Haydon, quoted by J. G. Frazer,
(London, 1898), iv. 401.
الفصل الثامن
Charles Segal, description of Bassae,
Tragedy and Civilisation. An Interpretation of Sophocles (Harvard, 1981), 1. E. R. Dodds,
The Greeks and the Irrational (Berkeley, 1951). Aristotle’s analysis of tragedy,
The Poetics.
Thucydides,
History of the Peloponnesian War,
Book II, chapters 63 and 62. Mary Renault,
The Last of the Wine (London, 1956). Plato’s Socrates on the tyrant,
The Republic,
Book VIII, p. 565d. Edgar Allan Poe, 'To Helen’, in
Collected Works (ed. T. O. Mabbott, Cambridge, Mass., 1969), I, 163-71.
الفصل التاسع
Herodotus, how Pan assisted the Athenians,
Histories,
Book VI, chapters 105-6; Lucian, later Greek version of story with details about Marathon,
On a Slip in a Greeting (Opus 65) §3. Polybius,
History,
IV, Chapters 20-1. Louis MacNeice, 'An Eclogue for Christmas’, in
Collected Poems
ed. E. R. Dodds (London, 1966), 33. Horace, Pan and his Arcadian haunts,
Odes,
Book I, poem 17. Fiona Pitt-Kethley,
The Pan Principle (London, 1994), 28. Jacopo Sannazaro,
Arcadia and Piscatorial Eclogues,
trans. R. Nash (Detroit, 1966). Sir Philip Sidney,
The Countess of Pembroke’s Arcadia,
ed. Maurice Evans (Harmondsworth, 1977). Hermann Broch,
The Death of Virgil (New York, 1945). Lew Wallace,
Ben-Hur. A Tale of the Christ (London, 1880). Mary Renault,
The King Must Die (London, 1958),
The Bull from the Sea (London, 1962). R. Goscinny and A. Uderzo,
Asterix the Gladiator (Paris, 1964; trans. Leicester, 1973). Geoffrey Willans and Ronald Searle,
Down with Skool! (London, 1958) and
How to be Topp (London, 1954). Louis MacNeice, 'Autumn Journal, XIII’, in
Collected
, 125.
الفصل العاشر
Virgil, epitaph for Daphnis,
Eclogue V,
verses 43-4. J. Wolfgang von Goethe,
Römische Elegien (1795),
Italienische Reisen (1816-17), see Humphry Trevelyan,
Goethe and the Greeks (Cambridge, 1981). Evelyn Waugh,
Brideshead Revisited (Harmondsworth, 1945), 43 and 34. T. S. Eliot,
The Waste Land (London, 1940). Nicolas Poussin,
The Arcadian Shepherds,
illustrated in A. Blunt,
Art and Architecture in France 1500-1700 (Harmondsworth, 1953), pl. 131(B). Reynolds, Johnson, and George III anecdote: C. R. Leslie and Tom Taylor,
Life and Times of Sir Joshua Reynolds (London, 1865), i. 325; retold by Erwin Panofsky, '“Et in Arcadia Ego”: Poussin and the Elegiac Tradition’, in
Meaning in the Visual Arts (New York, 1955), 295-320. Anthony Blunt, 'Poussin’s “Et in Arcadia Ego”’, in
Art Bulletin , 20 (1938), 96ff. Louis MacNeice, 'Pindar is Dead’, 'Poussin’, 'Eclogue by a five- barred gate (Death and Two Shepherds)’, in
Collected
, 79, 4, and 37.
قراءات إضافية
الفصل الأول
British Museum: Ian Jenkins,
Archaeologists and Aesthetes: In the Sculpture Galleries of the British Museum 1800-1939 (London, 1992); Lucilla Burn,
The British Museum Book of Greek and Roman Art (London, 1991).
Heritage: Graeme W. Clarke (ed.),
Rediscovering Hellenism (Cambridge, 1989); Carol G. Thomas (ed.),
(Leiden, 1988);Alain Schnapp,
The Discovery of the Past: The Origins of Archaeology (London, 1996).
الفصل الثاني
Rediscovery: Fani-Maria Tsigakou,
The Rediscovery of Greece. Travellers and Painters of the Romantic Era (London, 1981); Roland and Françoise Etienne,
The Search for Ancient Greece (London, 1992); Claude Moatti,
The Search for Ancient Rome (London, 1993); Robert Etienne,
Died (London, 1992).
Keats: Martin Aske,
Keats and Hellenism (Cambridge, 1985).
الفصل الثالث
Tourism: Robert Eisner,
Travelers to an Antique Land. The History and Literature of Travel to Greece (Michigan, 1991); Helen Angelomatis-Tsougarakis,
The Eve of the Greek Revival. British Travellers’ Perceptions of Early Nineteenth-Century Greece (London, 1990); S. Zinovieff, 'Hunters and Hunted:
Kamaki
and the Ambiguities of
Contested Identities: Gender and Kinship in Modern Greece (Princeton, 1993).
The Other: Edith Hall,
Inventing the Barbarian (Oxford, 1989).
Multiculturalism: G. Karl Galinsky,
Classical and Modern Interactions (Texas, 1993).
Gender: David M. Halperin, John J. Winkler, Froma I. Zeitlin (eds.),
Before Sexuality, The Construction of Erotic Experience in the Ancient Greek World (Princeton, 1990); A. Richlin (ed.),
and Rome (Oxford, 1992); Robert Aldrich,
The Seduction of the Mediterranean. Writing, Art and Homosexual Fantasy (London, 1993); Nancy S. Rabinowitz and Amy Richlin (eds.),
Feminist Theory and the Classics (London, 1993).
الفصل الرابع
Art and the Roman Viewer (Cambridge, 1995), chapter 4.
Ancient Texts: L. D. Reynolds and N. G. Wilson,
Scribes and Scholars: A Guide to the Transmission of Greek and Latin Literature (Oxford, 1991).
Schliemann: William M. Calder and David A. Traill (eds.),
Myth, Scandal, and History: The Heinrich Schliemann Controversy (Detroit, 1986).
الفصل الخامس
Slavery: Keith Bradley,
Slavery and Society at Rome (Cambridge, 1994).
Field Survey: Susan E. Alcock,
Graecia Capta (Cambridge, 1993).
Archaeology: Ian Morris (ed.),
Classical Greece. Ancient Histories and Modern Archaeologies (Cambridge, 1994).
History: Paul Cartledge (ed.),
The Cambridge Illustrated History of Ancient Greece (Cambridge, 1998).
الفصل السادس
Classical Editions: E. J. Kenney,
The Classical Text (Berkeley, 1974).
Shakespeare: Charles and Michelle Martindale,
Shakespeare and the Uses of Antiquity (London, 1994).
Renaissance: Isabel Rivers,
Classical and Christian Ideas in English Renaissance Poetry (London, 1994).
J. G. Frazer: Robert Fraser,
The Making of the
Golden Bough:
The Origins and Growth of an Argument (Basingstoke, 1990).
Freud: S. Freud,
Art and Literature (Harmondsworth, 1985).
Dialectics and Decadence. Echoes of Antiquity in Marx and Nietzsche (London, 1994).
الفصل السابع
Bassae: Charles R. Cockerell,
The Temples of Jupiter Panhellenius at Aegina, and of Apollo Epicurius at Bassae near Phigaleia in Arcadia (London, 1860).
Temples and Religion: Louise Bruit Zaidman and Pauline Schmitt
Religion in the Ancient Greek City (Cambridge, 1992); Pat E. Easterling and John V. Muir (eds.),
Greek Religion and Society (Cambridge, 1985); Ken Dowden,
Religion and the Romans (Bristol, 1992).
Myth: Richard L. Gordon (ed.),
Myth, Religion and Society (Cambridge, 1981); Richard Buxton,
Imaginary Greece (Cambridge, 1994); J.-P. Vernant,
Mortals and Immortals (Princeton, 1991).
Art: Robert M. Cook,
Greek Art (Harmondsworth, 1972); Paul Zanker,
The Power of Images in the Age of Augustus (Ann Arbor, 1988).
الفصل الثامن
Thomas Jefferson and George Washington: see Carl J. Richard,
The Founders and the Classics. Greece, Rome, and the American Enlightenment (Harvard, 1994), 54 and 71ff.
Tragedy: Simon Goldhill,
Reading Greek Tragedy (Cambridge, 1986).
Socrates: Barry S. Gower and Michael C. Stokes (eds.),
Socratic Questions. The Philosophy of Socrates and its Significance (London, 1992).
Aristotle: G. E. R. Lloyd,
Aristotle: The Growth and Structure of his Thought (Cambridge, 1969).
History: Paul Cartledge,
The Greeks (Oxford, 1993); Fergus Millar and Erich Segal (eds.),
Caesar Augustus. Seven Aspects (Oxford, 1984).
Gladiators: Carlin A. Barton,
The Sorrows of the Ancient Romans. The Gladiator and the Monster (Princeton, 1993).
Fascism: Alec Scobie,
Hitler’s State Architecture: The Impact of Classical Antiquity (Pennsylvania, 1990).
America: William L. Vance,
America’s Rome (New Haven, 1989); Eric Havelock, 'Plato and the American Constitution’,
Harvard Studies in Classical
, 93 (1990), 1ff.
الفصل التاسع
Olympic Games: M. I. Finley and H. W. Pleket,
The Olympic Games. The First Thousand Years (Edinburgh, 1976).
The Cult of Pan in Ancient Greece (Chicago, 1988).
Arcadias: T. G. Rosenmeyer,
The Green Cabinet. Theocritus and the European Pastoral Lyric (California, 1969).
Virgil: Paul Alpers,
The Singer of the Eclogues. A Study of Virgilian Pastoral (Berkeley, 1979); Viktor
The Art of Virgil. Image and Symbol in the Aeneid (Michigan, 1970).
Late Antiquity: Gillian Clark,
Women in Late Antiquity. Pagan and Christian Lifestyles (Oxford, 1993).
Film and Fiction: William Golding,
The Double Tongue (London, 1995); D. Mayer,
Out the Empire. Ben-Hur and Other Toga Plays and Films (Oxford, 1994); Maria Wyke,
Cinema, and History (London, 1997); Mary Hamer,
Signs of Cleopatra: History, Politics, Representation (London, 1993). Lindsey Davis,
The Silver Pigs (London, 1989) and her other Falco mysteries.
Education: Christopher Stray,
Classics Transformed: Schools, Universities, and Society in England, 1830-1960 (Oxford, 1991).
MacNeice: Jon Stallworthy,
Louis MacNeice (London, 1995).
الفصل العاشر
Neo-Classicism: David Irwin,
NeoClassicism (London, 1997).
Some Versions of
(London, 1950).
Classics and Classicists: Mary Beard,
The Invention of Jane Harrison (Cambridge, Mass., 2000); E. R. Dodds,
Missing Persons, An Autobiography (Oxford, 1977); K. J. Dover,
Marginal Comment (London, 1994); Richard Jenkins,
The Victorians and Ancient Greece (Oxford, 1980); Jon Stallworthy,
Louis MacNeice (London, 1995).
مصادر الصور
(1-2) C. R. Cockerell,
The Temples of Jupiter Panhellenius at Aegina and Apollo Epicurius at Bassae near
(London, 1860). (2-1) Courtesy of the National Portrait Gallery. (2-2) L. Dupré,
Voyage à Athènes et Constantinople (Paris, 1825). (2-4) O. M. von Stackelberg,
Der Apollontempel zu Bassae in Arkadien und die daselbst ausgegrabenen Bildwerke (Rome, 1826). (3-1) Courtesy of the Museum of Classical Archaeology, Cambridge. (3-2) Courtesy of I. Jenkins. (3-3) Courtesy of the Fitzwilliam Museum, Cambridge. (4-1) Courtesy of the Egypt Exploration Society. (4-2) Florence, Biblioteca Medicea-Laurenziana, MS Laur. 68.2, fol. 6v. (5-3) From S. E. Alcock,
Graecia Capta. The Landscapes of Roman Greece (Cambridge University Press, 1993) after N. J. G. Pounds’s
An Historical Geography of Europe, 450 BC-AD 1330 (Cambridge University
(6-1) From D. L. Page,
Aeschyli Tragoediae (Oxford, 1972). (7-3) C. R. Cockerell,
The Temples of Jupiter Panhellenius at Aegina and of Apollo Epicurius at Bassae near
(London, 1860). (7-5) Courtesy of the British Museum. (7-6) Courtesy of the British Museum. (9-1) Courtesy of the Wheeler Opera House. (9-2) R. Goscinny and A. Uderzo,
Asterix the Gladiator (Leicester, 1973). © 1995 by Les Éditions Albert René/Goscinny-Uderzo. (9-3) G. Willans and R. Searle,
Down with Skool! (Pavillion Books, London, 1958). (9-4) G. Willans and R. Searle,
How to be Topp (Hodder and Stoughton, London, 1954). (9-5) B. H. Kennedy,
The Revised Latin
(Longman, London, 1962). (10-1) Courtesy of Mr Quentin Blake. (10-3) Courtesy of the Fitzwilliam Museum, Cambridge.
صفحه نامشخص