میراث کلاسیک: مقدمهای بسیار کوتاه
التراث الكلاسيكي: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
1 - الزيارة
2 - في الموقع
3 - أن تكون هناك
4 - دليل إرشادي بين أيدينا
5 - تحت السطح
6 - نظريات عظمى
7 - فن إعادة البناء
8 - أعظم عرض على الأرض
9 - تخيل هذا
10 - «حتى في أركاديا ها أنا ذا»
صفحه نامشخص
استعراض زمني لأهم الأحداث
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - الزيارة
2 - في الموقع
3 - أن تكون هناك
4 - دليل إرشادي بين أيدينا
5 - تحت السطح
6 - نظريات عظمى
صفحه نامشخص
7 - فن إعادة البناء
8 - أعظم عرض على الأرض
9 - تخيل هذا
10 - «حتى في أركاديا ها أنا ذا»
استعراض زمني لأهم الأحداث
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
التراث الكلاسيكي
التراث الكلاسيكي
صفحه نامشخص
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ماري بيرد وجون جراهام هندرسون
ترجمة
محمد فتحي خضر
شكل 1: العالم الكلاسيكي.
شكل 2: اليونان.
شكل 3: الأكروبول في أثينا.
شكل 4: مدينة روما.
الفصل الأول
صفحه نامشخص
الزيارة
داخل المتحف وخارجه
تبدأ مقدمة هذا الكتاب بزيارة قصيرة إلى أحد المتاحف. وقد وقع اختيارنا على المتحف البريطاني في لندن، وعلى حجرة منه تحديدا، توجد بها تحفة أثرية بعينها بقيت من العصر الإغريقي. والمتحف مكان يناسب البحث عن الحضارتين الإغريقية والرومانية، ولكن هذه الزيارة ستكون نقطة الانطلاق لاستكشاف التراث الكلاسيكي، والذي يمتد إلى ما هو أبعد من أي متحف وما به من مقتنيات.
سنتبع في زيارتنا المسار الذي حدده لنا الترقيم الموجود على مخطط المتحف الذي يتلقاها زواره، وهو المسار ذاته الذي تتبعه مختلف الأدلة بالتتابع، عبر صالات العرض (الشكل
1-1 ). فسنصعد الدرج الفخم، ثم نمر بالأعمدة الطويلة الموجودة في الشرفة الكلاسيكية، ثم ندلف إلى قاعة الاستقبال، لنمر بمحل بيع الكتب، ثم نمر من خلال جرار حفظ رماد الموتى، وجرار «علي بابا» الضخمة التي تمثل بلاد اليونان في عصر ما قبل التاريخ البطولي (الحجرتين 1 و2)، ثم نمر بأول الأشكال المنحوتة من الرخام القاسي التي تميز بداية النحت «الكلاسيكي» (الحجرتين 3 و4). ثم نسلك سبيلنا عبر المزهريات الإغريقية اللامعة بلونيها الأحمر والأسود (الحجرة 5)، إلى أن نصل إلى أسفل درج ضيق يقودنا إلى خارج المسار الرئيسي. (لم نصل بعد إلى زبدة المعروضات وأهمها؛ ألا وهي منحوتات البارثينون.) وبمجرد أن ننحرف، نجد مفاجأة في انتظارنا.
شكل 1-1: مخطط المتحف البريطاني : كيفية العثور على حجرة باساي.
شكل 1-2: عرض الغنائم: صورة كوكريل للمعبد الموجود في باساي بعد عملية التنقيب.
نصعد الدرج لنصل إلى الحجرة رقم 6، التي هي عبارة عن طابق أوسط يقع فوق صالات العرض الأخرى. ثم نمر أمام صورة مثيرة للمشاعر لأطلال قديمة رسمها نبيل إنجليزي، حرص على إضفاء علامات طبقته وشخصيته على اللوحة؛ بندقيته وكلبه (الشكل
1-2 ). يتبين لنا أن وجهتنا هي حجرة عرض ذات تصميم خاص، بها أضواء وضعت بعناية لتكون مسلطة على سلسلة من ألواح حجرية منحوتة يبلغ ارتفاعها قرابة نصف متر، وضعت متتالية، طرفا لطرف، لتشكل إفريزا (شريطا يصور أجساد محاربين، ورجالا، ونساء، وخيولا، وقناطير ...) يمتد في جميع أنحاء الحجرة عند مستوى النظر. (ليس هناك سنتيمتر واحد شاغر؛ لقد بنيت هذه الحجرة لتلائم ما بها تماما.) وهناك لوحتا معلومات لمساعدة الزائر. ويخبرنا القائمون على المتحف أن تلك المنحوتات كانت ذات يوم تشكل الإفريز، وأنها قد نحتت في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، داخل معبد للإله أبوللو في مكان يسمى باساي في أركاديا، وهي منطقة نائية تقع في الركن الجنوبي الغربي من اليونان. (جميع الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب موضحة على الخرائط الواردة فيه.)
يعرض الإفريز (كذا تقول اللوحتان) مشهدين من أكثر المشاهد شهرة في الأساطير الإغريقية. ويتبين لنا أن نصف هذا الكم الهائل إنما هو لأجساد محاربين في معركة خاضها الإغريق مع القناطير الخرافية التي يتكون كل فرد من أفرادها من نصف رجل ونصف حصان (التي اقتحمت بوحشية وليمة عرس وأفسدتها محاولة سرقة النساء)، وأما النصف الآخر فهم جنود يخوضون معركة بين الإغريق (كتيبة إغريقية على رأسها هرقل نفسه) ومحاربات الأمازون المتوحشات الغريبات غير المتحضرات. تقول المعلومات إنه من أشهر الإنجازات الاثني عشر لهرقل كانت سرقة حزام ملكة الأمازون.
صفحه نامشخص
عرف هذا الإفريز طريقه إلى المتحف البريطاني تحديدا بسبب ذلك النبيل الإنجليزي وأصدقائه، الذين مررنا بصورتهم في طريقنا إلى هنا. في أوائل القرن التاسع عشر اكتشفت بقايا المعبد الموجود في باساي على يد مجموعة من الأثريين والمستكشفين من إنجلترا وألمانيا والدنمارك. وفي غضون أشهر استطاعوا جمع ثروة صغيرة، وذلك عندما باعوا ما وجدوا من منحوتات بالمزاد للحكومة البريطانية. وقد انتهى المطاف بعدد قليل من الشظايا في كوبنهاجن، وهناك عدد قليل منها لا يزال في اليونان، ولكن أغلب تلك المنحوتات أعيد إلى إنجلترا.
مع ذلك، هناك لغز تحكيه لنا لوحة المعلومات؛ فهذه الحجرة من المتحف «بنيت لتكون ملائمة»؛ ولكن لأي شيء ملائمة؟ إن ما نراه اليوم من ثلاثة وعشرين لوحا وضعت بدقة طرفا لطرف وجنبا إلى جنب قد عثر عليها واحدا تلو الآخر متناثرة على نطاق واسع في أنقاض المعبد، في ظل فوضى عارمة؛ ولم يكن أحد يدري على وجه اليقين كيف تتناسق معا لتكون بانوراما حجرية ضخمة، ولم يكن أحد يدري ما الصورة التي من المفترض أن تكونها. لو ألقيت نظرة فاحصة على مخطط الرسومات الموجودة على ألواح الإفريز في نهاية هذا الفصل، فسترى «أحد» حلول مشكلة الشكل الأصلي. إن ما نراه في حجرة باساي بالمتحف لا يعدو كونه تخمينا صدر من أحدهم للصورة التي كان عليها الشكل الأصلي في الماضي.
كيف كان الشكل الأصلي في الماضي؟ لا تشغلنك أحجية تركيب الأجزاء معا؛ فقد نبهتنا لوحتا المعلومات أن تلك المنحوتات، في مكانها القديم، لم تكن تبدو قط كما تبدو الآن؛ فحين كانت في معبدها، كانت تلك المنحوتات على ارتفاع سبعة أمتار فوق جدار الحجرة الداخلية من المعبد؛ حيث تضعف الإضاءة، ولعله كان من الصعب أن يراها الناظر (دعونا نتخيل وجود الكثير من الغبار وخيوط العنكبوت)؛ فلم تكن في مستوى النظر، ولم تكن مسلطة عليها الأضواء للفت أنظارنا إليها كما هو الحال الآن. من البدهي بالطبع أن أقول إننا في متحف، مهمته تقديم هذه «الأعمال الفنية» لنراها (بهدف الإعجاب أو الدراسة)، نظيفة ومرتبة ومشروحة، ومن البدهي أن أقول إن معبد باساي لم يكن متحفا، بل كان مزارا دينيا، وإن هذه المنحوتات كانت جزءا من مكان مقدس عند الإغريق، و(كما سنرى) لم يكن يأتيه الزوار كي يبحثوا عن بطاقات تسمية وتفسيرات لما يرونه فيه. (فالقوم كانوا على علم بقصص صراع هرقل مع الأمازونيات، وصراع الإغريق ضد القناطير، مما كانت تحكيه لهم جداتهم.) بعبارة أخرى، هناك فجوة كبيرة بين السياق التاريخي لتلك المنحوتات والعرض الحديث لها.
إن المتاحف تعمل دائما في ظل وجود تلك الفجوة، ولقد تعلمنا نحن - زوار المتحف - أن نعتبر ذلك أمرا مفروغا منه؛ فنحن لا نستغرب إن رأينا، مثلا، رأس حربة ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ (لعلها يوما ما كانت قد اخترقت جمجمة أحد المحاربين تعسي الحظ واستقرت فيها مودية بحياته) توضع أمامنا في خزانة عرض أنيقة؛ بل إننا لا نتصور أن أيا من تلك المعروضات اللامعة في المتحف لآثار من المطبخ الروماني أعيد بناؤها - مع مكوناتها الكاملة وتماثيل الشمع المبهجة التي تصور الطهاة من الرقيق - تحمل سمات ذلك الواقع (الأشد قتامة) الذي كان يسود العصر الروماني، أو سمات أي طهاة أو خدم كانوا يعيشون في ذلك العصر. هذه هي طريقة عرض المتاحف لمعروضاتها. فنحن لا ننخدع ونصدق أن تلك المعروضات بالفعل تمثل الماضي.
في الوقت نفسه نجد أن الفجوة بين المتحف والماضي، بيننا وبين من عاشوا في تلك الأزمان، تثير عددا من الأسئلة. في حالة باساي، قد نكون على يقين أن المنحوتات كانت في الأصل جزءا من حرم ديني، وليست جزءا من متحف. ولكن ما مفهوم لفظة «الدين» هنا؟ وما تصورنا لذلك «الدين» الذي كان يمارس في المعابد الإغريقية؟ ألم تكن الأغراض «الدينية» أيضا «أعمالا فنية» في أعين الإغريق، كما هي في أعيننا؟ إن هذا المعبد (كما سنكتشف لاحقا) كان موجودا في مكان ناء؛ في الجزء الخلفي لأحد الجبال. ترى ماذا كان الغرض من إنشاء معبد هناك؟ ألم يسبق لأحد أن أتى إليه يوما ليزوره ويتجول في أرجائه باعتباره سائحا لا متعبدا ومتنسكا؟ ألم يرغب يوما أحد الزوار في ذلك العهد البعيد أن يشرح له أحدهم تلك المشاهد التي ترتفع سبعة أمتار وبالكاد ترى؟ وما الفرق بين زيارة هؤلاء لذلك المعبد وزيارتنا نحن للمتحف؟ بعبارة أخرى، ما مدى تأكدنا من الفجوة التي تفصل بيننا وبينهم، ومن الأشياء التي نشترك فيها مع زوار ذلك المعبد في القرن الخامس قبل الميلاد (من حجاج وسياح ومصلين ...) وتلك التي تفرق بيننا وبينهم؟
كما أن هناك تساؤلات حول ما يحكيه لنا التاريخ من أحداث وقعت خلال تلك الحقبة التي تفصلنا عنهم. إن تلك المنحوتات ليست مجرد أغراض ترجع إلى قصة تربط فقط بيننا وبين من بنوا ذلك المعبد أول مرة واستخدموه. ما الذي كانت تعنيه باساي لسكان اليونان خلال العهد الروماني، بعد مضي 300 سنة أو نحو ذلك على تشييد ذلك المعبد، عندما أتت جحافل روما القديمة بجبروتها لتضم بلاد اليونان إلى أكبر إمبراطورية عرفها العالم؟ هل أثر ذلك الغزو الروماني على من كانوا يؤمون ذلك المعبد، وعلى توقعاتهم؟ وماذا عن زمرة المستكشفين الجريئين الذين تحدوا لصوص اليونان (وكانت حينها تحت حكم الأتراك العثمانيين) لإعادة اكتشاف المعبد واستعادة ما به من منحوتات ليعودوا بها إلى إنجلترا؟ وهل كان ذلك فعلا يدل على الإمبريالية، أو الاستغلال الذي نخجل من ذكره الآن؟ وهل كانت تلك الزمرة سياحا كحالنا، أم لم تكن كذلك؟ وما المكانة التي كانت تمثلها باساي في نظرة هؤلاء للعالم القديم؟ وهل هي رؤية تجمع بيننا وبينهم، قائمة (على الأقل جزئيا) على الشغف المشترك بما كان لدى الإغريق والرومان من أدب وفن وفلسفة؟
نحن وهم: التراث الكلاسيكي
إن دراسة التراث الكلاسيكي هي ما يشغل تلك الفجوة التي تفصل بيننا وبين عالم الإغريق والرومان. والأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب هي الأسئلة ذاتها التي تثيرها المسافة التي تفصلنا عن «عالمهم»، وفي نفس الوقت يثيرها قربنا منهم، وتثيرها معرفتنا بعالمهم، وذلك في متاحفنا، في أدبنا، في لغاتنا، في ثقافتنا، وفي طرق تفكيرنا. إن هدف دراسة التراث الكلاسيكي ليس فقط «اكتشاف» العالم القديم أو «كشف النقاب» عنه (رغم أن هذا أحد أهداف هذه الدراسة، كما تبين إعادة اكتشاف باساي، أو التنقيب عن أبعد قواعد الإمبراطورية الرومانية على الحدود الاسكتلندية)؛ فهدف هذه الدراسة أيضا هو تحديد علاقتنا بذلك العالم ومناقشة تلك العلاقة. سوف يستكشف هذا الكتاب تلك العلاقة، وتاريخها، بدءا من مشهد مألوف، ولكنه - في الوقت نفسه، كما سنرى - قد يصبح محيرا وغريبا؛ أجزاء متفرقة من معبد إغريقي معروضة في قلب لندن في العصر الحديث. إن كلمة متحف بالإنجليزية
museum ، هي في الأصل كلمة لاتينية تعني «معبد ربات الفنون»؛ فمن أي وجه يعد المتحف الحديث هو المكان المناسب للحفاظ على كنوز من معبد من العالم القديم؟ هل «يبدو» المتحف مناسبا لهذا الدور وحسب؟
إن القضايا التي أثارتها باساي تقدم نموذجا لفهم التراث الكلاسيكي بأوسع معانيه. وبطبيعة الحال، فإن التراث الكلاسيكي يتجاوز ما يخص الإغريق والرومان من بقايا مادية، وهندسة معمارية، ونحت، وفخار، ولوحات ورسومات. فهو أيضا معني (من بين أمور أخرى شتى) بما كان لديهم من أشعار ومسرحيات وفلسفة وعلوم، وتاريخ كتب في العالم القديم، ولا يزال موضع قراءة ومناقشة باعتباره جزءا من ثقافتنا. ولكن هنا أيضا نجد قضايا مماثلة على المحك؛ فنجد أسئلة تثار حول الكيفية التي ينبغي أن نقرأ بها أدبا عمره يزيد على ألفي عام كتب في مجتمع بعيد كل البعد ومختلف كل الاختلاف عن مجتمعنا.
صفحه نامشخص
إن قراءة كتابات أفلاطون حول الموضوعات الفلسفية، على سبيل المثال، ستجعلنا نواجه هذا الاختلاف، ونحاول فهم مجتمع إغريقي كان موجودا في القرن الرابع قبل الميلاد، لم تكن الكتابات فيه على شكل كتب مطبوعة، ولكن على شكل مطويات من ورق البردي، ينسخها يدويا عبيد ذلك الزمان؛ مجتمع كانت «الفلسفة» فيه لا تزال نشاطا يمارسه الناس في حياتهم اليومية، وكانت جزءا من منظومة اجتماعية تحتفي بالشراب وولائم العشاء. وحتى عندما أصبحت الفلسفة إحدى المواد الدراسية التي تتناولها المحاضرات والفصول الدراسية، ظلت في حد ذاتها (كما أصبحت إلى حد ما بحلول القرن الرابع) أمرا يختلف تمام الاختلاف عما عهدناه في جامعاتنا ومعاهدنا الحديثة؛ فقد كانت أكاديمية أفلاطون هي أم الأكاديميات، بل إن كلمة
Academy
مأخوذة من اسم لضاحية من ضواحي أثينا. من ناحية أخرى، وسواء أكانت تلك الفلسفة بعيدة عنا أم لا ، فإننا حين نقرأ ما كتبه أفلاطون، نقرأ فلسفة تخصنا نحن أيضا لا هم وحسب. إن كتابات أفلاطون الفلسفية لا تزال تتربع على عرش أكثر الكتابات الفلسفية شيوعا في العالم؛ وحين نقرأ ما كتبه أفلاطون، فإننا حتما نقرؤه باعتباره جزءا من «تراثنا» الفلسفي، في ضوء كل من أتى بعده من الفلاسفة، الذين هم أنفسهم قرءوا ما كتب أفلاطون ... وهذه المنظومة التفاعلية المعقدة من القراءة والفهم والجدل والنقاش هي في حد ذاتها التحدي الذي تواجهه دراسة التراث الكلاسيكي.
إن المعبد الموجود في باساي نموذج فريد من نوعه لا يتكرر؛ وهو يثير أسئلة تختلف عن تلك التي يثيرها غيره من الآثار أو النصوص القديمة. وفي هذا الكتاب سوف نتتبع كل المسارات التي تركها ذلك المعبد على اختلافها، وما به من منحوتات، وما يتعلق به من تاريخ؛ بدءا من المعارك الأسطورية التي تصورها جدرانه (الرجال الذين يقاتلون النساء، والرجال الذين يقاتلون الوحوش) وكذلك الألغاز التي تحيط بالغرض من إنشائه، والوظيفة التي كان يؤديها، واستخداماته، وصولا إلى عمال السخرة الذين بنوه، والمناظر الطبيعية التي تحيط به، ومن زاره من القدماء وأعجب به، وأخيرا، وليس آخرا، الأجيال التي جاءت بعد ذلك ممن أعادوا اكتشافه وأعادوا شرح معانيه وأسراره.
بطبيعة الحال، كل شيء بقي من العالم الكلاسيكي القديم هو شيء فريد من نوعه. وفي نفس الوقت، وكما سيظهر لنا في هذا الكتاب، هناك مشاكل وقصص وأسئلة ودلالات تجمع بين كل تلك البقايا والآثار؛ فثمة موضع في «قصتنا» الثقافية يجمع هذه الأشياء (يجمعها وحدها دون شريك). وذلك كله، والتأمل فيه، هو محور دراسة التراث الكلاسيكي.
الإفريز الموجود في معبد أبوللو في باساي
في اللوحة التالية رتبنا رسومات تخطيطية للمنحوتات التي تزين الجدران العلوية للقاعة الرئيسية داخل معبد أبوللو في باساي. وسنتبع الترتيب المقدم في حجرة باساي في المتحف البريطاني. تفسر المناقشة التي أوردناها في الفصل السابع أهمية هذا الإفريز بشكل أكبر.
الشريط المبين هنا مأخوذ من كتاب برايان سي ماديجان بعنوان «معبد أبوللو في باساي، الكتاب الثاني» (برينستون ، 1992)، وإن كان هذا الترتيب للألواح الثلاثة والعشرين (الذي ابتكره فريدريك إيه كوبر) مختلفا بدرجة كبيرة. جرب حلهما لأحجية الإفريز في مؤتمر خاص للمتحف البريطاني عقد عام 1991. •••
الألواح التي تصور مشهد «هرقل ضد ملكة الأمازونيات» (1) في المنتصف إلى يسار الشريط، أعلى العمود الحر ذي التاج «الكورنثي الطراز»، تواجه زوار المعبد وهم يدخلونه من جهة اليمين.
الألواح التي تصور مشهد «معركة مع الأمازونيات»، وفق الترتيب المعروض تتواصل إلى يمين هرقل، على اللوح الأول على الجدار الطويل، وإلى يسار هرقل، وهذا يشغل الجدار الطويل بأكمله.
صفحه نامشخص
تشغل الألواح التي تصور مشهد «معركة مع اللابيثيين» الجزء المتبقي من الجدار الجانبي إلى يمين هرقل، علاوة على أغلب الجانب القصير إلى يمين الشريط، الذي يمتد أعلى رأس الزوار عند دخولهم المعبد، وكان مرئيا عند خروجهم منه.
الألواح التي تصور مشهد «أبوللو وأرتميس» (2) تظهر للعيان عند الجزء السفلي الأيمن، وكأنها تشير إلينا كي نبدأ النظر على امتداد الجانب الطويل من يمين الجزء السفلي إلى يساره. وهي أيضا تفصل المشهدين، لكن عند الركن العلوي الأيسر المقابل تتلامس ألواح الخرافتين. إذا كان تمثال أبوللو يبدو «محاصرا» في معبده، تذكر أن هذا التمثال العظيم كان يربض في الركن المقابل لقاعته عند الموضع ⊗ ، خلف الإفريز على سلسلة الأعمدة.
الفصل الثاني
في الموقع
الطريق إلى اليونان
قصة اكتشاف المعبد الموجود في باساي هي قصة تتضمن عناصر شتى: الاستكشاف، وحسن الحظ، والصداقة، والمصادفة، والدبلوماسية الدولية، والضغط، وفن البيع، والقتل. وهي أيضا قصة تكشف الكثير عن الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها تعريف التراث الكلاسيكي وفهمه حتى في عصرنا هذا.
شكل 2-1: التشبه بأهل البلاد: بايرون في ثياب شرقية.
تبدأ القصة في أثينا، في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. ولا أعني العاصمة المترامية الأطراف التي نراها الآن، ولكن أعني بلدة صغيرة فوضوية ترزح تحت الحكم التركي، تضم حوالي 1300 منزل، ولا تعدو كثيرا أن تكون مجرد قرية من القرى. هي بالتأكيد ليست مركزا سياحيا، ولم يكن بها مكان يصلح لأن تقيم فيه، اللهم إلا إن وجدت ديرا، أو أرملة كريمة إذا كنت محظوظا. وما كنت لتجد فيها من يمد إليك يد العون، اللهم إلا من كان مثلك من زوارها الغرباء عنها، وعددا قليلا من الغرباء عنها الذين طال بهم المقام هناك. بعبارة أخرى، يجدر بك أن تتشبه بأهل البلاد وتجاري اللورد بايرون، أشهر إنجليزي زار البلاد في ذلك الوقت (انظر الشكل
2-1 ). وأفضل من ذلك أن تتبع لويس سيباستيان فوفيل، الذي عاش معظم حياته في أثينا؛ حيث كان يحوز عدة ألقاب رنانة تخدع أبناء عصرنا، منها لقب «القنصل الفرنسي» (انظر الشكل
2-2 ). كان فوفيل يعرف الجميع، وكان بإمكانه أن يجلب لك بحيله أي شيء تريده، حتى لو كان الإذن بدخول معبد البارثينون العظيم، الذي كان حينها يضم مسجدا في وسط حصن الحاكم التركي (وقد هدم منذ زمن لإخلاء المعبد لليونان، سواء الوثنية أو المسيحية).
صفحه نامشخص
شكل 2-2: منزل فوفيل: القنصل الفرنسي في منزله في أثينا.
في عام 1811 حدث أن قدمت إلى هنا زمرة من المستكشفين تجمعوا معا: زوجان ألمانيان يجمعان بين الرسم والهندسة المعمارية، وأثريان دنماركيان (وكانوا قد التقوا جميعا كطلاب في روما)، ثم انضم إليهم مهندسان معماريان إنجليزيان هما سي آر كوكريل (انظر الشكل
2-3 ) وجون فوستر، وكانا قد وصلا مؤخرا من إنجلترا عبر القسطنطينية (إسطنبول الآن). وكانت أول بعثة مشتركة قاموا بها إلى أنقاض أحد المعابد في جزيرة إيجينا، وهي ليست بعيدة عن أثينا. وقد شرعوا في رحلتهم تلك إبان إرسال اللورد إلجين آخر شحناته لمنحوتات البارثينون إلى إنجلترا. وهنا حكاية لطيفة وقعت مصادفة؛ إذ ركبوا البحر في قارب صغير، فمروا بسفينة إلجين الضخمة (والتي كانت أيضا تقل على متنها بايرون عائدا إلى أرض الوطن)، فغنوا لبايرون إحدى أغانيه المفضلة، فدعاهم إلى متن السفينة الكبيرة وشربوا معا نخب وداع أو نخبين. لقد كانت بداية مبشرة لحملة ناجحة. أما منحوتات المعبد التي عثروا عليها من خلال الحفر في الأنقاض، فقد انتهى بها الأمر إلى أن تقبع بفخر في متحف بافاريا الجديد الذي أنشأه الأمير لودفيج الأول في عاصمته مدينة ميونخ ؛ حيث لا تزال تعرض في متحف جليبتوتاك.
شكل 2-3: المهندس المعماري الشاب: تشارلز آر كوكريل.
كانت خطتهم القادمة هي السفر إلى باساي، وهي رحلة أبعد بكثير وأخطر بكثير؛ فقد كانت المنطقة المحيطة بها موبوءة بمرض الملاريا، وأول مسافر قادم من أوروبا الغربية يمر بذلك المعبد عاش بالكاد ليروي ما حدث (وكان رجلا فرنسيا يدعى يواكيم بوشر، وذلك في عام 1765). وعندما حاول أن يعود لزيارته مرة أخرى بعد ذلك بوقت قصير، اغتيل على يد من وصفهم كوكريل ب «قطاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا». ومع ذلك، فإن تلك الزمرة من المستكشفين اعتمدت على الوصف القديم للمعبد الذي كتبه رحالة إغريقي من القرن الثاني قبل الميلاد، والقائل بأن ذلك المعبد قد صممه المهندس المعماري نفسه الذي صمم البارثينون؛ تلك التحفة الخالدة من العمارة القديمة. وكان احتمال العثور على بارثينون آخر يدور في أذهانهم، فتركوا أثينا قاصدين باساي، ووصلوها في أواخر عام 1811.
كان كوكريل هو أول من اكتشف الإفريز. فبعد بضعة أيام من التخييم على جانب التل والبحث في الأنقاض هناك، لاحظ كوكريل ثعلبا يخرج من مخبئه العميق تحت كومة حطام المعبد. وبعد بحث الأمر وجد بين ذلك الركام، عميقا في ذلك المخبأ، لوحا منحوتا من الرخام، فخمن محقا أنه قطعة من إفريز المعبد. غطى فريق المستكشفين بعناية ما عثروا عليه، وذهبوا ليعقدوا اتفاقا مع السلطات التركية، لتسمح لهم بالحفر والعثور على البقية واستخراجها. ثم عادوا بعد عام، هذه المرة بدون كوكريل، الذي كان قد انتقل إلى صقلية، وبدون أحد الدنماركيين، الذي مات بسبب الملاريا. وجمعوا جيشا من العمال المحليين، وصدوا هجمات من قطاع الطرق الذين كانوا على الأرجح جيرانا لعمالهم، إن لم يكونوا أبناء عمومة لهم، وحفروا فوجدوا الإفريز وغيره من المنحوتات الصغيرة (انظر الشكل
2-4 )، وحملوها إلى البحر على مسافة تزيد على ثلاثين كيلومترا من الطرق الوعرة، ومن هناك نقلوها إلى جزيرة قريبة تسمى زاكينثوس (التي كانت آنذاك لحسن حظهم تحتلها البحرية البريطانية). ولم يتبق إلا بيعها.
ولعل من طرق سرد هذه القصة أن نقصها على أنها قصة تنتمي إلى الثقافة والصفوة الأرستقراطية؛ فدراسة التراث الكلاسيكي مثلها مثل «الجولة الكبرى»؛ هواية لطبقة النبلاء الإنجليز وأقرانهم من الأوروبيين (أسماء الألمانيين في حد ذاتها تشي بذلك: البارون فون هالرشتاين، البارون أوتو ماجنوس فون ستاكيلبرج). لقد كانوا فتية من الطبقة العليا تعلموا اللاتينية واليونانية في المدرسة، وأتبعوا ذلك برحلة «ثقافية» إلى اليونان نفسها؛ حيث أكثروا من الشراب والتلذذ بالفتيات هناك بلا شك. كان هذا عالما يخص نخبة ثرية بما يكفي للسفر هنا وهناك، ولك أن تتخيل الثراء الكبير والسريع من جراء بيع الكنوز الأثرية التي كانوا يجدونها.
شكل 2-4: العمل يجري على قدم وساق: التنقيب عن المعبد الموجود في باساي.
لكن الأمر كان أكثر تعقيدا من ذلك. ولنتفكر هنا: ماذا كان هدفهم من استكشاف اليونان؟ كان بعض المشغولين بأمر باساي لهم أهداف عملية تتجاوز بكثير تصورنا لما يوحيه تعبير «الجولة الكبرى». لقد كان كوكريل نفسه بالتأكيد من الأثرياء، ولكن كان لجولته، على الأقل في جانب منها، أهداف مهنية؛ فقد كان مهندسا معماريا، يبحث عن روائع البناء القديمة ليعرف منها ما يفيده في مهنته. وقد كان على وجه الخصوص شغوفا بأن يرى إلى أي مدى كانت بقايا المعابد الإغريقية متطابقة مع توصيات فيتروفيوس، وهو مهندس معماري روماني قديم صاحب دليل إرشادي في مجال الهندسة المعمارية كان ما يزال مستخدما بوصفه دليلا مهنيا. لم يكن هذا مجرد سعي بارد عن الجمال والثقافة؛ فقد كان العالم القديم يقدم نموذجا عمليا للتصميم، يعلم أهل ذلك الفن من المعاصرين «كيف» يصممون تلك الأشياء.
صفحه نامشخص
وبالطريقة عينها تقريبا كان شباب الفنانين في ذلك الزمان يتعلمون المهارات عن طريق دراسة المنحوتات القديمة؛ وذلك عن طريق عملية نسخ وإعادة نسخ متواصلة للقوالب الجصية الخاصة بالتماثيل القديمة، أو (أفضل من ذلك) عمل نسخ للأعمال الأصلية نفسها. ولم يكن هذا جزءا من منهج دراسي في «تاريخ» الفن، ولكن كان درسا عمليا يتلقونه - وفق ظنهم - من أفضل أعمال النحت التي عرفها العالم على الإطلاق. أما اليوم فلم يعد التدريب الفني يعتمد على أعمال الإغريق والرومان كوسائل رئيسية للتعلم. في الواقع، في وقت سابق من القرن العشرين كانت كليات الفن الإنجليزية تتخلص من القوالب الجصية للمنحوتات القديمة بالمئات، وكانت تحطم في محاولة مبالغ فيها لتأكيد التحرر مما كان ينظر إليه (بحق أو بغير حق) على أنه قيود فرضها ذلك التعليم «الكلاسيكي». ولكن دور العالم الكلاسيكي كنموذج عملي، سواء للتصميم، أم للسلوك، ما يزال يشكل جزءا من نقاشاتنا اليوم. على سبيل المثال، نجد العديد من خلافات المعماريين الأخيرة يركز على ما إذا كانت الأشكال المعمارية القديمة لا تزال هي الأفضل، والأنسب للمحاكاة.
تصور معي البعثة الدولية المتنافرة التي قصدت باساي: ألمانيين ودنماركيين وإنجليزيين، مع مساعدة لا تقدر بثمن من رجل فرنسي. ثم تذكر أنه في وقت اكتشافاتهم كانت أوروبا في قلب الحروب النابليونية. لم تكن تلك الزمرة مجرد مجموعة من الأرستقراطيين تلاقت عقولهم؛ بل كانوا مجموعة من الأعداء المحتملين، جمعت بينهم دراسة التراث الكلاسيكي، وإعادة اكتشاف هذا التراث الكلاسيكي، ولم يكن السبب الوحيد لذلك أنهم، في تلك البقعة، كانوا بعيدين عن ساحات القتال؛ بل لأنهم كانوا يتشاركون بعض الاهتمامات الأكاديمية والثقافية، ولا يبالون بالحرب الدائرة. كان التراث الكلاسيكي يمثل تحديا أكبر بكثير للمصالح القومية في أوروبا القرن التاسع عشر.
كانت إعادة اكتشاف اليونان، بطريقة ما، بمنزلة إعادة اكتشاف لجذور الثقافة الغربية ككل؛ فقد كانت وسيلة لرؤية أصل الحضارة الأوروبية بأسرها، والتي تسمو فوق الخلافات المحلية والقومية. لا يهمنا أن تلك المشاحنات كانت دائما على استعداد لتطفو على السطح مرة أخرى، فعندما يحين وقت اقتسام كنوز العالم القديم التي اكتشفت، كان المهم في الأمر حقا أن الحضارة الإغريقية منحت الثقافة الغربية جذورها المشتركة التي يستطيع كل المتعلمين على الأقل التشارك فيها. وكما سنرى في الفصل الثامن من هذا الكتاب، فإنه بنفس الروح تقريبا، بعد ما يقرب من 200 سنة، لا يزال الناس ينظرون إلى أثينا القديمة على أنها مهد الديمقراطية في العالم، وأنها الأصل الموحد لنظام سياسي مفضل، حتى لو اختلفنا حول المعنى الحقيقي «للديمقراطية»، وما كان معناها، وأي صورها هي الأفضل. بل إن النزاعات والحروب يمكن أن تبدو، من جميع الجوانب، وكأنها اجترار للمعارك القديمة، وأنها تدور حرفيا على ذات البقاع القديمة. وفي أعين من تلقوا تعليما كلاسيكيا، عبر الحدود الحديثة، تبدو الأحداث وكأنها اكتست بثوب قديم مألوف.
ولكن الحقيقة الأهم حول بعثة باساي هي أنها كانت «رحلة استكشافية». فلقرون ظلت دراسة التراث الكلاسيكي لا تشتمل فقط على الجلوس في مكتبة لمطالعة الأدب الذي بقي من العالم القديم، أو زيارة المتاحف لرؤية المنحوتات المعروضة بأناقة، بل اشتملت كذلك على رحلات اكتشاف للعثور على أعمال الحضارات الكلاسيكية والعالم الكلاسيكي على أرض الواقع، حيثما وجدت.
لذلك كان دارسو التراث الكلاسيكي، وما زالوا، «مستكشفين»؛ فقد ارتحلوا لأشهر على الجبال التركية القاحلة، بحثا عن حصون الغزو الروماني. وقد حفروا وعثروا على قصاصات من ورق البردي القديمة، خطت عليها درر الأدب القديم، وذلك في رمال مصر (التي كانت ذات يوم إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية). لقد سافروا، مثل كوكريل ورفاقه، في الشوارع الجانبية للريف اليوناني يرسمون ويقيسون، والآن يصورون، مواقع للعالم القديم طواها النسيان منذ أمد بعيد. لقد استأجروا الحمير، وقطعوا مفاوز الصحراء السورية، وتنقلوا من دير إلى دير، يجوبون مكتباتها بحثا عن مخطوطات على أمل العثور على بعض نصوص العالم القديم المفقودة، نسخها بأمانة راهب من القرون الوسطى. كان الاهتمام بالعالم القديم يعني غالبا أن ترحل «إلى هناك»، لتشرع في رحلة إلى المجهول.
السعي وراء الحلم
بطبيعة الحال كانت تلك الرحلة أكثر تعقيدا من مجرد «اكتشاف» بسيط (وهو بالتأكيد ما يعرفه أي مستكشف في أي مكان)؛ فقد كانت بلا شك تنطوي على التوتر بين الواقع والمأمول، وفي هذه الحالة، بين صورة أمجاد اليونان القديمة، باعتبارها ذروة الحضارة، وواقع اليونان كبلد يزار. نحن لا نعرف بالضبط ما كان كوكريل يتوقعه عندما انطلق في رحلته من إنجلترا، ولا نعرف ردة فعله عندما حط على أرض أثينا. ولكن من الواضح أن العديد من مسافري القرن التاسع عشر ساءهم أن يكتشفوا (مهما كان جمال المشاهد أو رومانسية الأطلال) القرية الرخيصة التي تقبع محل أثينا القديمة، وما كان ينتشر فيها من قذارة وأمراض، وما وجدوه من الكثير من سكانها من وضاعة وخيانة للأمانة. وقد كتب أحد أوائل الزوار يقول: «دموع تملأ العيون، ولكن ليست دموع فرحة وبهجة.» كما عبر دي كوينسي عن أحوال «اليونان الحديثة» بعبارة شهيرة قال فيها: «ما هي المنغصات التي تتفرد بها اليونان، وتصد السياح عن القدوم إلى تلك البلاد؟ إنها أمور ثلاثة: اللصوص، والبراغيث، والكلاب.» كيف أمكن لهؤلاء أن يروا «المجد الذي كانت اليونان عليه» رغم تدهور أحوالها في العصر الحديث؟
كان هناك العديد من الإجابات لهذا السؤال. وقد حول بعض المسافرين الصعوبات التي واجهوها إلى فرص؛ فالنضال البطولي ضد الأمراض والغش والسرقة على يد قطاع الطريق كل هذا يمكن تصوره على أنه تعزيز لبطولة من يكتشفون اليونان القديمة نفسها، بما فيها من تبجح بحكايات الأكمنة، أو الموت من أجل الشهامة في أقاليم بعيدة، وكل هذا أضاف إلى رومانسية الاستكشاف. حاول آخرون أن يخترقوا بأنظارهم السطح القاتم لطبقة النبلاء في اليونان القديمة، والتي لا تزال موجودة (وإن كانت مخفية إلى حد ما) في اليونان الحديثة، وبوسعك دائما أن تجعل الأتراك هم العدو الحقيقي (كما فعل اللورد بايرون عندما عاد بعد ذلك ليقاتل ويموت من أجل اليونان في حرب الاستقلال). ولكن البعض وصل إلى نتيجة مختلفة تماما؛ وهي أن أفضل زيارة لليونان تكون في عالم الخيال.
بعبارة أخرى، كان هناك تصور آخر لاكتشاف العالم القديم. وبعض أقوى التعبيرات عن اليونان القديمة، تلك التي شكلت رؤيتنا وفهمنا لماضي العالم القديم، كانت إبداعات أناس لم تطأ أقدامهم قط أرض اليونان، فكانت اليونان التي كتبوا عنها، وبوضوح شديد، يونانا «وهمية». على سبيل المثال، جون كيتس الذي احتفى في أشعاره بروعة الفن الإغريقي والثقافة الإغريقية في إنجلترا في مستهل القرن التاسع عشر (لعل أشهرها «قصيدة على جرة إغريقية»)، زار روما، لكنه لم يغامر قط بأن يقصد اليونان. كما أنه لم يقرأ كثيرا من الأدب القديم، أو على الأقل ليس بأسلوب منهجي دراسي. وكان تقريبا لا يدري شيئا عن اللغة اليونانية القديمة، ولكنه كان يعتمد كلية على الترجمات، وعلى ما كان يمكنه رؤيته في المتاحف.
هذه الصور المتباينة لم توجد في تناغم سلس بعضها بجوار بعض. وكيتس نفسه كان موضع سخرية لا هوادة فيها من قبل الكثيرين في زمانه لجهله باليونان واليونانية. بل إن أحدهم انتقد قصائده نقدا لاذعا (لدرجة أن الكثيرين قالوا إنه أدى إلى وفاته) وأطلق عليه اسم «النظام التافه» الذي كانت رؤيته الرومانسية لثقافة العالم القديم لا تقوم إلا على خياله هو. لكن بايرون وقف على حقيقة الأمر:
صفحه نامشخص
جون كيتس، الذي قتلته مقالة نقدية؛
بينما كان ينتظره مستقبل عظيم،
حتى إن لم يكن حديثه واضحا، فبدون اليونانية
تمكن من الحديث عن آلهة القدماء،
مثلما يتوقع لها أن تتحدث
يا للمسكين! لقد كان مصيره تعسا.
بل إن رؤية كيتس لجمال اليونان القديمة ورفعتها، سواء أكانت خيالا أم لا، أصبحت المعيار الذي يحكم من خلاله على اليونان المعاصرة وبقايا ماضيها.
ويظهر النزاع جليا فيما جرى عند أخذ رخام إلجين من البارثينون إلى المتحف البريطاني. بعض الناس، حتى في ذلك الوقت (فهذا ليس جدلا مقتصرا على القرن العشرين)، رأوا أن ذلك تشويه فاضح لتلك التحفة الأثرية، وسطو وتدنيس لكنوز اليونان. كان أعلى النقاد صوتا هو اللورد بايرون، وثمة مفارقة أخرى في حكاية حفلة الوداع التي أقيمت في البحر وضمت كوكريل ورفاقه؛ وهي أن بايرون نفسه كان مسافرا عائدا إلى إنجلترا على متن السفينة التي تحمل بعض رخام إلجين وكان قد كتب للتو قصيدة لاذعة تندد بتدنيس إلجين للبارثينون. وصور بايرون نظيره الاسكتلندي إلجين على أنه الأسوأ في سلسلة طويلة من المخربين الذين نهبوا ذلك الضريح للإلهة بالاس أثينا:
لكن من، من بين جميع لصوص ذلك المعبد،
في ذلك المكان العلي، حيث ترقد بالاس؛ يجرؤ على تهريب
صفحه نامشخص
الأثر الأخير لحكمها العتيق،
آخر المفسدين وأسوؤهم وأغباهم، من هو؟
فلتخسئي يا كاليدونيا! أن يكون لك ابن مثل هذا!
ولكن الأمر الأكثر إثارة للانتباه هو حقيقة أن الكثيرين في إنجلترا، نظرا لتمسكهم برؤية خاصة لكمال العالم القديم، لم يرقهم ما رأوا عندما عرضت منحوتات البارثينون في نهاية المطاف في المتاحف؛ فقد وجدوا أنها كانت مختلفة تماما عما كانوا يتوقعونه، لقد كانوا يتوقعون أن يروا أعظم تحفة أثرية عرفها العالم القديم، فحين رأوا قطع الرخام المهشمة تلك كانوا على يقين أن هناك خطأ فادحا قد وقع، وأن تلك التماثيل ليست أعمالا فنية أصلية، بل هي بدائل تشبهها نحتت بعد ذلك بقرون في عهد الإمبراطورية الرومانية.
الحقيقة المهمة الأخرى هي أن بعثة باساي كانت رحلة استكشافية إلى اليونان لا إلى إيطاليا. صحيح أن بعض أفراد البعثة زاروا روما. وفعل كوكريل ذلك عندما جعلت نهاية الحرب النابليونية الزيارة ممكنة؛ لأنه في عام 1811 كانت كل من روما ونابولي، في الواقع، مغلقتين رسميا أمام الإنجليز. ومع ذلك، فكون اختيارهم وقع على اليونان دون إيطاليا لتكون موضع رحلتهم الاستكشافية يمثل تغييرا كبيرا في الاتجاه في أواخر القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر؛ فلم يعد الهدف من زيارة العالم القديم في الخارج روما فحسب، ولكن شواطئ أثينا الأبعد وما وراءها.
إن فكرة دراسة التراث الكلاسيكي بوصفها عملية اكتشاف تفسر هذا التغيير جزئيا. فإذا كان ينظر إلى استكشاف أراضي العالم القديم على أنه رحلة بطولية إلى أماكن غريبة ونائية، فإن روما تصير غير مناسبة بعض الشيء. لعل استكشاف إيطاليا كان فيما مضى صعبا وغريبا. ولكن بحلول عام 1800 كان هناك بالفعل الكثير من الفنادق في روما على الأقل، وصار أمر السفر سهلا نسبيا، وكذلك الأدلة والكتيبات الإرشادية؛ باختصار كانت هناك بنية تحتية لصناعة سياحية مزدهرة في مرحلة مبكرة. وبالنسبة لمن كانوا يبحثون عن الإثارة وخوض المجهول، ولا يرضون ب «عطلة» تلائم أفراد الطبقة الوسطى، كانت الخطوة التالية هي اليونان بتحفها الأثرية التي لم يستكشفها أحد ومخابئها الجبلية وأمراضها الغريبة.
صنع في اليونان، مطلوب في روما
ولكن كان هناك أيضا نوع آخر من المنطق في الانتقال من إيطاليا إلى اليونان، وهو منطق أتى من العالم القديم نفسه. كانت روما هي المدينة التي غزت العالم؛ بلدة صغيرة في وسط إيطاليا حققت سلسلة غير عادية من الانتصارات العسكرية على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، فأخضعت معظم دول العالم المعروف تحت سيطرتها. ولكن، في الوقت نفسه، ظل ذهن الثقافة الرومانية مشغولا بفكرة أنها مدينة لثقافات البلاد التي غزتها الجيوش الرومانية، وعلى رأسها اليونان. وقد رأى الشاعر الروماني هوراس المفارقة الكبرى عندما كتب في «رسالته» إلى الإمبراطور الروماني أغسطس أن غزو اليونان كان أيضا غزوا لروما؛ ذلك لأن الحضارة الرومانية، والفن والأدب الرومانيين، كانت تعود إلى اليونان. وورد في رسالته العبارة التالية:
Graecia capta ferum uictorem cepit ؛ بمعنى: «روما القوية استولت عليها اليونان الأسيرة.»
من الصعب معرفة إلى أي مدى تطفلت روما حقا على الثقافة الإغريقية، أو إلى أي مدى كان الرومان حقا مجرد برابرة متوحشين إلى أن غزوا الإغريق فصاروا متمدنين. ومن الصعب، بنفس المقدار تقريبا، معرفة ما يعنيه أن يقال عن روما، أو أي مجتمع آخر، إنه ليس لديه «ثقافة» تخصه بذاته، وإن حضارته لم تكن إلا شيئا استعاروه من غيرهم. ولكن بالتأكيد كان الرومان أنفسهم في كثير من الأحيان يضعون أنفسهم في هذا الإطار حين يتحدثون عن علاقتهم باليونان؛ إذ نجدهم يرجعون ما لديهم من فن وهندسة معمارية، وكذلك العديد من ألوان أدبهم وشعرهم، يرجعونها جميعا ومباشرة إلى اليونان.
صفحه نامشخص
فهوراس، على سبيل المثال، قدم شعره على أنه يتبع تقاليد من سبقوه من شعراء اليونان، بل كان يقول إن أعماله هي تقليد مقصود لموضوعات الشعر الإغريقي وأشكاله. فلكي يطالب هذا الرجل بمكانته بوصفه شاعرا «رومانيا» قديما، ها هو يعلن أنه مدين للشعر الذي نظمه الإغريق قبل أكثر من 500 عام قبل ولادته، وكان يدرس ويدرس منذ زمن بعيد في عالم الإغريق على أنه أدب إغريقي. كما نجد المعابد الرومانية هي الأخرى (والتي كانت أشبه بالمتاحف) تكتظ بالأعمال الفنية الإغريقية، وبأعمال فنية رومانية لم تكن إلا نسخا لأعمال إغريقية، أو نسخ وتنويعات على نفس الموضوعات.
لذلك فإن اكتشاف روما، سواء على أرض الواقع، من بين الأنقاض، أم عن طريق قراءة الأدب اللاتيني في إحدى المكتبات، كان دائما يعني أن يقاد المرء إلى اليونان، وكذلك لاكتشاف عالم الإغريق من خلال الرومان. هذا صحيح بالنسبة لنا، أو لرحالة القرن التاسع عشر، كما كان الحال بالنسبة للرومان أنفسهم. كانت الرحلة إلى باساي جزءا من تلك الرحلة «الثقافية» من روما إلى اليونان بقدر ما كانت جزءا من البحث عما هو جديد وعن مناطق جديدة كانت من المجهول.
في الواقع، اتضح أن باساي كانت موقع شيء متميز للغاية في تاريخ الثقافة الرومانية وأصولها. إن الطراز الروماني المفضل لتزيين رءوس الأعمدة (التيجان) يعرف باسم «الطراز الكورنثي». وهذا اللقب يعود إلى العالم القديم نفسه؛ وقد أوضح المهندس المعماري الروماني فيتروفيوس ذلك بقصة مفادها أن ذلك الطراز ورثوه عن اليونان، وكان قد اخترعه رجل كان يعيش في مدينة كورنث اليونانية. كان هذا أرقى طراز لتيجان الأعمدة عرفته اليونان أو روما، يتميز بلفائف معقدة وأشكال أوراق شجر، وصار رمزا لعظمة الرومان؛ فكان يزين واجهات جميع مبانيهم التي يفخرون بها. وأيا كان أساس قصة فيتروفيوس تلك فإن أقدم مثال معروف للتاج الكورنثي عثر عليه في معبد باساي (وهو معروض بفخر في الشكل
1-2 ). لقد اكتشفه كوكريل ورفاقه، ولكن لم يبق منه سوى عدد قليل من الشظايا. وتقول إحدى الروايات إنه قد جرى تحطيمه عن عمد بدافع الحقد من قبل السلطات التركية، وذلك عندما اكتشفوا حقيقة المنحوتات العظيمة التي سمحوا للزوار أن يأخذوها. لكن فرقة مستكشفينا رسموا ذلك وسجلوه باعتباره السلف «الإغريقي» لأكثر النماذج المعمارية الرومانية تميزا.
أما بالنسبة للنحت نفسه؛ فهذا الجزء من الرواية ينتهي بسباق وتنافس على المستوى الدولي؛ فقد تمكن وكلاء الأمير لودفيج من الحصول على جميع التماثيل التي أخذت من إيجينا، وعاونهم في ذلك شيء من التخبط اليائس من جانب البريطانيين الذين كانوا أبرز منافس في عملية الشراء. كان الأمر يسيرا للغاية، حتى إن بعضهم ظن أن في الأمر خدعة ما ؛ إذ توجه الوكيل البريطاني إلى مالطا (حيث نقلت الأغراض إلى مكان آمن خارج منطقة الحرب المباشرة)، وكان على ما يبدو لا يدرك أن المزاد لا يزال مستمرا في زاكينثوس. وهذا جعل الحكومة البريطانية أشد تصميما على الفوز برخام باساي لصالح بريطانيا. وقد عقد مزاد في عام 1814، في زاكينثوس مرة أخرى. بالنسبة للودفيج، الذي كان قد اكتفى بما حصل عليه من كنوز إيجينا، فقد خرج الآن من السباق. أما فوفيل فقد قدم عرضا نيابة عن الفرنسيين، ولكن فاقه بسهولة عرض الإنجليز، الذين قدموا 19 ألف جنيه إسترليني.
قد حملت المنحوتات على زورق حربي، وأعيدت إلى «الوطن» إلى المتحف البريطاني. وهناك لم يتوقف قط الجدل حولها، ليس فقط حول جودتها الفنية وتاريخها، ولكن أيضا حول السياسات المتعلقة باستكشاف اليونان.
الفصل الثالث
أن تكون هناك
نحن جميعا ذاهبون لقضاء عطلة صيفية
لقد قمنا جميعا بزيارة رومانسية لباساي. ربما لم نذهب قط إلى اليونان؛ ولكننا جميعا فتحنا كتيبات سياحية ونظرنا إلى ملصقات وصور، وفي مخيلتنا قمنا برحلة إلى المعبد في الجبال.
صفحه نامشخص
تحمل كلمة «اليونان» الآن معاني كثيرة، ولا شك أنها تحمل من المعاني أكثر مما كان عليه الحال قبل قرنين من الزمان؛ فهي بلاد الشمس والشواطئ، وملذات شاطئ البحر؛ هي بلاد لا تلقي للوقت بالا؛ حيث تجد كبار السن من الرجال يجلسون لساعات على المقاهي يشربون الأوزو ويلعبون الطاولة، وهي بلاد لا تزال تنتشر فيها تقاليد الضيافة في أوساط الفلاحين. ولكن جزءا أساسيا من تصورنا لليونان هو مزيج خاص من أنقاض العالم القديم والمناظر الطبيعية الجبلية الوعرة التي تكاد تطغى على كل صورة لباساي. قد يكون هناك بالفعل العديد من البقاع الأخرى من العالم يمكننا أن نجد فيها مشهدا مماثلا؛ فهناك مثلا مواقع في جبال تركيا تشبهها كثيرا. ولكن، بالنسبة لنا، فإن صورة باساي تلك ترمز إلى «اليونان». ولسنا بحاجة إلى شرح على الصورة ليبين لنا أين هي.
في الوقت نفسه، ذلك المشهد اليوناني يمثل التراث الكلاسيكي؛ ففي أوروبا كلها، وكذلك في أجزاء من أفريقيا وغرب آسيا، تنتشر بقايا الماضي الكلاسيكي. وفي كل منطقة كانت يوما جزءا من الإمبراطورية الرومانية، من اسكتلندا إلى صحراء أفريقيا، لا تزال هناك آثار مادية لتاريخها القديم. يقع بعض أفضل ما بقي من المدن الرومانية في صحراء تونس؛ حيث توجد منازل ومعابد ومدرجات، وفسيفساء تفوق ما تبقى من بومبي، ولا يزال أثر مثل سور هادريان يعطي انطباعا قويا؛ إذ يقطع بوضوح شمال إنجلترا، في الموضع الذي كان يوما ما يمثل الحد الروماني بين العالم المتحضر والأراضي البربرية. ورغم كل ذلك، فإن تصورنا للعالم القديم لا يزال محصورا في تلك الصورة للمعبد اليوناني في بيئته الجبلية البرية.
كل صيف يقوم الآلاف من الناس بزيارة لباساي (وتنطق أيضا باسيه أو فاساي)، فيحيلوا تلك الرحلة الرومانسية التي في مخيلتهم إلى جولة واقعية ملموسة. باساي هي أحد أكثر الأماكن جذبا لأي مسافرين في رحلة عبر شبه جزيرة بيلوبونيز. في السنوات الأولى من القرن العشرين، عندما كان المرء يضطر إلى ركوب البغال في رحلته، فتن أكاديمي من أكسفورد (هو إل آر فارنيل، مؤلف الدراسة الكلاسيكية عن الدين في مختلف المدن اليونانية) بجمال كل شيء فيها، لدرجة أنه قال إن زيارته تلك جعلته يشعر بأنه «أشبع معظم تطلعاته الدنيوية». ومن بعده جاء إتش دي إف كيتو، المعتنق لمبدأ وحدة الوجود، الذي عمل أستاذا لليونانية في بريستول لمدة طويلة في منتصف القرن العشرين، ليروي مقدار ما شعر به من مرارة وخيبة أمل لأنه لم يأته وحي من أبوللو في منامه في ليلة تمام البدر خارج معبد باساي. أما اليوم فباساي هي نقطة توقف للرحلات البحرية التي تطوف الجزر اليونانية (وتقضي النهار في الميناء)، أو طريق فرعي مريح للرحال الذين يكتشفون اليونان «البكر». وقلما تجد دليلا حديثا يتوقع واضعوه أنك ستغفل زيارة باساي، بل تجدهم يشرحون لك كيفية القيام بتلك الزيارة وما سوف تجده هناك.
يوجد الآن طريق معبد جيدا يأخذك إلى المعبد، ولا تفصل بينك وبين المعبد سوى مسافة قصيرة بالسيارة عبر الجبال، إن كنت في قرية أندريتسينا القريبة؛ حيث توجد محلات تجارية سياحية وفنادق ومقاهي. ليس هناك حافلة تقلك إلى هناك؛ ولكن، إذا لم يكن لديك سيارة، فيمكنك بسهولة أن تعثر على سيارة أجرة لتأخذك إلى هناك. لم يعد الوصول إلى هناك مشكلة. إنها نزهة سياحية عادية، وفر لها طريق خاص سريع ومريح، تكلف إنشاؤه الكثير، وله هدف وحيد هو إتاحة الفرصة أمام زوار الموقع للذهاب إليه ثم العودة منه. ومع ذلك نجد الأدلة السياحية تؤكد على بعد المكان ووعورة الطريق المؤدية إليه. تلك الأدلة تعد الزائر بمشهد «مذهل»؛ فموقع المعبد «مهيب وموحش»، ومسار الطريق «متعرج» و«يتلوى على طول المنحدرات». بعبارة أخرى، فإن زيارة باساي لا تزال تقدم لنا باعتبارها رحلة استكشاف للبرية ولأراض مجهولة (انظر الشكل
3-1 ).
شكل 3-1: الصورة الكلاسيكية للمعبد الموجود في باساي.
هذه تحديدا هي الكيفية التي قدمت بها باساي في رواية سايمون ريفن المكتوبة في مستهل سبعينيات القرن العشرين بعنوان «تعال مثل الظلال»، التي فيها يصل الميجور فيلدينج جراي، والذي يعيد كتابة سيناريو لفيلم يتناول ملحمة أوديسا لهوميروس، إلى «فاساي» على ما يبدو في حالة انهيار، فكان «يجاهد من أجل فهم بحور الشعر سداسي التفعيلة وما يكافئها من نثر مختصر، وكم كان هوميروس يستحق هذا الجهد ...» لكنه في الواقع تعرض للاحتجاز والتخدير والاستجواب على يد عميل أمريكي، يدعى ألويسيوس شيث يعمل في موقع «الكلية الأمريكية للدراسات الإغريقية». وبينما كان ساشا وجول يحتسيان عصير الليمون وإلجين في مكان آخر، أخذ شيث فيلدينج «في جولة في معبد أبوللو المخلص في فاساي ... «والشيء الغريب في هذا المعبد ... أنه كان قد شيد في أبعد بقعة نائية في البلاد ... كانت الأعمدة الرمادية تنبثق من الصخور الرمادية» ... سماء رمادية، شجيرات رمادية، وصخور رمادية. ولا يوجد على مرمى البصر أثر لرجل ولا لحيوان. ولا أثر لبيت ... إلا بيت أبوللو المخلص. «على ارتفاع أربعة آلاف قدم، فإننا ...»»
مفاجأة بعيدا عن الطريق
ومع ذلك عند وصولك إلى الموقع، هناك نوع آخر من المفاجآت ينتظرك. فلا يمكنك بالفعل «رؤية» المعبد على الإطلاق . إنه لا يزال هناك، بطبيعة الحال. وفي الواقع، هو قائم الآن بطريقة أكثر فخرا مما كان عليه في أيام كوكريل ورفاقه؛ لأن العديد من الكتل المتناثرة قد جمعت وأعيد بناؤها لتكون أعمدة منتصبة. لكن المبنى كله مغطى بالكامل بما وصف بأنه «خيمة سيرك هائلة»، «سرادق كبير عالي التقنية» (انظر الشكل
3-2 ). وقد صار على هذا الحال منذ عام 1987، ومن المتوقع أن يظل هكذا في المستقبل المنظور. وهنا يذوب التصور الرومانسي للأنقاض القديمة للمنظر الطبيعي الوعر، وتبرز صورة أخرى مختلفة تماما، سرادق رمادي ضخم، مفرود على عوارض معدنية، ومثبت إلى خرسانة قوية في الأرض.
صفحه نامشخص
الكتيبات الإرشادية تحذر الزائر اليقظ من وجود مفاجأة تنتظره. ولكنها لا تفعل شيئا يذكر لمواجهة ما سيشعر به أي شخص من خيبة أمل عندما يزور طللا رومانسيا شهيرا وإذا به يفاجأ بشيء مختلف تماما؛ إذ يجد ذلك الطلل محاطا بقماش حديث يفتقر إلى الرومانسية. قليلة هي الكتب التي تقترح عليك إلغاء رحلتك بالكلية: «لابد أن يقال إن الزوار على الراجح سيمنون بخيبة أمل، إذا لم يثنيك هذا ...» وتجد معظم تلك الكتب تحاول أن تبرر الحاجة إلى وضع هذه الخيمة لحماية بقايا المعبد: لحمايتها من المطر الحمضي، أو لتوفير مأوى للعمال الذين يعملون في برنامج الترميم الطويل، أو (وهذا هو السبب المعلن رسميا) للحفاظ على الأسس الحساسة من التآكل بسبب المياه. بل إن بعض الكتب تحاول جعل ذلك كله يصب في مصلحة السائح، وذلك بأن تدعي أن الخيمة في حد ذاتها مثيرة للإعجاب: «إنها في حد ذاتها لها شكل رائع ومتميز، وهي تضيف جوا خاصا حين يصير المرء في الداخل.» وكأن القوم يصيحون: زوروا عوارض اليونان!
شكل 3-2: المعبد الموجود في باساي اليوم.
عند هذه النقطة ربما تكون «الاختلافات» بين أي زيارة حديثة إلى باساي واستكشافات القرن التاسع عشر هي التي تبدو الأكثر لفتا للأنظار. كان كوكريل ورفاقه يرونها رحلة خطرة، جابوا فيها بلادا تفتقر إلى الكرم والترحاب والرعاية الصحية، بل إنهم بالفعل خاطروا بحياتهم في مواجهة قطاع الطرق والحمى . أما نحن فنجد سيارات الأجرة والفنادق، ونشتري البطاقات البريدية في القرية المجاورة. لقد أصبحت باساي اليوم مكانا يمكنك فيه قضاء نزهة لطيفة، وهي تنال دعما وتشجيعا من جميع موارد أكبر صناعة في اليونان؛ ألا وهي السياحة.
كان الرحال القدامى لا يبحثون فقط عن اكتشافات جديدة من الماضي الكلاسيكي القديم، ولكن كانوا يبحثون عن فرصة لسلب ما عساهم يجدونه، سواء من أجل أنفسهم أو بلادهم. كانت آثار الماضي تنتظر من يستولي عليها وينسب ملكيتها لنفسه. على النقيض من ذلك، تعلم السائحون الذين يقصدون آثار العالم القديم في وقتنا الحاضر أن يقصروا طموحاتهم الاستحواذية على شراء بعض البطاقات البريدية والهدايا التذكارية. واليوم قد يلقى القبض عليك إن حاولت إخراج أي آثار حقيقية من اليونان، ولو كان وعاء صغيرا في قاع حقيبة سفرك، ناهيك عن ثلاثة وعشرين لوح رخام منحوتا. توجه الكتيبات الإرشادية السائح توجيها صريحا نحو قضايا الحفظ، وكذلك المشاكل الصعبة والنفقات المتعلقة بالمحافظة على بقاء التراث الإغريقي في نفس المكان الذي ينتمي إليه. يقولون لنا هناك إن فقدان رومانسية باساي كان في سبيل حماية الموقع الأثري. ومن ثم فإن تلك الخيمة تذكرنا بقوة بالتغير الذي طرأ على أولوياتنا في مواقفنا من الماضي الكلاسيكي: من ثقافة القرن التاسع عشر التي كان محورها الحيازة والملكية، إلى ثقافة القرن العشرين التي محورها الرعاية والحفظ.
لكن سياح وقتنا الحاضر تربطهم قواسم مشتركة بالرحال الأوائل أكثر مما يبدو عليه الأمر؛ فيجمع بينهم الشعور المستمر بإثارة الاستكشاف، والتي يشعرون بها في معظم الطرق السياحية المطروقة. كما رأينا، فإن الكتب الإرشادية لا تزال تكتب عما نجده الآن من سهولة التوجه بحافلة أو سيارة أجرة إلى باساي بطريقة تشبه كثيرا طريقة وصف كوكريل نفسه لرحلته إلى هناك. ونفس الكتب، وهي تقدم للسائح المزيد من النصائح العامة، لا تزال تميل إلى تناول قضاء العطلة في اليونان على أنه رحلة إلى أرض غريبة ويحتمل أن تكون خطرة، حتى مع حلول تحذيرات خفيفة بشأن «اضطرابات المعدة» محل الحكايات المأساوية عن الموت بسبب الملاريا، وتجد بها الآن نصائح حول سائقي سيارات الأجرة المحتالين والنشالين بدلا من قصص القتل على أيدي «قطاع الطرق الخارجين عن القانون من أهل أركاديا».
تذكارك المتميز للغاية
أيضا تتشارك الكتيبات الإرشادية في ثقافة الاستحواذ والتملك والعرض. قد يكون صحيحا أن مسافري عصرنا لا يجلبون معهم حين يعودون إلى أوطانهم سوى البطاقات البريدية، والصور، والبلاستيك الرخيص، أو قطع الفخار غالية الثمن، والنماذج المقلدة كهدايا تذكارية، لكن لا يزال جزءا أساسيا من صناعة السياحة (في اليونان أو في أي مكان آخر) أن السياح ينبغي «أن يجلبوا معهم شيئا حين يعودون إلى الوطن». إن النتيجة المباشرة لقضائنا عطلات الصيف أن كثر في بريطانيا القرن العشرين انتشار صور العالم الكلاسيكي القديم بقدر يفوق ما كان عليه الأمر في القرن التاسع عشر من نماذج بلاستيكية مصغرة من البارثينون، أو جرار «إغريقية» نزين بها أرفف المواقد، إلى البطاقات البريدية التي نعلقها على الجدران لتذكرنا بما قمنا به من زيارات لمعالم العالم القديم.
كما أننا نسعد كثيرا حين نذهب لزيارة تلك الأعمال الفنية والإعجاب بها؛ تلك الأعمال التي تجشم جوالتنا العظام عناء جلبها إلى الوطن من أراضي اليونان التي استكشفوها، بصرف النظر عن هواجسنا حول مدى نزاهة طريقة اقتنائنا لها. وإنها لمفارقة غريبة أن أيديولوجية القرن العشرين القائمة على الحفظ والتأمين يمكن أن تستخدم هي نفسها لتبرير إصرارنا على الاحتفاظ بهذه الآثار الحقيقية للعالم القديم، في حين أن أسلافنا في القرن التاسع عشر قد استحوذوا عليها بطريقة لا تخلو من طعن. ومن أشهر ما تسمع من تبريرات نقدمها للإبقاء على رخام البارثينون في المتحف البريطاني، بدلا من إعادته إلى اليونان، قولنا: «إننا» اعتنينا به عناية تفوق ما كان سيلقاه من عناية من اليونانيين أنفسهم.
بطبيعة الحال يمكن ترجمة هذا الاحتفاء الزائد بالنفس إلى إسعافات أولية سخية للمواقع اليونانية حالما تتأثر سلبا بعمليات التنقيب عن الآثار وجمعها وبالسياحة. في روايته عن «فاساي» يسخر ريفين من الأثري الأمريكي المحتال - «ذي الأنف الذي يشبه عصا الهوكي» - على هذا النحو : «قال ألويسيوس شيث: «بالطبع على مستوى اليونان لا يوجد خارج أثينا معبد مصان أكثر منه. لقد ساهمنا كثيرا في ذلك. إنهم في غاية الامتنان. ثم الآن ... ستلاحظ أن به ستة أعمدة في الأمام وفي الخلف، وخمسة عشر عمودا على كلا الجانبين بدلا من الرقم المعتاد اثني عشر عمودا. فلا تزال سبعة وثلاثون عمودا قائمة هنا، ولكن هناك ثلاثة وعشرين لوح إفريز رحل بهم ... خمن، من؟ ... البريطانيون ...»»
ولكن أكثر ما يربطنا ربطا وثيقا بجميع الأجيال السابقة من مستكشفي اليونان هو ذلك التوتر الذي توارثناه منهم بين توقعاتنا لما تكون عليه اليونان وما هي عليه في الواقع، الذي قد يكون مخيبا للآمال. لقد صدم كوكريل ومعاصروه حين رأوا الفرق بين الصورة المثالية التي كانت في أذهانهم عن العالم القديم وما وجدوه على أرض الواقع من حياة ريفية وضيعة. ومن صور تعاملهم مع تلك الفجوة تبنيهم لفكرة الرحلة الاستكشافية البطولية والبراقة. ونحن، بالطبع، لم نرث فقط المثل العليا القديمة عن كمال العالم القديم، ولكننا ورثنا أيضا تلك الرؤية الرومانسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. إن اليونان «الحقيقية» ستكون حتما مفاجأة بالنسبة لنا أيضا.
صفحه نامشخص
وأيا كان التزامنا بترميم الآثار، فلا مناص من أن نشعر بخيبة الأمل إن زرنا باساي متوقعين أن نرى أثرا رومانسيا، فإذا بنا نقف أمام معبد يرى بالكاد من تحت غطاء رمادي يغطيه. مثل الرحال الأوائل، نحن أيضا مضطرون لإيجاد وسيلة للتعامل مع ذلك الصدام بين رؤيتنا الوهمية لليونان وما نراه في الواقع عندما نصل إلى هناك. وأيا كان مصدر أفكارنا المسبقة، سواء كنا جوالين عظاما أو ممن يعدون برامج العطلات، فإن زيارة اليونان تنطوي دائما على التوفيق بين تلك الأفكار المسبقة وما نجده على أرض الواقع. إننا لا نتصور في خيالنا عادة «أجواء» معبد مغطى بغطاء، ومع هذا تظل زيارة اليونان تنطوي دائما على رؤى مختلفة ومتضاربة للعالم القديم وحضارته.
بعبارة أخرى، إننا - معشر السياح المعاصرين - نشبه الرحال الأوائل في جوانب ونخالفهم من جوانب أخرى. بالقطع تغيرت أولوياتنا ، ومما لا شك فيه أن محور اهتمامنا بالمعبد والحفاظ عليه اختلف تماما، وتغيرت الظروف المادية لرحلتنا بشكل تام. ومع ذلك فإننا لا نتشارك مع أسلافنا فقط في خبرة رؤية ما تبقى من نفس الأثر (بخيمة أو بغيرها)؛ بل نتشارك معهم أيضا في الكيفية التي علينا أن نفهم بها زيارتنا، وكيفية التعامل مع الصدام المحرج في بعض الأحيان بين الصورة التي نحملها في أذهاننا لليونان واليونان الموجودة على أرض الواقع. وما هو أكثر أهمية، على الأرجح، أن خبرتنا باليونان ليست شيئا نكتشفه بأنفسنا، على نحو جديد تماما، بل هي شيء، على الأقل في جزء منه، نرثه من أولئك الرحال الذين خبروا اليونان قبلنا.
تشابه واختلاف
هذا الخليط من التشابه والاختلاف يقدم نموذجا قويا لفهم دراسة التراث الكلاسيكي ككل. وهو يقترح إجابة للسؤال الرئيسي الذي تطرحه هذه الدراسة دائما: إلى أي مدى يتغير التراث الكلاسيكي؟ إلى أي مدى ظل التراث الكلاسيكي اليوم كما كان منذ 100 أو 200 أو 300 سنة مضت؟ إلى أي مدى يمكن أن يكون هناك أي شيء جديد يمكن أن يقال أو نفكر فيه في موضوع أشبع كلاما وحديثا على مدار ألفي عام أو أكثر؟
والجواب، في ضوء زيارتنا إلى باساي، هو أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافا كبيرا عما كان عليه؛ فعندما نجلس لنقرأ الشعر الملحمي الذي نظمه هوميروس أو فرجيل، أو فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو شيشرون، أو مسرحيات سوفوكليس أو أريستوفانيس أو بلوتس، فإننا «نتشارك» في ذلك النشاط مع جميع من قرءوا تلك الأعمال من قبلنا. إنه يربط بيننا وبين رهبان القرون الوسطى الذين نسخوا بتفان مئات من نصوص العالم القديم (ومن ثم حفظوا لنا ذلك التراث)، كما أنه يربط بيننا وبين تلاميذ مدارس القرن التاسع عشر الذين كانت تعج أيامهم بدراسة «أعمال التراث الكلاسيكي»، كما أنه يربط بيننا وبين قرون من المهندسين المعماريين والبنائين في جميع أنحاء أوروبا الذين (مثل كوكريل) قرءوا ما كتب فيتروفيوس ليتعلموا كيف يكون البناء.
وأكثر من ذلك أن «خبرتنا» بالتراث الكلاسيكي تتأثر حتما بخبرة هؤلاء. إن الأمر لا يقتصر على أن اختيار هؤلاء الرهبان من القرون الوسطى لما يجب نسخه هو ما حدد النصوص الكلاسيكية التي عاشت إلى عصرنا؛ فتقريبا كل أدب العالم القديم الذي كتب له أن يعيش إلى عصرنا قد حفظ بفضل ما بذله هؤلاء من جهد في نسخه وإعادة نسخه. إننا أيضا نعيش العالم الكلاسيكي القديم في ضوء ما قالته الأجيال السابقة عن هذا العالم وكتبته وفكرت فيه. ولا يتسم موضوع آخر بكل هذا القدر من الثراء والتنوع.
إننا جميعا مرتبطون بالتراث الكلاسيكي، بصرف النظر عن القدر الذي نظن أننا نعرفه عن الإغريق والرومان، قليلا كان أم كثيرا. ولا يسعنا مطلقا أن نتناول التراث الكلاسيكي كغرباء عنه تماما. ليست هناك ثقافة أجنبية أخرى تمثل كل هذا القدر من تاريخنا. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يخص تقاليد اليونان وروما هو أسمى مرتبة من أي حضارة أخرى؛ كما أنه لا يعني أن حضارتي العالم القديم هاتين لم تتأثرا أنفسهما بالثقافات السامية والأفريقية المجاورة، على سبيل المثال. في الواقع، جزء من انجذاب المعاصرين للعالم القديم يكمن في الطرق التي واجه بها الكتاب القدماء التقاليد الثقافية المتنوعة للغاية لعالمهم، وناقشوا، بلغة عصرنا، التعددية الثقافية لمجتمعاتهم. بالطبع، لعبت العجرفة بل والعنصرية دوريهما في العالم القديم، ولكن، على حد سواء، تطورت الليبرالية والإنسانية وانتشرتا في ظل نفوذ ذلك العالم.
إن كون التراث الكلاسيكي يمثل مركز جميع أشكال ما لدينا من سياسة ثقافية هو العنصر الذي يربط الحضارة الغربية بتراثها. فعندما ننظر، على سبيل المثال، إلى البارثينون لأول مرة، فإننا ننظر إليه ونحن نعلم مسبقا أن أجيالا من المهندسين المعماريين اختارت على وجه التحديد ذلك النمط لبناء المتاحف، وقاعات المدينة، والبنوك في معظم مدننا الكبرى. وعندما نمسك «الإنياذة» لفرجيل للمرة الأولى، فإننا نقرؤها ونحن نعلم أنها قصيدة أعجب بها الناس ودرسوها وقلدوها على مدار مئات بل آلاف السنين؛ باختصار هي عمل «كلاسيكي».
من ناحية أخرى، تعد خبرتنا بالعالم القديم جديدة في كل مرة؛ فقراءتنا الحالية لفرجيل لا يمكن أبدا أن تشبه قراءة راهب من القرون الوسطى أو قراءة تلميذ من القرن التاسع عشر. هذا يحدث جزئيا بسبب الظروف المختلفة التي نقرأ فرجيل فيها، وهي تشبه ظروف السفر المختلفة. إن زيارة إلى باساي في سيارة أجرة تختلف حتما عن زيارة إليها على ظهر بغل سيئ المزاج. وبنفس الطريقة تقريبا نجد قراءة الإنياذة في صورة نسخة ورقية في حجم الجيب تختلف تماما عن قراءتها في صورة كتاب قيم من الجلد منسوخ بخط اليد، وتختلف قراءتها وأنت جالس في كرسي تماما عن قراءتها وأنت في فصل دراسي تحت إشراف مدرس مرعب من العصر الفيكتوري.
ولكن الاختلافات تكمن، بصورة أكثر لفتا للأنظار، في الأسئلة والأولويات والافتراضات المختلفة التي نسبغها على النصوص والثقافة القديمتين. لا يوجد قارئ في أواخر القرن العشرين بوسعه أن يقرأ أي شيء - سواء أكان كلاسيكيا أم لا - بنفس الطريقة، أو بنفس الفهم الذي يخص قارئا من جيل سابق. فالنسوية، على سبيل المثال، لفتت الأنظار إلى أهمية دور المرأة في المجتمع والتعقيدات المحيطة بها، والبحوث التي أجريت مؤخرا في تاريخ الحياة الجنسية عززت أيضا فهما جديدا جذريا لأدب القدماء وثقافتهم.
صفحه نامشخص
بلا شك لم يفاجأ كثيرون ممن عاشوا في العصر الفيكتوري من تبعية المرأة في كل من اليونان وروما، وحقيقة أن المرأة لم يكن لديها حقوق سياسية في أي مدينة من مدن العالم القديم، والأقوال الصريحة للعديد من الكتاب القدماء بأن دور المرأة في الحياة هو أن تلد الأطفال، وتنسج الصوف، وتتجنب أن يتحدث الناس عنها. في الوقت نفسه كان الباحثون في العصر الفيكتوري مشغولين بتجاهل (أو حتى بحذف) العديد من المقاطع في مؤلفات القدامى التي كانوا يرون أنها تسرف في الحديث عن الجنس بين الرجال والنساء، أو اللواط بين الرجال والصبيان. أما دارسو التراث الكلاسيكي المعاصرون فنجدهم لا يعيبون وحسب على الإغريق والرومان كراهيتهم الشديدة للنساء، أو يحتفون بعنصر الإثارة الجنسية العلنية لديهم، وإنما يستكشفون كيف أن الأدب القديم أبقى على كراهية النساء تلك أو شكك فيها، ويتساءلون عما حدد الطرق التي نوقش بها موضوع الجنس وصور في الفن والنصوص القديمة. على سبيل المثال، كيف نفهم ما يكمن وراء عبارة فرجيل التي تقول: «النساء» أو «المرأة دائما شيء متلون ومتغير»؟ وهذه الاستكشافات نتيجة مباشرة لمناقشات دارت في القرن العشرين حول حقوق المرأة، ونظريات النوع، والسياسة الجنسية، وتضفي الدراسة الكلاسيكية بدورها عمقا تاريخيا حيويا في مناقشات القرن العشرين تلك.
الحقيقة الأساسية هي أن التراث الكلاسيكي ظل «كما هو»، وفي الوقت عينه «اختلف» اختلافا كبيرا عما كان عليه، وهذه ليست قصة بسيطة تدور حول «التقدم» في تفسير التراث الكلاسيكي. فلا شك أن التغييرات في مصالحنا تنطوي على خسائر، وكذلك مكاسب؛ فعلى سبيل المثال، عبر المائتي عام الأخيرة من المفترض أننا فقدنا قدرا كبيرا من التعاطف مع القتال الجسدي القديم، والتدريب العملي على تجربة أهوال السفر عبر البحار المجهولة. ما يهم هو أن هذه التغييرات لها أثرها. وقراءة ما كتبه فرجيل أبعد ما تكون عن خبرة متماثلة لا تختلف على مر القرون، كما سنبين في الفصل التاسع من هذا الكتاب. والأمر عينه ينطبق على كل زيارة إلى باساي.
لقد روينا قصة السياحة الحديثة والاستكشافات التي جرت في القرن التاسع عشر لتوضيح هذه النقطة على وجه التحديد، ولتوضيح مدى تعقيد الاستمرارية وعدم الاستمرارية في تجربتنا مع التراث الكلاسيكي. وأهم ما نقوله أننا سوف نجعل هذا الكتاب ينبع مباشرة من هذه التأملات حول الزيارات المختلفة لباساي. وكما قلنا، إذا كانت دراسة التراث الكلاسيكي توجد في «الفجوة» التي تفصل بين عالمنا وبين العالم القديم، فإن ذلك التراث يتحدد في ضوء تجربتنا، واهتماماتنا ومناقشاتنا مثلما يتحدد في ضوء تجربتهم واهتماماتهم ومناقشاتهم. وزيارة باساي تقدم لنا مثلا لفهم مدى التنوع والتعقيد الذي يمكن أن تكون عليه إسهامات المعاصرين.
تصورنا عن التراث الكلاسيكي
شكل 3-3: لوحة رسمها إدوارد لير لمعبد أبوللو في باساي.
إن أهمية مساهمتنا في التراث الكلاسيكي تبرز أمامنا بطرق غير متوقعة؛ فعلى بعد بضع مئات من الأمتار من موضع كتابة هذا الكتاب، يقع متحف فيتزويليام في كامبريدج، وبه لوحة فنية شهيرة من القرن التاسع عشر تصور باساي (انظر الشكل
3-3 ). رسم اللوحة إدوارد لير، المعروف لنا بقصائده الفكاهية أكثر من لوحاته التي كانت مصدر رزقه، وقد زار الموقع في زيارة له إلى اليونان في عام 1848، وقال عن تلك الزيارة إنها كانت «أمتع ستة أسابيع قضيتها في حياتي.» بعد سنوات، حين مرض لير، وأصبح حبيس منزله، يعاني من ضيق ذات اليد، تجمع عدد من أصدقائه وفاعلي الخير واشتروا تلك اللوحة ليقدموها إلى فيتزويليام. لقد شعروا أنها ستكون هدية مناسبة لذلك المتحف؛ إذ إن قالبا جصيا من الجبس لإفريز باساي كان بالفعل معروضا هناك، وكان كوكريل نفسه قد انخرط بشكل كبير في تصميم مبنى ذلك المتحف. لكن من هذا المنطلق ربما كانت هدية مناسبة لمتحف أشموليان في أكسفورد؛ لأنه في حد ذاته كان أحد الأعمال الرئيسية لكوكريل، وكان يضم أيضا قالبا من الجص لإفريز باساي على درج المتحف الرئيسي.
تلخص اللوحة الصورة الرومانسية لباساي؛ إقفار المشهد، وعزلة المعبد وهو يظهر عبر إطار من الصخور والأشجار الجبلية الملتوية. تلك هي باساي كما يراها كوكريل وتراها الكتيبات الإرشادية التي بين أيدينا. ولكن في انتظارنا مفاجأة أخرى.
في الواقع، إن هذا المشهد «اليوناني» رسم في إنجلترا، من الريف الإنجليزي. لا شك أن لير رسم رسومات كثيرة عندما كان يقوم بجولة في اليونان، وقد ساعده ذلك على الاحتفاظ في ذاكرته بما رآه هناك من مشاهد ومناظر طبيعية. لكن مذكراته توضح جليا أن كل تفاصيل الصخور والأشجار التي تظهر في تلك الصورة أخذت من واقع ملموس، وذلك باستخدام عينات مناسبة تقع في وسط إنجلترا في ريف ليسترشير.
هذا تذكير قوي بمساهمتنا في صورة التراث الكلاسيكي والعالم الكلاسيكي. إن لير (وأمثاله) قد صور لنا «يونانا» من وحي ذكريات أسفاره معتمدا على مشاهد مألوفة لديه في بلده. بل أكثر من ذلك، أن هذا التصور يعيننا على فهم التفاوت بين توقعات من يزور اليونان وبين ما يجده الزائر على أرض الواقع فهما أفضل. إذا كنا نأمل في العثور على نسخة حية للصورة التي رسمها لير لباساي عندما نذهب إلى الموقع نفسه، كيف يمكننا حينها ألا نفاجأ أو نصاب بخيبة أمل؟ إن صورة لير لم تكن نسخة أمينة للمنظر الغريب الذي رآه في اليونان. فحالها كحال كل صور التراث الكلاسيكي، كانت (جزئيا على الأقل) صورة من بلد لير، كانت جزءا من ثقافته؛ لأن التراث الكلاسيكي كان هو الآخر جزءا من تلك الثقافة.
صفحه نامشخص
الفصل الرابع
دليل إرشادي بين أيدينا
السفر إلى الماضي
تقع السياحة في قلب دراسة التراث الكلاسيكي. وليس هذا مقصورا وحسب على السياحة التي نقوم نحن بها في عصرنا الحديث إلى اليونان، سواء أكانت في العالم الخيالي لكتيبات وملصقات السفر أم في العالم الواقعي لعطلات منطقة البحر المتوسط. بل إن الأمر يتجاوز كونه عملية إعادة اكتشاف لليونان الكلاسيكية قام بها كوكريل ورفاقه من الرحال العظام؛ فقد كان الإغريق والرومان سياحا هم أيضا، وجابوا هم أيضا المواقع السياحية، حاملين أدلة إرشادية في أيديهم، محاربين قطاع الطرق، ومعرضين للسلب على أيدي السكان المحليين، وساعين إلى اكتشاف ما قيل لهم إنه أمر يستحق الرؤية، كانوا متشوقين إلى الدخول في «أجواء» ذلك التراث القديم.
لا يزال أحد الأدلة الإرشادية العتيقة باقيا إلى اليوم؛ وهو بعنوان «الدليل الإرشادي إلى اليونان» كتبه باوسانياس في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي. وعلى امتداد عشرة مجلدات يرشد باوسانياس المسافر المثابر إلى ما رأى باوسانياس أنها أهم مواقع اليونان، وذلك في رحلة تبدأ من أثينا في المجلد الأول، ثم تمتد عبر جنوبي اليونان، ثم تعود مجددا إلى دلفي في الشمال، وذلك في المجلد العاشر. وفي المجلد الثامن يصف باوسانياس منطقة أركاديا في شبه جزيرة بيلوبونيز. وإحدى نقاط التوقف في أركاديا كانت معبد أبوللو في باساي.
وكما لك أن تتوقع من أي كتيب إرشادي معاصر، بدأ باوسانياس - متخذا من بلدة فيجاليا القريبة نقطة بدء له - بتحديد المسافة إلى باساي، وبعد ذلك وصف باختصار المعبد وتاريخه:
عليه [جبل كوتيليوس] يوجد مكان يسمى باساي، وفيه معبد أبوللو المغيث، مبني من الحجر، حتى سقفه وكل ما به. ومن بين كل المعابد الموجودة في شبه جزيرة بيلوبونيز، تاليا على المعبد الموجود في تيجيا، ربما يعد هذا المعبد الأول من حيث جمال أحجاره وتناسق أبعاده.
ثم يعمد باوسانياس إلى تفسير اللقب الخاص الذي يحمله الإله أبوللو في باساي: أبوللو إبيكوريوس؛ بمعنى أبوللو «المغيث» أو «المعين». يبدو أن هذا اللقب منح إقرارا بمعاونة أبوللو لشعب فيجاليا «في وقت الطاعون، مثلما منح في أثينا لقب «الحامي من الشر» [«ألكسيكاكوس»]؛ وذلك لتخليصه أثينا من شرور الطاعون.»
الطاعون الذي يشير إليه باوسانياس هو ذلك الطاعون الشهير الذي ضرب الأثينيين في بداية حربهم المريرة ضد أسبرطة، تلك الحرب التي تسمى «الحرب البيلوبونيزية»، في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد وصفت أعراض ذلك الطاعون المريعة، من حمى وقيء وتقرحات، تفصيلا على لسان ثوسيديديس، الذي أصيب هو نفسه بالمرض ثم برئ منه. وقد قدم ثوسيديديس المرض بوصفه رمزا سياسيا للكارثة التي حلت بأثينا الديمقراطية في مؤلفه الشامل «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» إذ يقول: «الملمح الأشد ترويعا للمرض بأسره ليس فقط فقدان الهمة؛ ففي اللحظة التي يدرك فيها الشخص أنه أصيب به ترى عقله وقد تملكه القنوط على الفور، ويستسلم للموت دون مقاومة، ولكن أيضا في الطريقة التي يلتقط بها المرء عدوى المرض من شخص كان يعتني به؛ ومن ثم كان الناس يموتون كالأغنام.» وصف الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس الطاعون نفسه، ورأى فيه صورة قوية لكارثة كونية حلت بالمجتمع البشري.
يقودنا باوسانياس إلى الاعتقاد بأن هذا الوباء قد ضرب تلك المنطقة من جنوب اليونان أيضا، وأن معابدنا شيدت في ذلك الوقت فيما يبدو بوصفها سبيلا للتعبير عن العرفان للإله الذي أزال المرض. ويقترح باوسانياس أن هوية المعماري تؤكد هذه الرابطة؛ إذ إن معبد باساي صمم بواسطة إكتينوس، وهو المعماري الذي صمم البارثينون في أثينا أيضا، ذلك المعبد الذي اكتمل بناؤه قبيل انتشار الطاعون مباشرة.
صفحه نامشخص
تعد الرواية الموجزة لباوسانياس أساس السواد الأعظم من التاريخ المقتضب الموجود في الكتب الإرشادية عن هذه الفترة. وحتى حين لا تذكر هذه الكتب باوسانياس بالاسم، فإنها تقدم لقارئها المعاصر الكثير من المعلومات التي نقلها هو إلينا؛ كالطاعون الذي يكمن خلف تأسيس المعبد، والرابطة مع الحرب البيلوبونيزية البشعة ومع معماري البارثينون. وكذلك بطبيعة الحال كانت رواية باوسانياس (وتحديدا ذكره لإكتينوس) هي ما حفز كوكريل وأصدقاءه على الذهاب في رحلة بحثا عن معبد أملوا أن يكون بارثينون آخر. وقد كتب كوكريل نفسه يقول: «الحقائق المثيرة للاهتمام التي سجلها باوسانياس ... كانت سببا كافيا يثبت [له وللمسافرين السابقين] أهمية هذا البحث.»
كان تبين الأسباب التي دعت باوسانياس لزيارة باساي عملية أكثر صعوبة بكثير؛ فهو لا يقول صراحة ما الذي دفعه للسير في هذا الطريق الجبلي الطويل المسدود، فقط كي يرى هذا المكان المقدس، الذي كان يصعب الوصول إليه في القرن الثاني الميلادي مثلما كان يصعب الوصول إليه حين ذهب كوكريل إليه. فأثناء رحلته إلى المدينة الرئيسية، أركاديا (التي تعني حرفيا «المدينة الكبيرة»)، كان قد شاهد بالفعل تمثالا من البرونز لأبوللو كان قد أزيل في وقت سابق من المعبد الموجود في باساي، ووضع في مكان مفتوح كي يراه العامة. ربما شجعته رؤية هذا التمثال على الذهاب وتقصي أمر المعبد الذي جاء التمثال منه أصلا. أو ربما كان يتتبع المباني التي صممها معماري البارثينون العظيم.
لكن بصورة إجمالية توافقت زيارته إلى باساي وتوصيفاته للمعبد على نحو وثيق مع الأولويات والاهتمامات التي أبداها عبر دليله الإرشادي. كان باوسانياس ابنا من أبناء مدينة يونانية توجد حاليا في تركيا (لا يخبرنا تحديدا أي مدينة هي). وقد كان يكتب باليونانية، من أجل جمهور متحدث باليونانية، عن جغرافيا اليونان وتاريخها والمعالم الموجودة بها. لكنه كان أيضا يكتب بعد انقضاء أكثر من مائتي عام على الغزو الروماني للعالم الإغريقي. ومن ثم، يكون من الصحيح على حد سواء أن نعتبره مواطنا من مواطني الدولة الرومانية، يصف لنا جولة في أرجاء أحد الأقاليم المستقرة تحت حكم الدولة الرومانية منذ وقت طويل ، وذلك لجمهور متحدث باليونانية يتكون من مواطنين أو رعايا للدولة الرومانية. لقد ترتب على الغزو الروماني لليونان أمور كثيرة، لا تنحصر فقط في تبعية اليونان لروما. فبحلول وقت باوسانياس كانت أبرز المعالم الجديرة بالمشاهدة بالبلاد تتضمن مباني تذكارية شيدتها السلطة الحاكمة ودفعت تكاليف إقامتها ورعتها: المعابد المبنية بالأموال الرومانية تكريما للأباطرة الرومانيين، والنافورات والتماثيل والأسواق والحمامات التي مولها فاعلو الخير الرومانيون. ذكر باوسانياس عددا قليلا من هذه المعالم ذكرا عابرا، وأغلبها كان إنجازات حديثة، لكن تركيزه، كما في باساي، كان في موضع مختلف تماما.
ركز باوسانياس على المعالم الأثرية الخاصة ب «اليونان القديمة» وعلى تاريخها وعلى ثقافتها، تلك اليونان التي كانت موجودة قبل الغزو الروماني بوقت طويل. إن جولته السياحية هي في واقع الأمر جولة تاريخية تمر بالمدن القديمة والأماكن المقدسة التي تعود لزمن يسبق الحكم الروماني بكثير. والقصص التي يرويها باوسانياس عن الآثار التي يزورها تعود كلها تقريبا إلى تلك الحقبة المبكرة من تاريخ اليونان، بعاداتها وخرافاتها واحتفالاتها وطقوسها التقليدية. إن وصفه لباساي وصف تقليدي، يعود بالقارئ إلى زمن الطاعون الشهير الذي وقع منذ أكثر من 600 عام على وقته، وذلك من دون أي ذكر لأي من الأحداث القريبة في تاريخ المعبد. إن باوسانياس يجعل اليونان «الرومانية» المعاصرة له يستحيل التفرقة بينها وبين يونان القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يفعل هذا عن عمد.
إن «الدليل الإرشادي إلى اليونان» إذن يتجاوز كونه محض كتيب سياحي يحمله المسافر؛ أي محض تقرير محايد عن كل ما يمكن رؤيته وكيفية الوصول إليه. فباوسانياس، شأنه في ذلك شأن أي مؤلف لدليل إرشادي، قديم أو معاصر، يتخذ اختيارات بشأن ما يمكن تضمينه وما يمكن حذفه، وبشأن «الكيفية» التي يصف بها الآثار التي يختار وصفها. وهذه الاختيارات تؤدي لا محالة إلى وجود ما هو أكثر (وأقل) من محض «توصيف» بسيط لليونان. يقدم باوسانياس للقارئ رؤية خاصة لليونان والهوية اليونانية، ويقدم له طريقة خاصة للإحساس باليونان تحت الحكم الروماني. هذه الهوية تضرب بجذورها في الماضي السابق على مقدم الرومانيين، والرؤية التي يقدمها باوسانياس تتضمن إنكارا، أو على الأقل إخفاء، للغزو الروماني. بعبارة أخرى، يمنح دليله الإرشادي درسا في الكيفية التي يمكن بها فهم اليونان. وهذا الدرس لم يعتمد على التواجد حرفيا هناك، أو على اتباع باوسانياس في جولة في أرجاء المدن والمقدسات اليونانية. إن قراءة ما كتبه باوسانياس يمكن أن تعلمنا الكثير عن اليونان، حتى لو لم يسبق لنا أن وطئت أقدامنا تلك البلاد. وإلى اليوم تستطيع كتاباته أن تعلمنا الكثير.
أيضا تمنحنا رواية باوسانياس عن معبد باساي درسا مهما بشأن مدى الزعزعة التي تتسم بها معرفتنا بالعالم القديم. إن باساي اليوم أحد أشهر المواقع الأثرية الكلاسيكية وأكثرها رسوخا في الأذهان، ومعبد أبوللو الموجود فيها أحد أكثر المباني رسما وتصويرا ودراسة في اليونان. لكن عبارات باوسانياس المقتضبة القليلة تعد بمنزلة الإشارة الوحيدة للمعبد في كل الأدب الذي ظل باقيا من العالم القديم. ولو كان دليل باوسانياس قد فقد، لو لم يختر ناسخو القرون الوسطى (لسبب أو لآخر) أن ينسخوا هذا العمل تحديدا ويحفظوه لنا، لما كنا لنعلم شيئا عن المعبد باستثناء ما قد توحي به الأحجار والمنحوتات نفسها، ما إن يعثر عليها أحدهم مصادفة. بعبارة أخرى، لم نكن لنملك أي فكرة واضحة عن أن هذا المعبد بني من أجل أبوللو (رغم أن وجود أبوللو وشقيقته الإلهة أرتميس بين الشخصيات المجسدة على الإفريز، كما سنناقش في الفصل السابع، قد يكون دليلا). وبالتأكيد ما كنا لنعرف أي شيء عن اللقب «المغيث»، أو علاقة المعبد بالطاعون، أو مشاركة المعماري الشهير إكتينوس في الأمر.
كيف وصلت الأعمال إلينا؟
تحفل دراسة التراث الكلاسيكي بمثل هذه المواقف السعيدة التي كدنا فيها نفقد أحد الأعمال المهمة. وفي الواقع، بعض من الكتب التي تحظى اليوم بانتشار واسع من بين صنوف الأدب القديم أفلتت بالكاد من أن يطويها النسيان. فشعر كاتولوس على سبيل المثال، بما في ذلك سلسلة قصائد الحب الشهيرة الموجهة إلى امرأة يسميها «ليزبيا»، تدين ببقائها إلى نسخة واحدة خطت باليد في العصور الوسطى. وبالمثل ، نجد أن قصيدة لوكريتيوس بعنوان «عن طبيعة الأشياء»، والتي تسرد بالشعر اللاتيني نظريات الفيلسوف الإغريقي إبيقور (بما في ذلك نسخة مبكرة من النظرية الذرية للمادة)، حفظت هي الأخرى عن طريق نسخة وحيدة. وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى لم تكتب لها النجاة على الإطلاق؛ فأغلب ما كتبه المؤرخ ليفيوس عن روما، مثلا، ضاع تماما، وكذلك معظم المسرحيات التراجيدية لكتاب أثينا العظام: إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس.
لكن هذه الصورة آخذة في التغير طوال الوقت. فمنذ عشرين عاما خلت لم نكن نملك سوى سطر وحيد (مقتبس في كتابات كاتب قديم آخر) لواحد من أشهر الشعراء الرومان؛ كورنيليوس جالوس، الذي عاصر في شبابه كاتولوس وكان صديقا لفرجيل، كما تولى لاحقا حكم مصر إبان حكم الإمبراطور أغسطس. لكن في سبعينيات القرن العشرين، وأثناء عمليات تنقيب جرت في مكب نفايات تابع لحصن روماني قديم في جنوب مصر، اكتشفت قصاصة من بردية صغيرة يمكننا أن نقرأ عليها ثمانية سطور من الشعر لا شك في أن جالوس هو من كتبها. ربما كان أحد جنود جالوس هو من تخلص منها، وربما يكون جالوس نفسه هو من فعل هذا (انظر الشكل
4-1 ).
صفحه نامشخص
شكل 4-1: من مكب نفايات روماني: قصاصة من بردية تحمل شعرا لكورنيليوس جالوس.
أيضا من واقع عمليات التنقيب التي جرت في مصر على مدار الأعوام المائة الأخيرة، ظهرت إلى النور مسرحية كاملة للكاتب الهزلي ميناندير، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، علاوة على جزء طيب مما لا يقل عن أربع مسرحيات أخرى. كانت كل أعمال هذا الكاتب قد فقدت في العصور الوسطى، ولا يوجد أي مخطوطات بخط اليد لمسرحياته. إلا أن ميناندير كان واحدا من أكثر الكتاب الإغريق انتشارا، وبسبب الدروس الأخلاقية الواردة في مسرحياته كانت أعماله جزءا أساسيا من دراسة كل طالب في العالم المتحدث باليونانية (والذي امتد من اليونان نفسها إلى مصر، وساحل تركيا وشواطئ البحر الأسود). إن بقايا هذه النصوص المدرسية تحديدا هي التي أنقذت، على نحو درامي، من الأوراق المهملة التي استخدمت في لف أجساد المومياوات المصرية.
إن معرفتنا بالأدب الكلاسيكي معلقة على خيط رفيع للغاية (انظر الشكل
4-2 ). فجزء مما نعرفه اليوم (وما لا نعرفه) يمكن عزوه إلى المصادفة المحضة؛ فقد كان من حسن الحظ، مثلا، أن اختار الأثريون التنقيب في هذا المكب تحديدا في ذلك الحصن الروماني تحديدا في مصر؛ ومن ثم وجدوا المثال الوحيد على شعر جالوس. وبالمثل، ربما تسبب الحظ التعس في جعل أحد رهبان العصور الوسطى يسكب نبيذه على مخطوطة كان ينبغي نسخها؛ وبذا محا كل آثار النسخة الوحيدة المتبقية لأحد الأعمال الكلاسيكية. إن قابلية الكتابات القديمة للتعرض للحوادث، أو الإهمال، كان المحفز وراء الكثير من الأفكار السوداوية، وكذلك وراء كتابة مقدار كبير من الأعمال الأدبية. وهكذا نجد رواية جريفز «أنا، وكلاوديوس وكلاوديوس الإله» تعيد بناء السيرة الذاتية المفقودة للإمبراطور الروماني كلاوديوس. وفي رواية «اسم الوردة» يتخيل أمبرتو إيكو رؤية أكثر سوداوية، يحرق فيها أحد الرهبان مكتبة الدير إضافة إلى النسخة الوحيدة من أطروحة أرسطو «عن الكوميديا».
شكل 4-2: على خيط رفيع: المخطوطة الوحيدة التي نملكها من كتاب تاسيتوس «الحوليات»، 11-16.
بيد أن نمط بقاء الأعمال الكلاسيكية ليس قائما على المصادفة وحسب؛ بل هو يعتمد اعتمادا أساسيا أيضا على التاريخ الكامل للتراث الكلاسيكي واهتماماته وأولوياته المتغيرة، بداية من العالم القديم ذاته، مرورا بالعصور الوسطى، ووصولا إلى الوقت الحاضر. بعبارة أخرى، ليست المصادفة المحضة وحدها وراء العثور على نسخ عدة من مسرحيات ميناندير في مصر؛ فهذا الأمر جاء تبعة مباشرة للمكانة المحورية التي منحها ميناندير في تعليم العالم اليوناني. أيضا ليس من قبيل المصادفة أن نملك عددا كبيرا من نسخ مخطوطات العصور الوسطى ل «قصائد الهجاء» التي كتبها الشاعر الروماني جوفينال؛ ففي كثير من هذه القصائد رسم جوفينال صورة حية يرثي فيها لأخلاقيات المجتمع الروماني في وقته ويحط من قدره (وذلك في بدايات القرن الثاني الميلادي). وقد نسخت هذه القصائد وأعيد نسخها على يد رهبان العصور الوسطى؛ لأنها مثلت إدانات لاذعة للفساد، وكانت مادة مثالية للمواعظ في العصور الوسطى: «أي الشوارع لا يملؤها المتزمتون القذرون ؟ هاه! هل تكبح السلوك الفاسد بينما أنت متخندق وسط عصبة من الفلاسفة المثليين؟ أطراف مشعرة، وربما يغطي الشعر الكثيف أعلى ذراعيك أو أسفلهما، وعد الروح الرواقية، لكن على تلك الاست الملساء يخيط جراح مبتسم بواسيرك المتورمة.» إن حقيقة أننا لا نزال نستطيع قراءة كتابات جوفينال مرتبطة ارتباطا مباشرا باستخدامات التراث الكلاسيكي في كنيسة العصور الوسطى.
جاء علم الآثار نتاجا للقصة عينها؛ فلم يكن أحد الأهداف الأساسية للتنقيب في المواقع الكلاسيكية في مصر هو تحديدا اكتشاف المزيد من النصوص القديمة، غير المعروفة بعد، رغم أن هذا الهدف يكمن بالتأكيد خلف العديد من عمليات استكشاف المواقع المصرية. فعلى مدار جزء كبير من القرن التاسع عشر حدد الأدب أهداف عمليات التنقيب عن الآثار، محددا المواقع التي ينبغي البحث عنها والتنقيب فيها، والمواقع التي صارت مصادر جذب شهيرة. لقد جرى اكتشاف مدينتي طروادة ومايسينيه، على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر على يد هاينريش شليمان، وكان سبب هذا الاكتشاف تحديدا أنه ذهب للبحث عن المدينتين المذكورتين في قصيدة «الإلياذة» الملحمية العظيمة لهوميروس عن «حرب طروادة»؛ وذلك إيمانا منه بأنه يستطيع العثور على مدينة أجاممنون؛ مايسينيه، ومدينة برايام وهكتور وباريس وهيلين؛ مدينة طروادة. وكما رأينا، كان ما حفز على استكشاف باساي هو ربط باوسانياس المعبد بالمعماري الذي بنى البارثينون. ولو لم تكن أعمال باوسانياس ظلت باقية، لما كان كوكريل وأصدقاؤه ليحاولوا القيام بمثل هذه الرحلة الخطيرة إلى ذلك الطلل الجبلي النائي، وما كانت الحكومة البريطانية لتفكر في شراء الإفريز والاحتفاظ به في المتحف البريطاني. فبطرق عدة، تعتمد القصة الكاملة التي حكيناها إلى الآن على باوسانياس وأعماله الباقية.
من المفاجئ إذن أننا بتنا نشك الآن في «المعلومات» التي قدمها لنا باوسانياس بشأن المعبد الموجود في باساي. على سبيل المثال خلصت دراسات حديثة أجريت على معمار المعبد إلى أنه استنادا إلى طراز المعبد وتاريخ بنائه، فمن المحتمل ألا يكون لإكتينوس أي دخل بتصميمه. ويرى البعض أن الرابط الذي أقامه باوسانياس بين لقب أبوللو (المعين) وطاعون أثينا العظيم قد لا يعدو كونه محض تخمين، ومن المرجح بشدة خطؤه. بادئ ذي بدء، يؤكد ثوسيديديس صراحة أن الطاعون لم يضرب هذه المنطقة من اليونان. ربما كان باوسانياس يحاول جاهدا البحث عن تفسير للقب غير المعتاد للإله أبوللو. وقد أدى التفسير الذي وجده، أو منح له، بالتأكيد إلى منح باساي شهرة كبيرة من خلال الربط بين تأسيس المعبد وبين فترة ازدهار أثينا الكلاسيكية، ومؤرخها الرسمي.
الاختلاف معهم
هذا تغير آخر كبير بين دراسة التراث الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ودراسته في وقتنا الحالي. كان كوكريل ومعاصروه يميلون إلى رؤية النصوص القديمة التي قرءوها بوصفها مصادر يستحيل تقريبا الاعتراض عليها للمعلومات بشأن اليونان وروما. أما نحن، على وجه النقيض، فمستعدون للقبول بأننا في بعض الحالات نملك معرفة أفضل من معرفة الكتاب القدماء بشأن الآثار والأحداث والتاريخ التي وصفوها. إننا على استعداد لتحدي باوسانياس في وصفه لباساي، أو ثوسيديديس في آرائه عن مسببات الحرب البيلوبونيزية الكارثية، أو ليفيوس فيما أورده من تاريخ مبكر لمدينة روما. والأكثر من ذلك، أنه من المبادئ المهمة في دراسة التراث الكلاسيكي اليوم أن الأساليب الحديثة للتحليل يمكنها أن تكشف عن العالم القديم ما هو أكثر مما كان القدماء أنفسهم يعرفونه (تماما مثلما نتقبل أنه في يوم من الأيام سيكشف المؤرخون عن مجتمعنا أكثر مما نعرفه بالفعل). فمن مبررات الدراسة المتواصلة للتراث الكلاسيكي أننا نستطيع تحسين معرفتنا باليونان وروما اللتين ورثناهما.
صفحه نامشخص