مقدمة
أسأل الله عونًا على حَمده الفَرض، وصونًا من الرَّفض، لِما يُثمر مُضاعف القَرض، ومحمدًا أُصلِّي عليه وعلى آله وصحبه الذين أشبهوا نُجوم السماء في الأرض، صلاةً تُدخلني في زمرة الجنة إذا أُخرجَ بَعث النار يوم العَرض.
وبعد، فهذا اقتضاب من بارع الأشعار، بل يانع الأزهار، قصرتُه على أهل الأندلس بلدي، وحصرتُه إلى من سبق وفاتَه منهم مولدي. ثمَّ ألحقتُ بهم أفرادًا لحقهم شيوخُ ذلك الأوان، لأُضاهي " أنموذج " أبي عليّ ابن رَشيق، في شُعراء القيروان؛ وأضفت إلى هؤلاء، الطارئين على الجزيرة من الغُرباء، وربأتُ به عمَّا تضمنتْه تصانيف السابقين من الأُدباء؛ ليكون بريعانه وضَيعته، أبعدَ من خُسرانه وضَيعته؛ فجئتُ بجواهر لم يُبتذل مَصونها، وبأزاهر لم تُهتصر غُصونها؛ مسارعًا إلى ما لهم من أبيات سائرة، وآيات سافرة، وشارعًا في تكميل عددهم مائة شاعر وشاعرة؛ وجعلته باكورة ما بين يديّ في هذا الفن، والله المستعان ذو الطَّوْل والمَنّ.
1 / 5
ولما عارضت به " زاد المسافر " سمَّيته " تحفة القادم " وحميتُه أسجاع الناثر، اكتفاء بقوافي الناظم؛ ناسيًا مَن ذَكره في ترجمةٍ أبو بحر ابن إدريس جامعه، وآتيًا من روائع البديع ما يهتزّ له مُبصره وسامعه، كتشبيه لابن المُعتز فاضح، وتَشبيب إزراؤه بالرَّضِيّ واضح، أعيا الأول وله السبقُ يوم الرِّهان، وأنسى الثاني ليلةَ السَّفح وظَبية البان؛ إلى فنونٍ ذواتِ فُتون من الآداب، ساحرةٍ للألباب، وساخرةٍ من الكَلِمِ اللُّباب.
وهذا أوانُ الشُّروع في المُراد، بهذا المجموع أبدأ: فالأول في الزمان، وربما قدّمت الأكبر بالمكان، إلا أن يعرض من النِّسيان، ما هو مُوكَّل بالإنسان.
1 / 6
ابن خلصة
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن فتح بن قاسم بن سليمان بن سويد بن خَلصة - بفتح الخاء المعجمة واللام والصاد - اللخمي، من أهل بلنسية، كان أستاذًا في علم اللسان والأدب فصيحًا مفوّهًا حافظًا للغات، أقرأ كتاب سيبويه بدانية وبلنسية، وله يدٌ في النثر، ثمَّ انتقل إلى المريّة وفيها توفي سنة تسع عشرة وخمسمائة، حكى ذلك ابن الصيرفي في تاريخه وقيل سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين " وهو الصحيح ". ومن قوله في أبي العلاء ابن زُهر من قصيدة:
غدَتْ عنك أفواهُ الغيومِ الدوافقِ ... تفيضُ بما تُوري زناد البوارقِ
أنارَتْ جهاتُ الشَّرقِ لمَّا احتللتَه ... فكاد الدُّجى يجلو لنا وجه شارقِ
1 / 7
وكم زفرَتْ شوقًا بلنسِيَةُ المُنى ... إليكَ ولكنْ رُبَّ حسناءَ طالقِ
تقلَّدَ منك الدَّهرُ عقدًا وصارمًا ... بهاءً لجيدٍ أو سناءً لعاتقِ
ولو قُسِمَت أخلاقك الغُرّ في الدنا ... لما صوَّحَت خُضْر الرُّبى والحدائقِ
وله يخاطبه وقد استدعى منه كتابًا:
يا وَزَرًا تُفصحُ اللَّيالي ... بأنه سِرُّهَا اللبابُ
ومَنْ معاليه سافراتٌ ... والشَّمسُ من دونها نقابُ
حددتَ لي فامتثلتُ أمرًا ... ها أنا بالبابِ والكتاب
وينسب إلى خلصة أيضًا: أبو عبد الله الضرير الداني، وليس من شرطنا لتقدم وفاته في آخر المائة الخامسة، ولأنه أيضًا مذكور في كتاب الذخيرة لابن بسام.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن خلصة المعافري الشاطبي أحد الرواة عن أبي عمر ابن عبد البر، وليس بمعدود في الأدباء. وأردت بهذا الانباء والانباه، التفرقةَ بينهم خيفةَ الاشتباه.
1 / 8
ابن أبي الصلت
أبو الصَّلت أُمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، من أهل إشبيلية، وسكن المَهديَّة، واتصل بأميرها يحيى بن تميم المُعزّ الصِّنهاجي، ثمَّ بابنه عليّ بن يحيى، وبعده بالحسن بن علي، آخر ملوكِ الصّنهاجيين بها. وتُوفي صدر ولايته سنة عشرين وخمسمائة، أو بعدها بيسير. وقيل توفي مع أبي عبد الله المازري في سنة ست وثلاثين، والأول أصحّ.
ومن خَبره أنَّه خرج من إشبيلية ابن عشرين سنة، ولزم التعلُّم بمصر
1 / 9
عشرين سنة، ثمَّ أوطن المَهديَّة عشرين سنة. حُدثت بهذا عن أبي عبد الله ابن عبد الخالق الخطيب بها، عن بعض مَن أدركه من شيوخها.
وله تواليف مُفيدة في الطبّ، وهو كان الغالب عليه، وفي الأدب والعروض والتاريخ.
ومن مدائحه في يحيى بن تميم يصف فرسًا له كان يُسمَّى هلالًا لغُرَّةٍ في جبهته هِلالية الشكل:
شهدتُ لقد فات الجيادَ وبَذَّها ... جوادُك هذا من وِرادٍ ومن شُقرِ
جوادٌ تبدَّت بين عينيه غُرَّةٌ ... تُريكَ هلالَ الفطر في غُرة الشهرِ
وما اعتنَّ إلاَّ قلتُ أسأل صاحبي ... بعَيشكَ من أهدى الهلالَ إلى البدرِ
كأنَّ الصَّباحَ الطَّلْقَ قَبَّلَ وَجْهَهُ ... وسالتْ على باقيهِ صافيةُ الخمرِ
كأنَّك منهُ إذ جَذَبْتَ عِنانَهُ ... على منكِبِ الجَوْزاءِ أو مَفْرِق النَّسرِ
كأنَّك إذ أرسلتَه فوق لُجة ... تُدَفِّعها أيدي الرِّياح إلى العبْرِ
تدفّقتُما بحرَين جُودًا وجَودةً ... ومن أعجبِ الأشياءِ بحرٌ على بَحْرِ
وله أيضًا فيه ويصف بعضَ مبانِيه:
قُم يا غلامُ ودَعْ مُخالسةَ الكَرى ... لمُهجِّرٍ يصفُ النّوى ومُغلَّسِ
1 / 10
أو ما رأيت النَّوْرَ يَشرقُ بالنَّدى ... والفجرَ يَنْصُلُ من خضابِ الحِنْدِسِ
والتُّربُ في خَلل الحديقة مُرْتَوٍ ... والغصنُ من حُلَلِ الشَّبيهِ مُكْتَسِ
والرَّوضُ يبرُزُ في قلائدِ لُؤلُؤٍ ... والأرضُ ترفُلُ في غَلائِلِ سُندسِ
لا تَعْدَمُ الألحاظُ كيف تصرَّفَتْ ... وَجَناتِ وَرْدٍ أو لواحظَ نَرْجسِ
وله كلام في المباني السلطانية يصفُها فمن ذلك قوله:
وضَّاحة حلَّتِ الأنوارُ ساحتَها ... فأزمعتْ رحلةً عن أُفقها السُّدُفُ
كأنَّ رَأْدَ الضُّحى مما يُغازلها ... عن الغَزالةِ هيمانٌ بها كَلِفُ
تجمَّعتْ وهي أشتاتٌ محاسنُها ... هذا الغَدير وهذِي الرَّوضةُ الأُنُفُ
يُضاحكُ النُّور فيها النَّوْرَ من كَثَبٍ ... مهما بكتْ للغَواني أعينٌ ذُرُفُ
خُضرٌ خمائلها زُرقٌ جداولها ... فالحُسْنُ مُتلفٌ فيها ومختلفُ
دَوْح وظلٌّ يلذُّ العيشُ بينهما ... هذا يَرِفُّ كما تهوَى وذا يَرِفُ
يَجري النسيمُ على أرجائها دَنِفًا ... ومِلؤه أرَجٌ يشفَى به الدَّنِفُ
حاكَ الربيعُ لها من صوبِهِ حِبَرًا ... كأنَّها الحُلَلُ الأفوافُ والصُّحف
غَريرةٌ من بناتِ الرَّوضِ ناعمةٌ ... يَثني معاطفَها في السُّندس التَّرَف
تَندى أصائلُها صُفرًا غلائلُها ... كأنَّ ماءَ نُضارٍ فوقها يَكِفُ
وله في المَصنع المعروف بأبي فِهر:
نَمت صُعُدًا في جِدَّةٍ غُرفاتُه ... على عَمَدٍ مما استجاد لها الجِدُّ
تَخَيَّلن قاماتٍ وهُنَّ عقائلٌ ... سوى أنَّها لا ناطقاتٌ ولا مُلْدُ
قُدودٌ كساها ضافيَ الحُسن عُرْيُها ... وأمعنَ في تَنعيمها النَّحتُ والقَدُّ
1 / 11
تُذكِّرُ جنَّاتِ الخلودِ حدائقٌ ... زواهرُ لا الزَّهراءُ منها ولا الخُلد
فأسحارُها تُهدي لها الطيبَ مَنْبجٌ ... وآصالُها تُهدي الصَّبا نحوها نجدُ
أنافَ على شُمِّ القُصورِ فلم تَزَلْ ... تَنَهَّدُ وجدًا للقُصور وتَنهدُّ
رَحيبُ المَغاني لا يضيق بوَفْدِهِ ... ولو أنَّ أهلَ الأرضِ كلَّهُمُ وَفد
تلاقَى لديه النَّور والنُّور فانجلتْ ... تفاريقَ عن ساحاتهِ الظُّلَمُ الرُّبد
وسُجن أبو الصلت بمصر، فقال في ذلك:
عَذيريَ من دهرٍ كأنِّي وَترتُه ... بباهِرِ فَضلي فاستقادَ به منِّي
تَعجَّلني بالشَّيبِ قبلَ أوانهِ ... فجرَّعني الدُّرديَّ من أوَّلِ الدَّنّ
وما مرَّ بي كالسّجنِ فيه مُلمَّةٌ ... وشرٌّ من السّجنِ المُصاحَبُ في السّجن
أظُنُّ اللَّيالي مُبْقِياتي لحالةٍ ... تُبدِّلُ فيها حياتي هذه عنِّي
وإلاَّ فما كانتْ لتَبْقَى حُشاشتي ... على طولِ ما ألقى من الضَّيمِ والغَبنِ
وقالوا حديثُ السِّنّ يسْمو إلى العُلا ... كأنَّ العُلا وقفٌ على كِبَرِ السنِّ
وما ضرَّني سنُّ الحَداثة والصِّبا ... إذا لم يَضْفُ خُلْقي إلى النَّقصِ والأفْنِ
فعلْمٌ بلا دَعوى ورأيٌ بلا هوًى ... ووعدٌ بلا خُلْفٍ ومنٌّ بلا مَنِّ
متى صَفَتِ الدُّنيا لحُرٍّ فأبتغي ... بها طيبَ عَيشي أو خُلُوِّي من الحُزْنِ
وهل هي إلاَّ دارُ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... أمضُّ لأحشاءِ اللَّبيبِ من الطَّعنِ
1 / 12
وقال أبو الصَّلت:
تَجري الأُمور على حُكم القَضاء وفي ... طيِّ الحوادِثِ مَحبوبٌ ومكروهُ
فربَّما سَرَّني ما بِتُّ أحذرُهُ ... وربَّما ساءني ما بِتُّ أرجوهُ
1 / 13
ابن البراء التجيبي
أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن البراء التُّجِيبي: من أهل الجزيرة الخضراء، ومعدودٌ في المجيدين من الشعراء، وله ديوان نظم ونثر كبير. فارق وطنه وهو صغير منتزحًا إلى بلاد الصحراء، وممتدحًا من كان بها من الأمراء، وأراه لم يعد إلى ذَراه، كما لم يعدم الحنين إليه في تأويبه وسُراه، فمن شعره في ذلك:
عندي على الخضراءِ دَمْعٌ واكفٌ ... والقلبُ أبرَدُ حَرّهِ الرمضاءُ
أودى ثِقافُ فراقِنَا بقناتنا ... فانآدتِ اليَزَنِيَّةُ السمراءُ
نزحِتْ بيَ الأقدارُ عن دارِ الهوَى ... وقَذَفْنَني حيثُ الفؤادُ هواءُ
فإقامتي ما بينَ أظهرِ معشرٍ ... سيَّان عندهُم الدُّجى وذُكاءُ
وقال أيضًا:
أحنُّ إلى أرضٍ لَبِسْتُ بها الصِّبا ... فعندي لها من أجل ذِكْرِ الصِّبا وجدُ
ومن أجلِ نَصْلِ السَّيفِ أُكرِمَ جَفْنُهُ ... ومن جهَةِ الرّيَّا سما العنبرُ الوردُ
وقال أيضًا:
سقى واكفُ القطرِ الجزيرةَ إنَّني ... إليها وإن جَدَّ الفِراقُ لوامقُ
ديارًا بها فارقتُ عَصرَ شبيبتي ... فيا حبَّذا عَصْرُ الشَّبابِ المفارقُ
1 / 14
شبابٌ شَفَى نفسي وودَّعَ مسرعًا ... كما زار طَيفٌ أو تبوَّجَ بارقُ
قضيتُ به حقَّ الهوَى وأطعتُهُ ... فأيامُهُ في عينِ فكري حدائقُ
وقال أيضًا:
بي جُؤذَرٌ هامَ الفؤادُ بحُبِّهِ ... عُنيتْ لواحظُهُ بقتلِ محبِّهِ
قد أتلفَ المُهَجاتِ بين لَطافَةٍ ... في وجنتيهِ وقسوةٍ في قلبهِ
وإذا رأى المرآةَ هامَ فؤادُهُ ... في حُسْنِ صورتِهِ فرقَّ لصبّه
ولابن البراء في أعرج
أبِنْ لي يا أبا موسى بحالٍ ... بَدَتْ لي منكَ يضحكُ من رآها
تكيلُ الأرضَ باعًا بَعْدَ باعٍ ... كأنَّكَ قد عَزَمتَ على شِراها
وتنبحُكَ الكلابُ بكلِّ أرضٍ ... كأنَّكَ قد طُبِعتَ على أذاها
وقال بالقيروان، وقد بلغه أن أبا الفضل يوسف ابن النحوي ذم خطَّ أهل الأندلس، من قصيدة يقول فيها:
تنسمْ أريجًا لم يَضُعْ من لطائمِ ... وعرِّجْ على ربعٍ لميَّةَ طاسِمِ
ترحلتُ عن أَرضي فأفضتْ بيَ النَّوى ... لأرضِ ذئابٍ في ثيابِ ضراغمِ
فكم فيهمُ من عائبٍ قمرَ الدّجى ... ومستنزرٍ منهلَّ قطْرِ الغمائم
رمى معشري بالذمِّ منطقُ يوسفٍ ... وحُسْنُ الثّريّا مُفْحِمٌ كلَّ ذائم
أبا الفضل لا ترتَبْ بأنَّك من فمي ... سليمُ أفاعٍ لستَ منها بسالمِ
أراكَ سفاهًا عبتَ خطَّ مَعَاشرٍ ... بهمْ تُسْفِرُ الأيَّامُ عن وجهِ باسمِ
فإن يكُ فضلًا ما تشي يدُ كاتبٍ ... فكلُّ العُلا في ما تشي يدُ راقم
1 / 15
وله من قصيدة:
ما خيَّمَ المجدُ إلاَّ في منازلنا ... فليس يَعْدِلنا في الأرضِ من أحدِ
إذا بَلَوْتَ فأخلاقٌ مُهذَّبةٌ ... وإن سألتَ فبذلٌ من فمٍ ويدِ
من كلِّ مكرُمَةٍ فُزنا بأوفَرِها ... حفظُ الجِوارِ لنا والأخذُ بالقَوَدِ
لنا نفوسٌ عن الجاراتِ معرِضَةٌ ... وفي التّقى لأفاعيهنَّ بالرَّصدِ
إن شئتَ من كَلِمِ الأعرابِ أفصحَها ... فخُذْهُ عن والدٍ منَّا وعن وَلَدِ
تَنْبُو حِدادُ الظُّبَا عن غَرْبِ منطقنا ... نبوَّ ظُفرِ الفتَى عن مخلبِ الأسدِ
ومنها في الرّدّ على أبي الفضل إذ ذمَّ أبا عمر ابنَ عبد البرّ:
معتوهُ قسطيلةٍ ينفي رياضتنا ... ومن يُرِدْ قَنَصَ العنقاءِ لم يصدِ
تفيظُ دون مُناها نَفْسُ حاسِدِنا ... وكيف للغَوْرِ يعلو ذِرْوَةَ السَّنَدِ
تعسًا ليوسفَ أنْ مَنَّاهُ خاطرُهُ ... لحاقَنَا وهلِ العرماضُ كالثمدِ
باحَتْ بذمِّ ابن عبد البر قَوْلَتُهُ ... إن الحسودَ على المحسودِ ذو حَرَد
كم يُتْعِبُ النفسَ فيما ليس يبلغُهُ ... والضبعُ يعظمُ عنها كلُّ ذي لِبَدِ
لو حلَّ ساحةَ قومي كان مُطَّرَحًا ... كَبَهْرَجٍ لَحِظَتْهُ عينُ مُنْتَقِدِ
دعوى العلومِ تحلاَّها فأَشبههم ... كما تشابَهَ لفظُ السَّعْدِ والسُّعْدِ
وتوفي أبوه وهو على حاله من الاغتراب والاضطراب، فكتب إلى أخيه مع نثر:
تَبَّتْ يدُ البينِ كم من مهجةٍ عبثتْ ... بها وكم من فؤادٍ وهو مُنْصَدِعُ
دنوُّ رَبْعَكَ أقصى ما أُؤَمِّلُهُ ... لكنْ منالُ الَّذي لم يُقضَ ممتنعُ
1 / 16
وكان أبوه أبو بكر أحدَ شيوخ أبي الفضل عياض، ﵀.
ومما سمعه، قال: أنشدني أبو جعفر ابن الدلال ببلنسية عن أبي الحجاج ابن الشيخ سمعت منه بمالقة عن أبي طاهر السلفي سمعه منه بالإسكندرية، قال: أنشدني الإمام أبو المظفر الأبيوردي لنفسه بهمذان:
وقصائدٍ تحكي الرياضَ أضعتُها ... في باخلٍ ضاعتْ به الأَحسابُ
فإذا تناشدها الرواةُ وأبصروا ال ... ممدوحَ قالوا ساحرٌ كذَّابُ
1 / 17
ابن الطراوة
سليمان بن محمد بن عبد الله أبو الحسين السبائي - بالسين المهملة وبالباء الموحدة - المعروف بابن الطراوة من أهل مالقة. أخذ عن أبي الحجاج الأعلم والأديب أبي بكر المرشاني وأبي مروان ابن سراج، حمل عنهم كتاب سيبويه وكان إمام العربية في عصره وصاحب التواليف المشهورة فيها، وكانت وفاته في رمضان وقيل في شوال سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ومن شعره:
وقائلةٍ أتَهْفو للغواني ... وقد أضحى بمَفْرِقِكِ النَّهارُ
فقلتُ لها حَثَثْتِ على التّصابي ... أحقُّ الخيلِ بالرَّكضِ المعارُ
ومنه في فقهاء مالقة:
إذا رأوا جَملًا يأتي على بُعدٍ ... مَدُّوا إليه جميعًا كفَّ مقتنصِ
1 / 18
إن جئتَهم فارغًا لَزُّوك في قَرَنٍ ... وإن رأوا رشوةٍ أفْتوك بالرُّخَصِ
ومنه وقد خرجوا ليستسقوا على أثر قحط في يوم غامت سماؤه فزال ذلك عند خروجهم:
خرجوا ليستسقوا وقد نَشأتْ ... بحريّةٌ قَمِنٌ بها السحُّ
حتَّى إذا اصطفّوا لدعوتهمْ ... وبدا لأعينهمْ بها نَضْحُ
كُشِفَ الغمامُ إجابةً لهمُ ... فكأنَّما خرجوا ليستصْحوا
هكذا وجدت هذه الأبيات منسوبةً إليه، وقد سبقه إلى معناها أبو عليّ المحسن ابن القاضي أبي القاسم عليّ بن أبي الفهم التنّوخي صاحب كتاب الفرج بعد الشدّة في قوله:
خرجنا لنستسقي بيمنِ دعائه ... وقد كاد هُدْبُ الغيم أن يُلبسَ الأرضا
فلمّا ابتدا يدعو تقشّعتِ السَّما ... فما تمَّ إلاَّ والغمامُ قد ارفضَّا
1 / 19
الأندي
أحمد بن خليل أبو عمرو الأُنْدي - بالنون والدال المهملة - من أهل بلنسية، كان طبيبًا أديبًا شاعرًا صاحبَ افتنانٍ ومقطَّعاتٍ حسان، وهو القائل:
ومَذعورةٍ من حَلْيها قد ذعرتُها ... بسلّةِ مطرورِ الغِرارِ مهنَّدِ
فما وجدَتْ للحَزم إلاَّ التِفاتَةً ... تُرقرِقها ما بين دمع وإثمدِ
حكمتُ على ألحاظها بعضَ حُكمها ... فحسبُكَ منِّي مُعتدٍ غيرُ معتدِ
وله أيضًا:
وهيفاءَ رام الغُصنُ يحكي قوامها ... وقالت لها شمسُ الضُّحى أنتِ أملحُ
يُقِلُّ رداحَ الردفِ منها مخصَّرٌ ... بأضيَقَ من خلخالها يتوشّحُ
تَلاعبُ بالمرآة عُجبًا وإنَّما ... تُلاعب ظبيَ الموتِ في الماءِ يسبحُ
وله في فرس:
ذو غرّةٍ إن مرَّ تحسبهُ ... ريحًا يمرُّ أمامها قَبَسُ
شهمٌ كطبعكَ في الوغى يقظٌ ... سهلٌ كخُلْقِكَ في النَّدى سَلِسُ
وله أيضًا:
بحيث بدتْ خُضْرُ الكتائبِ مقلةً ... تخالُ بها من مُشْرَعاتِ القنا شفرا
وله أيضًا:
ومنزلٍ ما به أنيسٌ ... يلوح للسَّفْرِ فيه نارُ
1 / 20
علَّلتُ طرفي بها بخدٍّ ... دخانها حولَه عذارُ
وله أيضًا:
وغديرٍ رقَّتْ حواشيه حتَّى ... بان في قَعْرهِ الَّذي كان ساخا
وكأنَّ الطيورَ إذ كرعت في ... هـ وعلَّتْ تزُقُّ فيه فِراخا
1 / 21
ابن فرتون
أبو القاسم خلف بن يوسف بن فرتون الأبرش النحوي من أهل شنترين، تجول في بلاد الأندلس وغيرها معلمًا بالعربية، وكان رأسًا في العربية واللغة، حفظ كتاب سيبويه؛ وتوفي بقُرْطُبَة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فمن قوله، أنشدنا أبو الربيع ابن سالم قال أنشدنا أبو القاسم ابن سمجون قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن أبي القاسم بن الأبرش لأبيه:
لقد كنتُ أخشى أنْ تكونَ ملالةً ... فقد وقع الأمرُ الَّذي كنتُ أحذرُ
فلقِّنْ لساني إن لقيتك حجةً ... فعند ارتحالي إن نسيتَ سأذكر
وله بالإنشاد المذكور:
لو لم يكنْ ليَ آباء أَسودُ بهم ... ولم يُثبِّتْ رجالُ العُرْبِ لي شَرفا
ولم أنلْ عند مَلْكِ العصر منزلةً ... لكان في سيبويهِ الفخرُ لي وكفى
1 / 22
وزاد أبو الربيع بيتًا ثالثًا عن ابن حمير بالإنشاد عن ابن الأبرش كذلك:
فكيفَ عِلْمٌ ومجدٌ قد جمعتهُما ... وكلُّ مختلقٍ في مثلِ ذا وَقَفا
وبالإنشاد الأول له:
رأيتُ ثلاثةً تَحكي ثلاثًا ... إذا ما كنتَ في التشبيهِ تنصِفْ
فتاجو النّيلُ منفعةً وحُسنًا ... ومصرٌ شنترينُ وأنت يوسُفْ
وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى، وأنشدنيه:
أصبحَت تُدميرُ مِصْرًا شَبهًا ... وأبو يوسف فيها يوسُفا
ولابن الأبرش يرثي غلامًا وسيمًا غرق، قاله أو تمثل به وهو:
الحمدُ للهِ على كلِّ حالْ ... قد أطفأَ الماءُ سِراجَ الجَمالْ
أطفأهُ ما قد كانَ مَحْيا له ... قد يطفئُ الزيتُ ضياءَ الذُّبالْ
وقد أكثر الشعراء في رثاء الغريق فأجادوا، من ذلك قول أبي القاسم ابن العطار الإشبيلي في بعض الهَوزَنيين ومات غريقًا في نهر طلبيرة عند فتحها:
ولما رأوا أنْ لا مقرَّ لسَيفِهِ ... سوَى هامِهم لاذوا بأجرأ منهمُ
وكان من النَّهر المَعين مُعينُهم ... ومن ثَلَم السدّ الحسامُ المثلّمُ
فيا عجبًا للبحرِ غالتهُ نُطفةٌ ... وللأسَدِ الضّرغامِ أرداه أرقَمُ
1 / 23
العامري النحوي
أبو بكر محمد بن إبراهيم القرشي العامري الخطيب النحوي من أهل شلب، وأصله من مدينة باجة. له ورسم أن يُكتب على قبره:
لئن نفذ القدرُ السَّابقُ ... بموتي كما حكمَ الخالقُ
فقد مات والدُنا آدمٌ ... ومات محمّدٌ الصادقُ
ومات الملوكُ وأشياعُهم ... ولم يبقَ منْ جمعهم ناطقُ
فقُلْ للذي سرَّهُ مهلكي ... تأهَّبْ فإنَّك بي لاحقُ
وللناس فيما يكتبون على القبور كثير مستجاد، من ذلك قول أبي إسحاق ابن خفاجة:
خليليَّ هل من وقفةٍ بتألُّمِ ... على جدثي أو نظرةٍ بترحُّمِ
خليليَّ هل بعد الرَدى من ثنيّةٍ ... وهل بعد بطن الأرض دارُ مخيّمِ
وإنّا حَيينا أو رَدينا لإخْوَةٌ ... فمَنْ مرَّ بي من مسلم فليسلّمِ
وماذا عليه أن يقول مُحيّيًا ... ألا عِمْ صباحًا أو يقول ألا اسلمِ
وفاءً لأشلاءٍ كرُمْنَ على البِلَى ... فعاجَ عليها من رُفاتٍ وأعظُمِ
1 / 24